%@ Language=JavaScript %>
بيت الديكتاتور:
ثلاث حالات طرد من السلطة
احد قصور الدكتاتور العراقي السابق
حمزة الحسن
هل يشبه بيت الديكتاتور أي بيت آخر أم أنه يأخذ صورة النزيل والساكن والمالك؟ وهل يتحول من منزل للأشياء الحميمة، الصور والهدايا والنياشين والذكريات، الى مقر للسلطة؟ بصرف النظر عن طبيعة الديكتاتور الخاصة الا انه في كل الاحوال يظل بشراً أو يحمل بقايا بشرية تنقرض بهدوء وسرية وتضمحل صورته القديمة عن نفسه لأن الصورة القديمة، صورة الطفل البرئ أو الشاب الوديع، هوية متلاشية، او ذكرى يحب أن تُنسى. الشر لا يكره المرايا.
في كل الأحوال وعلى اختلاف طبائع هؤلاء الحكام المتسلطين والذين يكونون عادة قادمين من مناخ تسلطي قمعي صارم، وبيئة متقشفة تقاوم البوح والوضوح وتعلي من شأن الكتمان والحرن والعناد ـ العلامة التجارية الأشهر لعقدة الشعور بالعارـ والجسارة في شكلها الجسدي وليست مغامرة الوعي والخيال، الا انهم يؤثثون بيوتهم على صورهم الداخلية: أي يتحول المنزل ـ المكان الى سلطة، وتتحول الاشياء الى اطار وديكور وتفقد طابعها الحميمي والعاطفي لان السلطة مفرغة من العاطفة ومعبأة بشهوة الحكم وهي شهوة آسرة قد تجعل الديكتاتور قليل الهمة في السرير لأن الطاقة الانسانية الجنسية مفرغة في مكان آخر وفي انحراف في الهوية بعد افراغ الرغبة من الهدف والمحتوى والطبيعة.
يفسر هذا طلب زوجة زين العابدين بن علي من الطباخة بإعداد أطعمة تساعد على تصعيد قدرات الرئيس الجنسية وليست العقلية لأن هذا التصعيد الجنسي يساهم في نقل السلطة الحقيقية من القصر الى السرير حيث تصبح القيادة شراكة أو سيطرة وحتى نزع صلاحيات أمام اغواءات جسد ثري وحاكم غبي ومحتقر يعثر في هذا الاغواء العاري ما يفتقده في المكان العمومي: ان اغواء سرير الديكتاتور يعني عقم النساء والرجال النفسي والروحي وفي بعض الحالات عضوي، وغناه المالي يعني فقرهم، وقصوره تعني بؤس بيوتهم.
لكي يكون قصر أو بيت الديكتاتور آمناً، يجب أن يكون محمياً ليس من الداخل، لأنه مكان مغلق على الفضاء العمومي، ومفتوح على الخيال الأسري، بل من الخارج، اي من المكان الذي يأتي منه الخطر الحقيقي وهو الشارع أو بيوت الجماهير، لكنه في وقت متأخر جدا يكتشف ان الخطر الحقيقي هو في المكان المغلق.
مكان الديكتاتور، في الظاهر، لا يختلف من حيث العلاقة مع الاشياء والذكريات مع أي مكان ـ منزل آخر، وأهم شرط فيه توفر الثقة" هل كان العصفور يبني بيتا لو لم يكن يملك غريزة الثقة بالعالم؟" بتعبير باشلار في كتاب" جماليات المكان" لكن ثقة الديكتاتور لا تنبع من غريزة عصفور باشلار السوي والطبيعي، ولكنها ثقة تنبع من الاسوار والكاميرات والحراس والخ.
هذه الحصون القوية تكشف عن هشاشة تقترب من الفضيحة في لحظات الثورة، وبهذا المعنى يكون العصفور أكثر ذكاءً من الديكتاتور وثقته بالعالم حتى لو وقع يوما في مصيدة طيور، لأن العطب ليس في غريزة العصفور ولكن في مهارة الصياد.
ثلاث حالات خروج أو هروب من قصر رئاسي ـ بيت ـ تلفت الانتباه تشابهت فيها ردود افعال حكام طغاة شرسين تتفاوت شراستهم وساديتهم وعقدهم العميقة ونزوات الانتقام ايضا:
الحالة الاولى: حالة الديكتاتور العراقي الذي هرب من القصر لكنه لم يتمكن من الابتعاد عنه كثيرا، فحفر حفرة أمام أحد قصوره الرئاسية في تكريت حيث يستطيع من المخبأ رؤية مصابيح القصر مضاءة في الليل. لم يكن القصر فارغا بل يسكنه غزاة وهذا هلاك مضاعف.
الحالة الثانية: حالة الديكتاتور التونسي الذي حين هرب من القصر ـ البيت، تردد في صعود الطائرة لولا دفع زوجته له قائلة" اصعد يا غبي" بشهادة الحراس، ورد عليها قائلا بضعف وتهالك" أرجوك، ليلي، أنا متعب، ليس هذا هو الوقت المناسب":هو فعلا ليس الوقت المناسب لأن تلقائية عبارتها واسلوب رده الهادئ يؤكد أنها عبارة كثيرا ما سمعها في السرير يوم كان السرير سلطة، لكنه ظل طوال الرحلة يطلب من قائد الطائرة اعادته الى القصر ـ البيت، لأن الخروج من القصر، الرحم، الحماية، نزع عنه القوة والميزة وقذف به عاريا في الفضاء العام، مكان الخطر، وهو ليس قصرا فحسب بل سلطة ايضا.
الحالة الثالثة: حالة الديكتاتور المصري وهي اكثر حالات طاغية تشبثا بالمكان. حين غادر القصر الرئاسي في القاهرة، نزل في منزل مرفه في شرم الشيخ: لم يغير مضمون المكان بل غير الوجهة(المضمون سلطة ولو صارت سلطة وهم). القصر الرئاسي رمز السلطة ليس هو الفيلاّ لكن هذه تحافظ في خلق الوهم وادامته لكي لا يتحول الخروج من السلطة الى اقتلاع جذور، خسارة، هزيمة.
هذا التشبث ليس بدافع الحنين للمكان والعلاقة معه بعد أن أُفرغ من السلطة والمعنى، لكنه بدافع الغطرسة لكي لا يكون الخروج من السلطة نفياً وعاراً. ربما لكي لا يكون هذا الطرد من السلطة حقيقيا في مكان جديد أو في منفى لأن طبيعة الوهم التناسل والاستمرارية.
قيمة مكان الديكتاتور لا تنبع من الذاكرة والشعر والحنين والالفة او الغريزة والارتباط مع المنزل أو القصر، ولكن تنبع من خوف مضاعف بعد فقدان السلطة في الحاضر وهو الخشية العميقة من فقدانها في التاريخ القادم، لأن هؤلاء نتيجة تحوير ـ تشويه عضوي في الهوية الفردية وانحراف أو عطب بنيوي في التفكير، لا يكتفون بحجز مساحة المكان في الحاضر، بل حجز المستقبل. الى اين المفر؟
يُفسر هذا رغبة الديكتاتور المصري في كتابة سيرته بعد الطرد، وهو ما فعله الديكتاتور العراقي في زنزانته، وهو ما سيفعله الديكتاتور التونسي في المنفى بعد أن انتهى فضاء السلطة والسرير والطعام المقوي للقدرات.
قد يكون أشباه هؤلاء سيشرعون في كتابتها وهم في السلطة لأن الوقت لا يسعفهم، دائماً، في السيطرة على مكان ولا زمان لم يفهموه بغريزة عصفور.
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
|
لا للأحتلال |
|
---|
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا |
|
---|