<%@ Language=JavaScript %> د.عدنان عويّد ثورات الربيع العربي بين مطرقة الآيديولوجيا وسندان الواقع
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

ثورات الربيع العربي

 

 بين مطرقة الآيديولوجيا وسندان الواقع

 


 د.عدنان عويّد


 جميل ومفرح ما شهدته الساحة العربية من حراك شعبي نحو الحرية والديمقراطية, فهذا الحراك بالذات, هو قفزة نوعية في بنية الواقع العربي باتجاهيه المادي والفكري التي أفرزتها طبيعة التحولات الاقتصادية
 والاجتماعية والسياسية والثقافية تحت مظلة النظام العالمي الجديد بكل ما يحمل هذا النظام من سمات وخصائص ايجابية وسلبية فرضت نفسها على طبيعة تفكيرنا وحياتنا, حيث كان لطبيعة المجتمع الاستهلاكي والثورة المعلوماتية, والأزمات الاقتصادية العالمية واستمرارية الأنظمة "التوتاليرية " الشمولية, الدور الكبير والفاعل فيها.
بيد أن المؤسف في هذه التحولات هو عدم مقدرة حواملها الاجتماعية في الساحة العربية الإدراك أو الوعي, بأن للتحولات الموضوعية والذاتية في أي مجتمع من المجتمعات قوانين سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين الخاصة بها, وبالتالي سقفها الذي لا يمكن لهذه الحوامل الاجتماعية أن تتجاوز معطياته في مرحلة تاريخية محددة. فإن هي تجاوزت في حراكها العملي والفكري معطيات أو ظروف الواقع المعاش, وقعت في مطب الشعاريّة والآيديولوجيا الصنميّة التبريرية من جهة, أو السعي للبحث عن حوامل اجتماعية أخرى من
 الخارج لديها القدرة على تطبيق هذه الشعارات والأفكار الأيديولوجية بعيداً عن حواملها الاجتماعية الوطنية, وهنا تحدث الفوضى والدمار لبنية الدولة والمجتمع معاَ, ويستبدل الظلم والاستبداد اللذان جاء الحراك
 الجماهيري من اجل القضاء عليهما, بظلم واستبداد آخرين أشد قسوة وقهراً من السابق, وهو ظلم وقهر المستعمر. وهذا ما حدث في العراق, وسيحدث لا محال في ليبيا.
 أمام هذه المعطيات المنهجية دعونا نقف هنا عند مقولة لماركس تقول: (إن الإنسانية لا تحدد لنفسها إلا مهمات يمكن حلها, ذلك لأنها ستجد دائماً عند رؤية الأمور عن كثب, أن المهمة ذاتها لا تظهر إلا هناك حيث
 تتوفر الشروط المادية لها, أو حيث تكون على الأقل على أهبة التوفر.".
 هذه المقولة بما تحمل من قوة منطقية وعلمية, تدفعني لتأكيد صحتها بالعودة إلى تجارب التاريخ الإنساني.
 (في عام /1614/ أيام الملك القاصر "لويس الثالث عشر" ملك فرنسا, وهي
 المرحلة التاريخية التي بدأت تتشكل فيها العلاقات الإنتاجية الرأسمالية,
 وتظهر الطبقة الرأسمالية التجارية "المركانتيلية" و"المانيفاكتورية",
 كمشروع طبقة ثورية تسعى لوعي ذاتها وإمكاناتها كقوة اجتماعية تطمح في
 الوصول إلى السلطة وتحقيق مجتمع الحرية والعدالة والمساواة وإلغاء النظام
 الاستبدادي السائد آنذاك, ممثلاً بسلطات الملك والكنيسة والنبلاء, ففي
 تلك الفترة استطاعت هذه الطبقة وبمساعدة الملك الذي كان يرغب بمساعدتها
 كي تقف معه ضد سلطتي النبلاء والكنيسة, أن تحقق أول إنجاز تاريخي لها في
 فرنسا عندما أوصل الملك بعض أفرادها إلى البرلمان كممثلين لطموحات طبقتهم
 المضطهدة , ومع أول جلسات ذاك البرلمان, راح هؤلاء النواب البرجوازيون
 يطالبون بضرورة تطبيق حرية الانتخابات, وزيادة عدد ممثليهم في البرلمان,
 وبضرورة اجتماع النواب كلهم في هيئة واحدة, وكذلك التصويت على مستوى
 الأفراد لا الطبقة, مثلما طالبوا بدستور وطني يقيد السلطة المطلقة منبع
 الشرور. وفي الجلسة الأولى للبرلمان وقف أحد النواب البرجوازيين يخاطب
 البرلمانيين قائلاً: ( نحن أبناء أسرة واحدة), فكانت آنذاك الطامة
 الكبرى, حيث وقف أحد النبلاء ليرقص عصاه على رأس ذاك النائب البرجوازي
 جزاءً على تماديه أمام أسياده, يومها فضت الجلسة , وفي اليوم التالي
 عندما عاد النواب البرجوازيون إلى مقر البرلمان وجدوا القاعة مغلقة, وعند
 سؤالهم عن السبب, قال لهم قيّم القاعة: (إن القصر بحاجة لها لحفلة
 راقصة).
 إذن إن الشعارات أو المهام التي تبناها نواب الطبقة البرجوازية في
 برلمان /1614/ لم تكن على ما يبدو قد توفرت شروط تحقيقها الموضوعية
 والذاتية آنذاك, وهذا ما جعل طبقتي النبلاء والكنيسة يقفان حجر عثرة أمام
 الطموحات السياسية لهذه الطبقة الوليدة حتى عام /1789/ , أي لمدة /179/
 عاما. ومنذ عام /1614 حتى 1789/, كانت فرنسا قد مرت بتطور كبير في بنيتها
 الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية, حيث ُخلق حراك اقتصادي
 واجتماعي جديدان, كان من أبرز ملامحه تشكل طبقتي البرجوازية والعمالية -
 الثالثة والرابعة - ولم تعد الطبقة البرجوازية التي وصلت إلى مرحلة وعي
 الذات تعبر عن طموحاتها وحدها فحسب, بل وطموحات الطبقة العماليّة شريكتها
 في الإنتاج, الأمر الذي جعل البرجوازية ومن يمثلها من المثقفين ( فولتير,
 مونتسيكيو, وروسو, وغيرهم من الموسوعيين والفيزيوقراطيين), أن تعيد طرح
 شعاراتها السابقة عبر نوابها في برلمان عام /1789/, الذين وصلوا عن طريق
 انتخابهم شعبياً, إضافة إلى شعارات الحرية والعدالة والمساواة التي شكلت
 العمود الفقري الفكري للثورة الفرنسية, يومها حدث هرج ومرج في قاعة
 البرلمان, فأراد الملك أن يفض المجلس إلا أنه لم يفلح, حيث وقف " ميرابو"
 في /23 حزيران/ من العام ذاته ليقول للملك وطبقتي النبلاء والكنيسة
 عبارته الشهيرة: ( نحن هنا بإرادة الشعب, ولن نخرج إلا على أسنّة
 الرماح). وفي السابع والعشرين من حزيران أقر الملك جميع مطالب الطبقة
 الوسطى, وفي الرابع عشر من تموز من العام ذاته خرجت الجماهير إلى الشارع
 وهي ترفع شعارات الثورة الفرنسية, عندها دخل أحد النبلاء إلى الملك "
 لويس السادس عشر" يصرخ بأعلى صوته: ( إنه العصيان), فأجابه الملك: ( بل
 قل إنها الثورة). فكان الرابع عشر من تموز حداً فاصلاً انتهى عنده النظام
 القديم ليبدأ نظام جديد.
 أمام هذا المثال التاريخي الدال على طبيعة الثورات وتحولاتها,
 وإمكانية تحقيقها, دعونا نقف أيضاً عند بعض المواقف الفكرية لكتاب
 ومفكرين عرب نهضويين سبقنا بعضهم بقرن ونيف من الزمن, وكانوا على درجة
 عالية من الموضوعية والقدرة على تحليل الواقع والتنظير له ثورياً . فهذا
 "رئيف ألخوري" يكتب عن الفكر الثوري السياسي والاجتماعي الذي يمكن أن
 يتحول إلى قوة مادية تصنع الثورة بعد أن تتوفر له شروطه, مستلهماً
 المعطيات الموضوعية والذاتية للثورة الفرنسية يقول: ( إن روسو اشترك في
 تهيئة الثورة الفرنسية ولا ريب, ولكن اشتراكه فيها كان ممكناً لأن فكره
 وافق مطامح الأمة الفرنسية إذ ذاك, صح أن يكون فكره مرشداً وسلاحاً
 نظرياً في ثورتها, بيد أن مطمح الأمة الفرنسية إذ ذاك لم يوجده روسو,
 ولكن ما أوجده هو التطور التاريخي الذي قوى الطبقة الثالثة ودفعها إلى
 طليعة المجتمع نفوذاً وأهمية,... بل لنقل: إن فكر روسو نفسه لم يكن إلا
 ثمرة من ثمرات هذا التطور التاريخ, ومظهر من مظاهر تلك الطموحات التي
 تحركت في أعماق الأمة الفرنسية في القرن السادس عشر. ) .
 وهذا "شبلي شميل" يقارن بين ثورة /1908/ في تركيا, والثورة الفرنسية
 حيث يقول: ( فثورتنا حتى الآن عسكرية, اقتصرنا فيها التغيير على صورة
 الهيئة الحاكمة, فلم تغير شيئاً من أخلاقنا, ولم تصل إلى علومنا
 وصناعاتنا ... بينما الثورة الفرنسية فقد كانت موافقة لميل الشعب وناشئة
 عن استعداده.). أما "أديب اسحق" فيقول عن الثورة الحق : ( إن الثورة الحق
 هي التي تستطيع بعد امتلاكها ( لشروط قيامها), أن تحقق استقراراً للحرية,
 وتثبيتاً للجامعة الوطنية, واستتباباً لوحدة الحقوق, وانتشاراً للعمران
 والرفاه, أما ثورة الشرق فلن تنال ما نالت تلك الثورات الحقيقية.) والسبب
 عنده : (إن الشرقيين لا يقاتلون عن أنفسهم, ولا تحسبهم على بيّنة مما
 يقصدون... فهم في الثورة دعاة زعيم وعصاة زعيم.) . وهذا "أمين الريحاني"
 يقول عن الثورة الحقيقيّة أيضاً: ( الثورة الحقيقيّة ونحن من أنصارها
 ورسلها, إنما هي الثورة التي يزرع الزمان بذورها في قلوب الناس وفي
 عقولهم... هي الثورة التي يتقدمها ري العراق مثلاً, وسكة الحجاز, وحرية
 الطباعة والتجارة والتعليم... الثورة الحقيقية, أو بالحري الانقلاب
 العظيم, هو الذي يساعد في ارتقاء الأشياء, أي ما ينبغي أن يكون.) .
 إن كل ما جئنا عليه, منهجياً, يشير إلى أن الثورات لها مقوماتها
 وشروطها الموضوعية والذاتية ومنها حواملها الاجتماعية بالضرورة, وأي ثورة
 لا تمتلك تلك الشروط, تظل طبلاً أجوفاً لا تسمع منه إلا الصوت العالي,
 أما على الواقع فالنتائج ستكون عكسيّة, وخاصة إذا ما اتكأت هذه الثورة
 على حوامل اجتماعية من الخارج (الأجنبي), عندها ستلوي الثورة عنق الواقع
 من أجل تحقيق رغبات ومطامح شخصية أو فئوية لا أكثر, وهنا تكون الكارثة,
 ولا تعود الثورة ثورة.
 من هنا ُيطرح السؤال المشروع نفسه علينا وهو: هل ثورات الربيع
 العربي بحواملها الاجتماعية امتلكت شروطها الموضوعية والذاتية بكل
 مكوناتها؟. أم ظلت تحوم في مسار الرغبات والعواطف الجياشة لحوامل
 اجتماعية لم تصل بعد إلى مرحلة وعي الذات والقدرة على رسم ملامح جديدة
 للدولة والمجتمع, بغض النظر طبعاً عن النوايا الحسنة للكثير من هذه
 الحوامل الاجتماعية.
 نظرة أولية وسريعة على بنية الواقع العربي بكل مستوياته الاقتصادية
 والاجتماعية والسياسية والثقافية تشير إلى أن هناك تخلفاً مزمناً في هذه
 البنية لم يزل قائما حتى هذا التاريخ.
 فعلى المستوى الاقتصادي, هناك ضعف واضح للجميع, فنحن لم نزل نستورد
 التكنولوجيا, وإن وجدت لدينا صناعات فهي صناعات اللمسات الأخيرة, أو بعض
 الصناعات البترو كيميائية التي عافها الغرب منذ زمن طويل بسبب تلويثها
 للبيئة وحاجتها إلى اليد العاملة الكثيرة, وهي صناعات غير قادرة في
 المحصلة على خلق تغير واضح وبنيوي في طبيعة العلاقات الاجتماعية
 والسياسية والثقافية في بنية المجتمع العربي, ومن الدول العربية التي
 امتلك المال ( دول الخليج), ربما استطاعت أن تحقق بسبب حيازتها للمال
 قفزات نوعيّة في المسألة العمرانية والخدمية, غير أنها لم تستطع توظيف
 هذا المال في مشاريع صناعية حيوية كما هو الحال في إيران مثلاً,. وإنما
 قامت بصرف قسم من هذا المال على ( الفرج والبطن والقصور المنيفة), والقسم
 اليسير منه وظفته على الصناعات الصغيرة ذات اللمسات الأخيرة, أما القسم
 الأكبر فقد صدّر إلى الخارج (أوربا وأمريكا), حيث وظف في بنوكها, أو في
 شراء أسهم الكثير من شركاتها الصناعية هناك, ليكون أصاحب هذا المال
 (أمراء الخليج), شركاء حقيقين للرأسمال الصناعي الاحتكاري العالمي, وهذا
 ما يدفع في الحقيقة حكام هذه الدول إلى تنفيذ أجندات الخارج في بلادنا
 خدمة لمصالحهم المشتركة, ومنها مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي ساهمت دول
 الخليج فيه, ولم تزل تساهم بشكل واضح وجلي في تآمرها مع الغرب وأمريكا
 على العراق وليبيا واليمن, وسوريا وغيرها من الدول العربية. وإلا ماذا
 نسمي مشاركة قطر والإمارات والأردن - ومن يلف لفهم من دول الخليج في السر
 - الحلف الأطلسي في ضرب ليبيا اليوم, أو طرح مبادراتهم المشبوهة في
 الجامعة العربية تجاه وسوريا, تحت مظلة الديمقراطية والحرية لشعوب هذه
 الدول, وهم الذين يفتقدون إلى أبسط معطيات الحرية والديمقراطية في بلادهم

 أما على المستوى الزراعي, فمعظم الدول العربية تقريباً تستورد
 القمح, رغم وجود الأنهار الكثيرة على الساحة الجغرافية العربية, بل لنقل
 إن هناك أزمة مياه في بعض الدول العربية, فزراعاتنا الغذائية لم تحقق بعد
 القدرة على التصدير, ونحن لم نزل نستخدم حتى هذا التاريخ الكثير من
 الوسائل الزراعية البدائية في ري محاصيلنا, كما أننا بعيدون في الواقع عن
 استخدام التكنولوجيا فيها إلا في بعض المواقع التي تعد حقول تجارب أو
 مراكز بحوث علمية, وهذه البحوث في كل اتجاهاتها لا يسخر لها الوطن العربي
 أكثر من 1% من ميزانياتها العامة .
 أما على المستوى الاجتماعي, فوطننا العربي لم يزل محكوماً بمرجعياته
 التقليدية من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب, وهي مرجعيات تتحكم بدورها في
 آليات العمل السياسي والثقافي, فعلى المستوى الاجتماعي, لم تزل هذه
 المرجعيات تشق المجتمع عمودياً وأفقي, وتعمل على عرقلة نموه وتطوره.
 أما على المستوى السياسي, فلم تزل هذه المرجعيات تتحكم في بنية
 الدولة, ومؤسساتها من الأدنى إلى الأعلى, وبالتالي هذا ما يؤثر سلباً على
 مسألة الحراك السياسي وبناء الدولة المدنية الحديثة, الأمر الذي يجعل
 مقولات مثل: (لنا (بالسربة) بالسريّة خيال), و(إللي ما بيه خير لأهله ,
 ما بيه خير للغريب), تفعل فعلها في هذه الدولة, على حساب المواطنة ودولة
 القانون.
 أما على المستوى الثقافي, فالسائد حتى هذا التاريخ هو الافتخار
 بالماضي بعجره وبجره, والتمسك بأهداب التراث وكل ما هو سطحي فيه وامتثالي
 وغيبي مطلق ينفي إرادة الإنسان وحريته, هذا إضافة إلى محاربة كل ما هو
 عقلاني وجميل فيه, وتصنيف منتجيه في خانة الكفرة والزنادقة, والافتخار
 بماضي سياسيي لم نكن فيه يوماً أصحاب قرار, حيث تحول حكامنا في قسم كبير
 من هذا الماضي إلى ببغاوات في قفص, سيطر عليهم وعلينا فيه البويهيون
 والسلاجقة والأغز والأتراك والعثمانيون والصفيون والمماليك والتتر
 والمغول, ثم جاءت سيطرة الغرب وأمريكا والصهاينة, وها نحن نجد اليوم أن
 من يقود ويتحكم في حياتنا الاقتصادية والثقافية ويرسم لنا مستقبلنا
 السياسي حكام دول الحليج الذين لا يعرف بعضهم فك الحرف, فهل هناك أدنى
 تخلف من هذا التخلف ؟!..
 هذا هو الواقع الذي تحركت فيه ثورات الربيع العربي التي رحبت بها
 قوى الاستعمار الغربي والأمريكي, وحكام دول الخليج الحلفاء الإستراتيجيين
 للرأسمال الاحتكاري العالمي كما أشرنا في موقع سابق.
 إن هذا الواقع بكل معطيات تخلفه التي جئنا عليها, لم يستطع أن ينتج
 حتى هذا التاريخ سوى صيغتين من صيغ أنظمة الحكم السياسية الشمولية, هما
 الأنظمة المملوكية, والأنظمة الشعبويّة. هذا إضافة إلى كونه لم يستطع
 أيضاً أن ينتج حوامل اجتماعية واعية لذاتها, تربطها مصالح مشتركة, وتعمل
 لنفسها ولغيرها من قوى المجتمع. أي حوامل قد تجاوزت مرجعياتها التقليدية
 إلى مرجعيات المجتمع المدني, مجتمع دولة القانون. لذلك لا نستغرب أن من
 حرك الثورات في تونس ومصر على سبيل المثال هم الشباب لا الطبقة الواعية
 لذاتها... الشباب الذين حركتهم العاطفة الثورية أكثر من المنطق العقلاني
 الثوري الذي يستطيع عبر حملته الاجتماعيين تحديد ماذا يريد, مثلما
 يستطيع المساهمة في رسم ملامح المستقبل للوطن والمجتمع معاً, بغض النظر
 هنا عما حققه هؤلاء الشباب من إنجازات هامه, كان أبرزها إسقاط نظامين
 سياسيين عملا طويلاً خارج نطاق المشروع النهضوي العربي, وبخاصة نظام حسني
 مبارك الذي أخّر حركة التحرر العربي عشرات السنين إلى الوراء من خلال
 السياسة العدائية التي نهجها ضد المقاومة.
 أما في سورية, فإن غياب الحامل الاجتماعي المنظم والواعي لطبيعة
 المرحلة التاريخية التي تعيشها سورية وللظروف الإقليمية والدولية المحيطة
 بها, وبالتالي لطبيعة التحولات المراد إنجازها, ولرسم ملامح المستقبل,
 جعل ما سمي بالمعارضة السورية تتكئ على حوامل اجتماعية تفتقد إلى أي شكل
 من أشكال الانسجام مع نفسها, ففي الوقت الذي نرى فيه قسماً من المعارضة
 تحركها مرجعيات أيديولوجية دينية أصولية ظلامية ترفض الآخر بكل أشكاله,
 نرى حوامل أخرى خارجة عن القانون تحركها مرجعيات غريزية وشهوات انتقام
 وإثبات للذات على حساب المجتمع وقضاياه النبيلة, وكلا هذين الحاملين
 الاجتماعيين فقدا المنطق العقلاني في تحركاتهما الثورية, فكان السلاح هو
 الوسيلة الوحيدة التي شعرا أن من خلاله يستطيعان تحقيق أحلامهما, فكان رد
 فعل الدولة عليهما بالسلاح نفسه حفاظاً على المجتمع والدولة معاً, أما
 القسم الثالث من المعارضة (بعض اليساريين والقومين والليبراليين) فقد
 حركته شهوة السلطة, فاستغل الحاملين الاجتماعيين السابقين من أجل تحقيق
 أهدافه, بل أن قسماً من هذا الحامل لم يكتف بذلك, وإنما اتجه نحو الخارج
 ليجد في أمريكا والغرب ودول الخليج سنداً لطموحاته, ناسياً آو متناسياً
 ما جره تصرف أمثالهم على العراق, وما سيجرونه على ليبيا من ويلات ودمار.
 عموماً نقول: غبي من ينكر أن ما حققته هذه الثورات من إنجازات هو
 أمر هام ومفرح في تاريخنا المعاصر, ولكن من الغباء الاعتقاد أن هذه
 الثورات قد امتلكت شروط تحققها الموضوعية والذاتية المنسجمة مع ذاتها
 وطموحاتها, أو أهدافها الاجتماعية .
 إن ما شاهدناه في مضمار ثورات الربيع العربي يقدم لنا المعطيات
 التالية إضافة لما جئنا عليه سابقاً:
 أولاً: إن فكرة البطل ظلت هي السائدة في البنيتين السياسية
 والاجتماعية لدى الشارع العربي, ففي العشيرة لم يزل المسيطر شيخ العشيرة,
 وفي الطائفة شيخ الطائفة, وفي القبيلة شيخ القبيلة, وفي الحزب الأمين
 العام, وفي الدولة القائد الأوحد. فعقلية التمسك بالبطل المنقذ أو
 المستبد العادل في وطننا العربي التي عبر عنها في نهاية القرن التاسع عشر
 الشيخ الأمام محمد عبده بقوله : ( إلا يوجد لدى العرب مستبد عادل ينهض
 بهذه الأمة ويحقق لها في خمسة عشر عاماً من التقدم ما حققته أوربا ), لم
 تزل قائمة حتى هذا التاريخ. فالعقلية العربية لم تعرف بعد عقلية
 المؤسسات, ولم تتشكل لديها الفكرة الجوهرية عن الدولة المدنية التي تفرض
 على أبنائها عقلية المواطنة ودولة القانون, لذلك لا نستغرب استمرار مقولة
 "أديب اسحق سارية المفعول في تاريخنا المعاصر" (نحن دعاة زعيم وعصاة).
 وهذا ما كان وراء استقبال "الغنوشي" في تونس استقبال الفاتحين عند عودته
 من منفاه بعد سقوط نظام زين العابدين. وهذا ما كان أيضاً وراء انقلاب
 موازن القوى لدى قوى ألرابع عشر من آذار في لبنان عندما ابتعد "سعد
 الحريري "عن رئاسة الحكومة بحيث لم تستطع هذه القوى أن تستوعب فكرة وجود
 غيره في السلطة. وعلى الرغم من أن هناك من يقول بأن ما حدث من تغيير في
 تونس ومصر وليبيا, لن يسمح بعودة الوضع السياسي كما كان عليه في السابق,
 أي لن تتكرر فكرة القائد البطل, غير أن معطيات الواقع تقول غير ذلك,
 ففكرة البطل لم تزل مجسّدة في بنية الأحزاب المتنافسة على السلطة, وهذا
 سبب نشوء هذا العدد الهائل من الأحزاب في مصر وتونس والعراق بعد سقوط
 الأنظمة السليقة, وهذا ما كان أيضاً وراء الشعار الرئيس في هذا الثورات
 (إرحل), بكل تعبيراته وصيغ طرحه التي رفعها كل الحراك الشعبي في مصر
 واليمن وتونس وسوريا وليبيا. فالقضية الأساس في التغير لم تزل تركز على
 البطل المنقذ , قبل أي شيء آخر.
 ثانياً: إن ما دفع أمريكا والغرب وحلفاءهم من دول الخليج العربي
 للتدخل في ثورات الربيع هو ملء الفراغ وإعادة هيكلة المنطقة بما يخدم
 توجهات قادة الرأسمال الاحتكاري العالمي ومن ضمنهم الشريك الاستراتيجي في
 المنطقة العربية, وهم حكام الخليج العربي
 على العموم إن الموقف الخليجي والأمريكي والغربي بكليته لم يعد
 خافياً على كل ذي بصيرة , وهو برأيي ليس بخافِ حتى على المعارضة, ولكن
 طبيعة المصالح الضيقة لهذه المعارضة هو الذي جعلها ننسق مع حكومات هذه
 الدول, بل أن بعض أطراف المعارضة ومنها السوري على سبيل المثال, راح وبكل
 صراحة يطالب بتدخلها العسكري للقضاء على النظام السوري, وهنا تكمن
 المصيبة الثورية لهؤلاء.
 نعود مرة أخرى في نهاية هذه الدراسة للإجابة على السؤال الأساس وهو:
 هل وضع من يسمون أنفسهم الثوار في ثورات الربيع العربي المهام التي توفرت
 شروط تحقيقها, أو هي على أهبة التوفر في الواقع العربي؟ .
 دعونا نعود مرة ثانية لماركس الذي وجد أن المفكرين الألمان قد
 تأثروا كثيراً بأفكار الثورة الفرنسية, وأرادوا تطبيقها على الواقع
 الألماني من أجل القيام بثورة لتغير واقع ألمانية المتخلف كثيراً عن واقع
 فرنسا وبريطانا في تلك الفترة, وبعد نقاش طويل ما بينهم وبين ماركس في
 هذه المسألة, قال لهم "ماركس" من باب السخرية: أنتم (أيديولوجيون). أي أن
 ما تبنيتموه من أفكار الثورة الفرنسية لا يمكن أن يشكل عتلة في قيام ثورة
 لم تتوفر بعد شروط قيامها. لذلك كان لأفكار "هيجل" في الدولة, ولشخصية
 "بسمارك" الكاريزمية في السياسة, الدور الكبير في النهوض بألمانية وتجاوز
 تخلفها أكثر بكثير من الأفكار الأيديولوجية البعيدة عن الواقع للمفكرين
 الألمان, وهذا ما حققه "غاريبالدي" في إيطاليا.
 إن هذه الرؤية الماركسية, تدفعني بالضرورة أبضاً للحديث بشكل مختصر
 عن مسألتين أساسيتين أعتقد أن لهما علاقة مباشرة في قضية ثورات الربيع
 العربي وهما: مسألة الآيديولوجيا, ومسألة الحتمية التاريخية.
 في الآيديولوجيا : نخطئ كثيراً إذا اعتبرنا الأيديولوجيات بعمومها
سلبيّة, أي هي وهم ولا معقول. ففي الوقت الذي نرى فيه الأيديولوجيات التي
 تعمل على ليّ عنق الواقع كي ينسجم مع نصها, رافضة لكل فكرة التطور
 والتبدل التي تصيب الواقع المادي وتعبيراته النظرية, وبالتالي نهضته
 وتقدمه, نرى في المقابل الأيديولوجيات العلمية التي تسعى دائماً لمطابقة
 الواقع في حركته وتبدله, وبالتالي السعي إلى نهضته وتطوره.
 إن الآيديولوجيا في عمومها, هي الملاط الذي يشد الكتلة الاجتماعية
 نحو تحقيق أهداف معينة يرسمها ويحدد طبيعتها الحامل الاجتماعي لهذه
 الآيديولوجيا, وبالتالي فإن مصالح هذا الحامل ودرجة وعيه هي التي تحدد
 طبيعة هذه الآيديولوجيا وتوجهاتها الفكرية والعملية, سلبية كانت آم
 إيجابية.
 أما مسألة الحتمية, فهي تدفعنا لتأكيد قضية أساسية وهي: إن الإنسان
 في عمومه ضرورة وحرية معاً, ففي الوقت الذي تتحكم في مسيرة حياته مجموعة
 القوانين الموضوعية الطبيعية منها والاجتماعية في المحيط الذي ينشط فيه,
 فهو حرية أيضاً, كونه يملك إرادة وحرية في التفكير والعمل في المحيط الذي
 ينشأ وينشط فيه أيضاً, بيد أن هذه الإرادة, وهذه الحرية ليستا مطلقتان في
 نشاطها, وإنما تتحكم فيهما الظروف الموضوعية التي تحيط بالإنسان, فهما
 نسبيتان إذن, ونسبيتهما هي التي تفرض على الإنسان أثناء نشاطه أن يحدد
 لنفسه المهام التي يستطيع إنجازها. أي المهام التي توافرت شروط إنجازها,
 أو هي قيد التوفر. لذلك نأمل من الحوامل الاجتماعية لثورات الربيع
 العربي, أن تضع لنفسها المهام التي تستطيع إنجازها, حتى لا تستعين بحوامل
 اجتماعية من الخارج من أجل إنجاز تلك المهام, وهنا تفقد هذه الحوامل
 مصداقيتها وثوريتها معاً.
 ملاحظة: كل المقتبسات الواردة في الدراسة من كتابنا ( الآيديولوجيا
 والوعي المطابق). إصدار . دار التكوين . دمشق. 2006
 كاتب من سوريا
 
d.owaid50@gmail.com

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا