<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن مجتمع ينزلق نحو الفاشية، ثانية

 

مجتمع ينزلق نحو الفاشية، ثانية:

 

أزمة متجذرة، أزمة مطمورة

 

حمزة الحسن

 

لأول مرة نسمع من سياسي عراقي يصف الأزمة الحالية بأنها " أزمة متجذرة ذات جذور ثقافية وتاريخية لا يمكن لأي سياسي أن يجتازها بتعبير" علي الاديب أو وصف عادل عبد المهدي للأزمة بأنها" مطمورة الان تحت التراب ونحن كسياسيين نقف عليها" ولم يشأ عبد المهدي أن يقول اننا نقف فوق قنبلة لا أحد يعرف متى تنفجر، وبين وصف الأزمة المتجذرة ووصف الازمة المطمورة يتلاشى الفارق الجوهري لأن المتجذر مطمور، لكن هذا الوصف المتأخر الذي تحول عندنا طوال العشرين سنة الماضية الى ما يشبه النشيد الوطني أو البسملة وتحملنا من اجله الكثير من النقد والاحتجاج والصخب واللعن والحرق والدعوات المتكررة للسجن رغم اننا نعيش في بلد تطرف في حقوق الانسان والحريات الفردية الى حدود بعيدة بحيث ان اعتقال انسان بسبب رأي ثقافي أو سياسي نوع من حلب الثيران، نقول هذا الوصف بعد كل مساحة الدم والعذاب الهائلة التي قطعناها والتي في الطريق ألم يكن بالامكان اختزاله مبكرا مجنبين هذا الشعب كل تلك الويلات الماضية والقادمة؟

 

كيف في لحظة صحو مباغتة عرف السياسي العراقي في السلطة ان هذه الازمة ثقافية ذات جذور تاريخية وانها مطمورة تحت التراب؟ هل هي لحظة وعي السياسي الثوري الحالم حين يصطدم بمشروع الدولة ويكتشف ان الحلم في السلطة ليس نفسه في قيادتها؟ مرة قلت لصديق يعاني من فشل ثورته المسلحة في الجبال، قائلا: (انك محظوظ لأن مشروعك فشل، ولم تر حلمك وقد تشوه حين تكون حاكما لأن الحلم والسلطة أمران متناقضان بتعبير البير كامو وتعبير خبرة التاريخ والحياة).

 

هذا الاعتراف العجائبي من سياسيين في قيادة الحكم كان يمكن أن يكون بابا لأفق مختلف ولطريق مختلف ولكنه  يأتي حين تكون الأزمة المتجذرة قد تمؤسست ـ صارت مؤسسات ـ وحين تصبح الازمة المطمورة منهجا وعقلية ودولة وسلاحا وتشريعات، فإن هذا الاعتراف "اللُّقطة" لا يحل أزمة أبدا لأنها مأزق متجذر ومطمور ولا يستطيع العقل السياسي الوصول الى الجذور رغم انه يكتفي بالوصف العام المذكور والخشية بل المحتمل ان هذا الكلام قيل في لقاء ثقافي أو فكري وانه جاء في سياق ترضية لنخبة أو هروب من مشكل واضح لا يمكن نفيه بل يمكن الالتفاف عليه بكونه (متجذر ومطمور) وبعيد المنال ويمتد الى قرون وليس في اليد حيلة والخ.

 

كنا نقول على مدى عقدين إن هذا المأزق دائري تكراري خادع ويتمظهر بشكله السياسي ولكنه فكري عميق الجذور ومطمور في الثقافة وفي التاريخ بل كررنا ذلك في مقالين قبل اسبوع( الركض وراء السراب، ثم في مقال أقرب: التصدع القادم) لوصف هذا المأزق حتى صرنا نملّ التكرار لغياب أي صدى أو لا حياة لمن تنادي كما لو ان هذا المأزق ـ وليس الأزمة ـ المطمور قد طمر وعي النخبة الحاكمة وغيرها وان جذوره الثقافية في الليل التاريخي لا تُرى أو اننا نرى مأزقا شبحيا لا وجود له في الواقع الا في عقولنا المختلة كما جاء في أكثر من وصف أخرق كما لو ان الكاتب حين يرى ما لا يرى غيره يجب أن يكون مختلاً لأن الأصل في عقلية القطيع هو التشابه والتناسخ والتطابق وليس الاختلاف، وهذه العقلية القطيعية التي تعمل على طريقة التفكير الجماعي والاستنتاج الجماعي، الكنسي، الفقهي، أو الثكنات وقواعد السجون، هي جزء من تلك الأزمة ـ الأصح المأزق لأن المأزق دوامة لا تُحل الا بكسر وتغيير الحلقة والبنية والعقلية والاسلوب والنهج وليس الترقيع والاعتراف، وقد نشهد من هذه اللحظة اعترافات متزايدة حول( الجذور) و( المطمور) والعامل الثقافي والتاريخي والمأزق المدفون تحت التراب والخ وهلم جرا: قدمت تجربة المنفى صورا باهرة الوضوح على الطريقة التي تعاملت فيها نماذج مصابة بعطب ثقافي واخلاقي متجذر ومطمور رغم اختلاف النظم السياسية والثقافية المفرطة في الحريات العامة والفردية.

 

عقلية القطيع قد تندفع فجأة نحو مسار واحد عند رفع الحاجز أو الستارة أو الخوف او الايعاز وهنا قد يكون الخطر قد صار أكبر: اذا لم يكن هناك في السابق مثل هذا الاعتراف بوجود أزمة ـ مأزق ـ بجذور ثقافية وتاريخية مطمورة تحت التراب ( ماذا كان يفعل هؤلاء اذن خلال حياتهم السياسية اذا كانوا لا يعرفون الشعب الذي يحكمونه؟) فربما كان الأمل لدى البعض الذين يعرفون هذا الشرخ المعرفي القاتل في أن يتم الوعي به قبل فوات الاوان ان لم يكن قد فات بعد أن" تجذر" أكثر و"طُمر" أكثر وتداخل مع عوامل عقائدية مقدسة جديدة و"دفن" تحت التراب كقنبلة حين تنفجر لا تطلق العابا نارية بل اشلاءً بريئة تحلم الان، لكن بعد الاعتراف الجديد سيكون هذا مدخلا للهروب من الأزمة وليس حلا أو وعيا بالحل أو ربما سيكون باب طوارئ للتملص من عجز السلطة في ادارة مشروعها التاريخي في بناء الدولة والمجتمع وقذف هذا المأزق على ظهر التاريخ والثقافة ويصبح الجميع ابرياءً ومفكرين ومحذرين والمتهم الوحيد هو التاريخ لأنه يخفي أزمة( بمعزل عن وعي النخب الحاكمة؟) أو ان الثقافة تطمر مأزقا بعيد الجذور( هل تعيش الثقافة في متاحف أم في عقول؟) وبالتالي الكل يخرج من وليمة الدم والقنبلة القادمة ابرياء والمطلوب القبض على التاريخ الشبح المتنكر أو الثقافة التي تدفن نفسها كالنعامة في الرمل وليس نحن الملائكة.

 

 في كل الأحوال لا يمكن التقليل من قيمة هذه الاعترافات اذا لم تكن صورة من صور الطمر الحقيقي للمأزق السياسي الحالي الذي كشف عن مأزق أجبر السلطة على الاعتراف به بصرف النظر عن الاسباب، لكن الاعتراف شيء ووعي جوهر المأزق شيء آخر: الاعتراف وحده لا يكشف عن شيء مكشوف ومدون في دراسات ومقالات ونصوص روائية كثيرة، بل ان المرحوم علي الوردي ملّ من الغناء به قبل أكثر من نصف قرن( وعّاظ السلاطين، مهزلة العقل البشري، مثلاً) لكن وعي الأزمة يقتضي شرحها ووصفها وتحديد مفهومها كما ذكرنا في مقال(الركض وراء السراب) وهذا بعيد عن التوقع على يد هذه النخبة الحاكمة لأن الاعتراف بمسؤولية التاريخ والثقافة لا يرتب مسؤولية على أحد، ولكن وصف جوهر الأزمة وتحديد مفهومها يمس طبيعة المؤسسة اليوم وطبيعة القوى التي لا يشكل ظهورها سوى قمة جبل الجليد(وهو تعبير ورد حرفيا في مقال: الركض وراء السراب) ولا تحل أزمة من هذا النوع بالاعتراف وحده ولا بالترقيع وحده بل بمشروع ثقافي فكري وسياسي من خارجها لأن من طبيعة الأزمة ذات( الجذور) و( المطمورة) تحت التراب أنها لا تحل من داخلها بل من خلال عملية تقويض مستمرة طويلة الأمد ومن خلال مشروع ثقافي وفكري ومعرفي واضح لا يقلع جذور الأزمة فحسب بل البناء السياسي المُؤسس عليها وهذا آخر ما يتمناه السياسيون اليوم، بل يخافون منه ومن حسن حظهم انه(بعيد الجذور) و( مطمور) في التراب وليس في الوعي العام والسلوك والثقافة اليومية وفي العقل السياسي وفي القوانين والمؤسسات والدستور والاحزاب.

 

بعض وجوه المأزق القادمة و(المطمورة تحت التراب) والنائمة في (الجذور) ستظهر في السنوات القريبة القادمة(بل قد تظهر في منعطف واثر حادث في وقت غير متوقع) بصورة مهيكلة ومنظمة وان كانت علاماتها قائمة اليوم ودخانها الأسود يلوح واضحا في الأفق: هناك من يدفع المجتمع العراقي نحو الفاشية بأقصى سرعة وخاصة من الاحزاب القومية والعنصرية، وان المجتمع الكردي يُدفع بالقوة بوعي أو عن رعونة أو طيش نحو الفاشية ويجر معه بالقوة المجتمع العراقي برمته  كردات فعل خاصة حين تم وضع المجتمع العراقي كله من قبل هذه الاحزاب القومية والعنصرية تحت رهانات وتحديات تمس صميم وجوده وتاريخه وحاضره وتعرقل بناء مشروع دولة قابلة للحياة والنمو المتدرج، وهذه التحديات( تحديات بلطجية) في منعطف صعب ومصيري ولّدت شعورا عاما بالنفور والسخط والكراهية لدى عموم الشعب العراقي رغم ان وسائل اعلام مشتراة تحاول اخفاء هذه الأزمة والغاء وجودها، لكن هذا النوع من الأزمات لن يظل مدفونا تحت التراب ولا غامضا الى الابد وسينفجر في يوم ما مهما حاول البعض تأجيله أو الهروب منه أو عقد الصفقات لأن هذا النوع من المآزق لا يُحل في التكايا والدواوين وتبويس اللحى والموائد وهذه الاساليب ليست سوى ممارسة المساج لمرض في مراحله الاخيرة.

 

القوى الكردية الحاكمة تقود المجتمع الكردي الى الفاشية والعسكرة والاحتراب ومركزة الاقتصاد والثروة والسلطة والسلاح كملك عائلي، لأن من خواص القوميات الفتية الوليدة المنتصرة والخارجة من قمع طويل ومن اذلال قومي، بتعبير فرانز فانون( مقولة فانون قبل ظهور الفاشية والنازية بسنوات قلائل: نكررها للدرس) ما لم تنعطف في لحظة نصرها، حالا، نحو البناء المؤسساتي والديمقراطية، ستنحدر نحو الفاشية، حتماً: الضحية حين تنتقل الى سلطة، تمارس اساليب جلادها الاول، بسبب عقدة الشعور بالدونية والذل، بدقة وحرفية ومهارة بل تتفوق عليه في الخسة والدم، والذين يدفعون بالمجتمع الكردي اليوم نحو هذا الوعي المحارب والمدمر ونزعة الانتقام ، لا يعرفون، عن جهل وزهو وبلادة، ان هذه العملية تُعرف في تجارب التاريخ بحفر القبر الذي يتسع للجميع.

hamzaalhassan@hotmail.no

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               مقالة للكاتب والروائي العراقي حمزة الحسن

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا