<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن عبد اللطيف على قائمة الاغتيالات
 

 

في ذكرى وفاته الخامسة:

 

عبد اللطيف على قائمة الاغتيالات

 

 

 

 حمزة الحسن

 

تمر هذه الايام الذكرى الخامسة لوفاة الشاعر الشريد عبد اللطيف الراشد(15/12/2005) مرور جنازة الغريب ومرور عرس اليتيم حيث يغيب القمر ولم تصدر مرثية واحدة أو ذكرى كما لو ان المرحوم قد استهلك اغراضه كما استهلك التشرد جسده أو ربما يعود هذا "السهو" الى ان المرحوم لم يكن حياً لكي يؤبن في موته، أو لأن الموت صار القاعدة والحياة استثناءً، ومن المحتمل ان أحداً لا يتذكر على وجه الدقة متى مات كما لم يتذكر أحد يوما متى عاش: فحياة وموت عبد اللطيف من المتشابهات.

 

لكن ما يلفت النظر حقا هو البيان الذي وزع على بعض المنابر يوم أمس ووصلتنا نسخة خاصة منه في البريد الالكتروني الذي يتضمن قائمة جديدة لاغتيالات قادمة لعشرات من الكتاب والمثقفين والفنانين ومن بينهم عبد اللطيف الراشد. ومع اننا نرجح ان هذه القائمة منشورة لأغراض سياسية( تحذير؟ أم مصادفة؟ وفي وقت واحد؟) لكن وجود اسم  عبد اللطيف الراشد فيها هو الجانب الوحيد الحقيقي الذي يسترعي الانتباه ومن يدري قد يستدعي البكاء وغيره، لأنه مرفوض، حيّاً، ومطلوب ميّتاً، أو انه مطلوب حيًّا لكي يُقتل، كما لو ان قتل الاحياء ليس كافيا، فجاء دور الموتى. اليس غريبا ان أحداً لا يتذكر سنوية عبد اللطيف، من بين كل الأصدقاء، غير قاتل سواء كانت القائمة ملفقة أو حقيقية؟

 

كون عبد اللطيف على قائمة الاغتيالات في ذكرى وفاته الخامسة يدفع الخيال الى ما هو ابعد من ذلك، اي ابعد من هذا الواقع، اذا كان هذا هو الواقع العراقي الحقيقي وليس نوعا من الخيال لان الواقع حين يصبح على هذه الدرجة من الغرابة والانحراف واللاواقعية يصبح أكثر غرابة من الخيال نفسه: هل واضع اسم عبد اللطيف لا يعرف ان المرحوم مات منذ خمس سنوات في يوم منع تجول ومطر وغزو...؟ أم ان هذه واحدة من حيل المتماوت عبد اللطيف الراشد نفسه الذي ادعى الموت، أو تقمص الموت، حين صار لعب دور الكائن الحي مستحيلا؟ وبصرف النظر عن مصداقية هذه القائمة وغيرها من قوائم الموت الكثيرة خاصة وان احزابا وعصابات وشرائح ومخابرات توجد في خزائنها قوائم موت حقيقية، لكن توقيت نشر هذه الوثيقة وذكر الراشد الحي أو الميت أو المتماوت مع المشاريع الثقافية الجديدة التي طالعتنا بها المنابر هذه الايام هو ما يمكن أن يحمل طابع المفارقة. المفارقة هنا ليست المصادفة المضحكة بل التناقض بين الصور والوقائع.

 

هناك مشروع برلمان ثقافي عراقي، حسب قائمة الدكتور تيسير الآلوسي الذي لا يظهر في الواجهة كالعادة ويصنف المثقفين والكتاب حسب موقفهم من الاحتلال بين صاحب منجز وبين من لا يملكه( في الحقيقة: بين رافض للاحتلال وبين موافق وداعم) مطروح للعمل يستهدف تعليم السياسيين العراقين قواعد واصول الديمقراطية وفي مسودة المشروع مطالبة صريحة بل جريئة بتوفير طائرات  لنقل المثقفين من الخارج الى الداخل وتوفير السكن اللائق لهم والحماية وبالطبع مخصصات السفر والاقامة خلال تواجدهم في بلدهم وبين أهلهم ويستتبع ذلك سيارات نقل خاصة مجهزة تليق بمثقفين قادمين من اوروبا وحراسة مشددة لهم من الارهابيين والمتطرفين والخاطفين خلال فترة تجوالهم في شوارعهم القديمة لكي لا يقع احدهم في موقف صعب على يد مصاصي الدماء من امثال شخصيات الروائية الامريكية ستيفاني ماير في سلسلتها الروائية المدهشة(الشفق) أو في مطب طريق أو حفرة مجاري أو في مطب حوار ثقافي ديمقراطي على  طريقتنا هنا مع مثقف يصنف على انه من مثقفي الداخل يحاوره على هذا الدلال المفرط والنعومة الاستثنائية في حين يخرج هو كل صباح الى العمل او المقهى المجاور أو سلم المنزل لشراء الخبز بعد ان يكتب وصيته.

 

من يدري في هذا الواقع المتخيل أو الخيال الواقعي ان يكون هذا المثقف أو الكاتب هو المتماوت عبد اللطيف الراشد بطبعة جديدة محسنة بعد ان فرّ من المقبرة أو التابوت ودفن مشيعيه وعاد الى التجوال في شوارعه القديمة وقد حصل على قطع غيار جديدة لجسده كما طلب في واحدة من الرسائل. سواء كان هذا هو عبد اللطيف أو أي عبد اللطيف آخر في الوضع نفسه أو قريبا منه كيف نستطيع تفسير مطالبة البرلمان العراقي الثقافي للسلطة بتوفير كل هذه الضمانات من أجل تثقيف برلمانيين سياسيين من صنف الأبالسة على قواعد واصول الديمقراطية وتعليمهم قواعد العمل الجماهيري والتخلص من الامتيازات المالية والحمايات والطائرات المحجوزة سلفا ومن الاقامة في فنادق راقية حسب التعبير الابله اذا كان المثقفون الزوار قد طالبوا بها سلفا بل بأكثر منها قبل أن تحط اقدامهم على أرض الوطن أو ما يمكن أن يكون كذلك؟

 

لذلك لا اتصور ان وضع الشريد عبد اللطيف الراشد على قائمة الاغتيالات في ذكرى وفاته الخامسة أو ذكرى تنكره الخامس أو زعمه الوفاة أو تقمصه الموت أو لعبته الاخيرة، هو أمر من قبيل المصادفة، والمصادفة لا تعني غياب السببية بل تعني في حالات كثيرة احتجابها وتنكرها تماما كتنكر الحياة لعبد اللطيف وفشله في الانتماء الى عالم الاحياء فقرر، حسب بيان الاغتيالات، الانتماء الى الموت، وهو الانتماء الوحيد الذي لا يرفض الراشد ولا غيره: هل هناك مقبرة رفضت ميتاً؟ أو مركز شرطة طرد سجيناً بسبب الازدحام؟ المفارقة ايضا ان قائمة الاغتيال المنشورة تتضمن نصف اعضاء قائمة الدكتور الآلوسي وتصنفهم كأعوان للنظام السابق، ولا ندري ما هي قائمة الاغتيال الحقيقية للمثقف العراقي الوطني المستقل؟

 

لكن لماذا هذه المصادفة بين ذكرى موت الراشد والاغتيال بحجة ارتباطه بالنظام السابق وهي نكتة كانت ستجعل الراشد لو كان ميتا حقا يخرج من قبره غارقا في الضحك والصدمة والسخرية، وبين مشروع البرلمان الثقافي الجديد؟ قد لا يكون الراشد هو المثال الوحيد وقطعا ليس الوحيد لمعاناة المثقف العراقي داخل وخارج العراق خلال نصف قرن من اليوم لأن المثقفين القتلى بالرصاص أو المنفى داخل بيوتهم او القتلى بالحنين والعوز والسجون الاجنبية وعبور الحدود والمنافي والمخاطر لا حصر لهم ومعاناتهم مستمرة وكثيرون منهم اعتبروا هذا الالم وهذه الضريبة كثمن مدفوع من خياراتهم الشخصية والسياسية والانسانية مثل كل مثقفي وكتاب العالم في الازمنة الصعبة، لكن طرح مشروع البرلمان الثقافي العراقي بالصيغة المعروفة والشروط المعروفة قد يكون اغتيالا ليس لجسد المثقف فحسب بل لدور ووظيفة المثقف عبر التاريخ، ولو جاء اسم عبد اللطيف الراشد في قائمة الاسماء المذكورة في مشروع البرلمان الثقافي، لأمكن القول ان هذا الاغتيال حقيقي.

 

مع الاحترام للمثقفين في البرلمان الثقافي( بعضهم لعب ويلعب أدواراً معروفة في حروبه ضد المثقفين المعادين للاحتلال وهذا هو منجزه الوحيد) من اصحاب النوايا الطيبة ممن يعتقدون بل يؤمنون بان السلطة  ـ اي سلطة ـ يمكن بالنصيحة والموعظة الحسنة والخطاب داخل برلمانها كما يقترح المشروع صراحة، يمكن أن تعدل من النهج والعقلية والذهنية والتصور والافكار وتتحول بعد الخطاب الى سلطة ديمقراطية حقيقية، لكن هذا التصور يعكس فداحة عقلية المثقف السياسي المشاريجي الوطنجي الثورجي، المثقف صاحب المشاريع المعروفة في كل مراحل هذا البلد، المثقف الذي تصدمه الجماهير في كل منعطف في افكارها ورغباتها ووعيها ومزاجها ليس لأنها جماهير جديدة عليه ولكن لأنه هو، هذا المثقف، لم يكن يعرفها لأنه سواء داخل وخارج الوطن كان يعيش في وطن النصوص، البديل عن وطن التراب والناس والحاجات والحقائق الصلبة.

 

هذا المثقف المغترب يعاني من غربتين ونفيين: الاول: ـ غربة المكان والزمان ـ والثاني: وهو الأخطر غربة الوعي أو الاغتراب النفسي وهو ليس الاغتراب بالمعنى الاقتصادي وان كان ليس بعيدا عنه ولكنه اغتراب من نوع نفسي وروحي ونصوصي: اي ان نفيا اراديا بوعي او بلا وعي يدخل في نسيج هذا الاغتراب وهذا الانفصام. هذا الانفصام ليس هو المسافة الضرورية للرؤية الاوضح كما هو انفصام الكاتب والمثقف الذي يرفض الاندماج لانه قطيع، ولكنه الانفصام الناتج عن العمى المعرفي الذي يتخيل جمهوراً على صورته وساسة على صورته ووطنا فصّل على مقاسه وطبقة سياسية حاكمة او معارضة يمكن بالحوار والنصح والوعظ أن تكون على غير ما هي عليه الان.

 

لا يتطلب الأمر سوى بطاقات سفر مدفوعة من السلطة وحماية واقامة وحراسة وجو هادئ، لكي يهبط المثقفون من الطائرات الى البرلمان لتعليم زعماء البلد قواعد الديمقراطية، كما لو كان هؤلاء الزعماء لا يقودون احزاباً ومنظمات وبعضها مسلحة حتى الاسنان بل يعيشون في روضة أو اصلاحية أو في مصح عقلي  في انتظار مواعظ طيبة وينتهي الامر. متى، أيضا، كان الابداع الحقيقي يشترط وجود مؤسسة وزارية او غيرها لكي يقوم الكاتب والمثقف والفنان بوظيفته الابداعية، وهؤلاء شكلوا وفي حالات فردية وكأفراد سلطة أكبر من السلطة السياسية، ولا يتسع المقام للقول الموسع بأن المعرفة لا تنتج داخل مؤسسة بل على الضد منها لأن الفكر والمؤسسة أمران متناقضان والخطيئة الكبيرة هي مأسسة الفكر ولا نحتاج الى التذكير كيف تم تشويه وتخريب انبل الافكار عبر تحويلها الى مؤسسات في العراق وفي دول العالم.

 

كيف يستطيع هؤلاء اقناع البرلمان السياسي بالتضحية من اجل الناس واعلاء شرف المنصب على الرغبات الشخصية والتسامى وترسيخ فكرة العطاء بلا مقابل اذا كان بيانهم الاول يتضمن توفير كل شيء من بطاقات سفر الى نفقات الاقامة والسكن والحماية والخ وهلم جرا؟ ثم اين هو الاحتلال في مشروع البرلمان الثقافي؟ هناك فكرة غير قابلة للتصديق في هذا المشروع وهي: اذا كان صاحب صياغة المشروع أو اصحابه على هذه الدرجة من القناعة والاندماج والثقة بالسلطة الحاكمة بحيث يطالبونها بكل تلك المطالب ـ السفر، والاقامة، والحماية  الخ ـ فما هو معنى الحديث عن مثقف بديل؟ لأن هذه الصياغة ليست بعيدة عن مؤسسة حكم بل هي في عمقها وفي تفكيرها. ومن الواضح جدا ان بيان المشروع لا يريد أكثر من وزارة ثقافة بلا محاصصة( ولا يحتج على هيكلية  سياسية منظمة) كما لو ان هذه الوزارة ستحكمها الملائكة.

 

ألا تحتاج  هذه الوزارة الى نظام ديمقراطي يشكل ضمانة؟ وطبقة سياسية بتقاليد مستقرة واعراف؟ ومحكمة عليا تحمي الحقوق الفردية والخاصة؟ وضمانات صحية ومالية وقانونية اجتماعية؟ ونظام سياسي معافى وواضح ومستقر وحقوق اقتصادية ومعيشية مسجلة في قوانين تحمي المثقفين والعلماء والمنتجين المعرفيين والكتاب؟ والاهم من كل ذلك شعب يعيش في كرامة وسيادة وعدالة بمستوى معقول لكي يشكل شبكة وقائية للمثقف وداعما ومستهلكا للمنتوج الثقافي؟ من المعروف ان مثقفي العالم عبر التاريخ يطالبون بحياة كريمة لشعوبهم،اولا، ويضحون من اجل ذلك، فكيف يمكن فهم مطالب هؤلاء قبل السفر؟ وماذا يريدون بعد السفر؟

 

لكل هذه الاسباب وغيرها ادعو اعضاء البرلمان الثقافي أن يضعوا في جدول اعمالهم خلال زيارتهم المرتقبة للعراق(التي لن تتم أبداً) زيارة قبر المدعو عبد اللطيف الراشد ليس لوضع باقة زهور عليه بل للتأكد فعلاً هل هو موجود فيه أم هرب منه للتسكع في الفنادق الكبرى وهي عادته خلال المؤتمرات الثقافية والادبية فرصته الثمينة في الطعام والمأوى، وربما تكون حكاية موت عبد اللطيف واحدة من حيل المثقف العراقي الذي لا يستطيع العيش مع سلطة ولكنه لا يستطيع العيش بدونها ايضا لأنها تمتلك الدولة وهي مؤسسة خدمات، ومن يدري قد يكون واضع قائمة الاغتيالات قد رآى عبد اللطيف، حيّاً، يرزق، متنكراً: لا تستقيم المدينة في التقليد البابلي العريق الا بكبشي فداء واحد للذبح الطقسي والآخر للطرد في البرية  يحمل خطايا الاخرين لكي يتحقق الفردوس الارضي وتدخل المدينة ربيعها المبكر بلا انواع التصحر حتى لو كانت تحت سيطرة حراس النوايا.

hamzaalhassan@hotmail.no

 

أنظر أيضا للكاتب  :

عذرية الوقاحة:

عبد اللطيف وزمن القتلة

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               مقالى للكاتب والروائي العراقي حمزة الحسن

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا