<%@ Language=JavaScript %> د. نادر فرجانى آثار إعادة الهيكلة الرأسمالية على البشر في البلدان العربية
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

  

 

آثار إعادة الهيكلة الرأسمالية على البشر في البلدان العربية

 

    د. نادر فرجانى
 

تمهيد
 

تشهد البلدان العربية، بدرجات متفاوتة، تغييرات عميقة فى هياكلها الاقتصادية تستدعى، فى السياق المحلى والإقليمى والعالمى الذى تقع فيه، آثاراً مجتمعية بعيدة المدى. وقد آثرنا، لوصف هذه التغييرات، استخدام مصطلح "إعادة الهيكلة
الرأسمالية" capitalist restructuring المحايد، والأدق علمياً عوضاً عن مصطلحات أخرى تنطوى على إيحاءات إيجابية نراها غير مبررة، بداية، من أمثال: "الإصلاح" reform، و "التكيف"أو "التعديل"، كتعريبات لكلمة adjustment[1]. فلا ريب أن استعمال مصطلحات ذات مضامين إيجابية يحمل قدراً من الترويج لتوجهات اقتصادية
واجتماعية بعينها، يقوم على قبول نفسانى دون تمحيص عقلى. وقد يُفضى تقييم إعادة الهيكلة الرأسمالية إلى إلصاق مضامين بالغة السوء.وجدير بالذكر أن مصطلح "إعادة الهيكلة" مُستخدم فى كثير من الكتابات الرصينة حتى فى الغرب.
وتستهدف هذه الدراسة *الاقتراب* من تقييم علمى لآثار إعادة الهيكلة الرأسمالية على أحوال البشر فى البلدان العربية، مع الاعتراف بتفاوت مدى انغماسها فى إعادة هيكلة اقتصاداتها، وتباين الظروف الابتدائية التى تنسحب عليها إعادة الهيكلة، ومن ثم التفاوت فى التبعات المجتمعية لها. وليس مثل هذا التقييم، كما سنرى، بالمطلب اليسير. وتتبنى الدراسة فى تقييم إعادة الهيكلة منظور "التنمية البشرية" human development وهو، فى تقدير الكاتب، المنظور الجدير بالاعتبار فى بلدان متخلفة لن يتسنى لها أن تتقدم إلا من خلال ترقية البشر. أولاً: إطار مفهومى أ- فى إعادة الهيكلة الرأسمالية وسُبل تأثيرها على البشر نقصد بإعادة الهيكلة الرأسمالية إحداث تغييرات جذرية فى الهياكل الاقتصادية
تجاه سيادة توجهات نظام السوق الحر فى النشاط الاقتصادى، محلياً وعلى الصعيد الدولى. ويعنى هذا التوجه، على وجه الخصوص، تنصيب رأس المال الخاص على أنه الفاعل الرئيسى، وإعلاء الربح كالحافز الأساسى، فى إحداث النمو الاقتصادى، الذى يُصبح صنو التقدم. ويطلب هذا التعريف عدة توضيحات.
لا يقتصر مفهوم إعادة الهيكلة الرأسمالية المُتبنى هنا على برامج "التكيف الهيكلى" التى تتم فى إطار اتفاقات بين الحكومة وقطبىّ النظام المالى العالمى: صندوق النقد الدولى والبنك الدولى. أحياناً تتم إعادة الهيكلة الرأسمالية دون
اتفاق مع أىٍ من الصندوق أو البنك. فقد لا يكون لإحدى الحكومات حاجة للاقتراض، أو لجدولة قروضها، مما يستبعد لجوئها لإحدى المؤسستين. ومع ذلك قد تُطبق هذه الحكومة إعادة للهيكلة أوسع مدى من أخرى مقترضة. فقد طبقت حكومة العراق مثلاً أوسع برنامج لنقل ملكية القطاع العام إلى الأفراد فى أوائل الثمانينيات دون اتفاق مع الصندوق أو البنك. وطبقت حكومة السودان، فى غيبة علاقات رسمية مع المؤسسات المالية الدولية، حزمة من السياسات لا تختلف عما كانت توصى به هذه المؤسسات لغيرها.
وقد تبدأ إعادة الهيكلة الرأسمالية كسياسات أو برامج حكومية قبل إبرام مثل هذه الاتفاقات، أو كتمهيد لها، أو كنوع من إبداء حُسن السلوك طلباً لها[2]. وفى أحيان تؤدى هذه السياسات الحكومية إلى *حتمية* إبرام اتفاقات "التكيف" خاصة إذا نجم عن السياسات إغراق فى الاستدانة. فى حالة مصر، على سبيل المثال، ترجع البدايات القوية لإعادة الهيكلة الرأسمالية، فى تقديرنا، إلى سياسة "الانفتاح الاقتصادى" التى دُشنت رسمياً فى أواسط السبعينيات. وساهم الاستغراق فى الاستدانة، بالإضافة إلى فشل "الانفتاح" فى حفز التقدم التقانى والنمو الاقتصادى، فى إنتاج الأزمة الاقتصادية التى جعلت من اللجوء إلى الصندوق والبنك، وقبول شروطهما، فى ضوء التوجه العام للحكم، أمراً لا مفر منه. هذا على حين لم تُوقع الاتفاقات الرسمية إلا فى مطلع التسعينيات.
ومن ثم، فإن التقيد بتوقيت توقيع اتفاق مع الصندوق أو البنك، وبفحوى هذا الاتفاق، يُغلّب الشكل على المضمون فى دراسة إعادة الهيكلة الرأسمالية، خاصة فى منظور تقييم آثارها.
ومع ذلك تجدُر التفرقة بين إعادة الهيكلة الرأسمالية بالمعنى الواسع الذى شرحنا وبين برامج "التكيف الهيكلى" التى تتم باتفاقات مع الصندوق والبنك. إذ أن هذه البرامج تُمثل طوراً متقدماً من إعادة الهيكلة الرأسمالية تُجرى فيه التغييرات
الهيكلية بالاتفاق *المباشر* مع مؤسسات دولية، وتحت *إشرافها* الدقيق. وعادة يكون إبرام هذه الاتفاقات دليلاً على تفاقم الأزمة الاقتصادية فى البلدان المعنية، وعلى درجة عالية من التأثير الخارجى فى إحداث التغييرات الاقتصادية.
فى هذه الحالة يكون مصطلح "التكيف" مناسباً، بمعنى التكيف أو التواؤم *مع*متطلبات المراكز القوية للنظام الاقتصادى العالمى، بقيادة الغرب، وعن طريق التدخل المباشر للصندوق والبنك.
وتتضمن عملية إعادة الهيكلة الرأسمالية وبرامج "التكيف الهيكلى"، على وجه الخصوص، إجراءات تتوخى سيادة نظام السوق الحر تضم:
- خلق بيئة نقدية ومالية متوائمة مع الاقتصاد الدولى ومستقرة، من خلال السعى للقضاء على العجز فى موازنة الدولة، والحد من التضخم، وتحرير سعر الصرف.
- تقليل تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى والاجتماعى وتوفير حوافز، تصل حد التدليل، لقطاع الأعمال الخاص، المحلى والأجنبى، بما فى ذلك نقل ملكية القطاع العام إلى قطاع الأعمال الخاص، ومنح التسهيلات الائتمانية والضرائبية وغيرها لرأس المال، خاصة الكبير منه.
- تكسير أية قيود، مؤسسية أو قانونية أو إجرائية، مفروضة على الأسعار، المحلية والعالمية، تحرف آلية السوق عن أداء دورها المفترض فى مجالات التمويل والإنتاج والتجارة والاستهلاك. وتتضمن الوسائل المتخذة لتحقيق ذلك الهدف على النطاق المحلى إلغاء الدعم المقرر للسلع والخدمات بما فى ذلك امتناع الدولة عن تقديم بعض الخدمات، واسترداد جزء من تكلفة الخدمات التى تقدمها من المستفيدين بهاrecovery.  cost  

ومن الأهمية بمكان توضيح أن برامج "التكيف الهيكلى" *تستثنى* من إطلاق الأسعار فى المراحل الأولى، بدعوى كبح جماح التضخم، سعر العمل، أى *الأجر*- وهو من أهم الأسعار خاصة فى المنظور الاجتماعى، بل كثيراً ما تتضمن تثبيته، حتى *اسمياً*، الأمر الذى يعنى تدهور قيمته الحقيقية *فعلياً*.
- تشجيع الاندماج فى الاقتصاد العالمى من خلال حرية التجارة الدولية. إذ يتمحور هدف إعادة الهيكلة الرأسمالية، على الصعيد الدولى، حول إزالة أى عوائق أمام الاستيراد من الخارج، وحفز التصدير باعتباره السبيل الأساس للنمو.
وعادة ما تُقسم برامج التكيف إلى مرحلتين، إحداهما "للتثبيت" stabilisationالنقدى والمالى، ويجرى فى الأجل القصير نسبياً، ويقوم عليه صندوق النقد الدولى، والثانية "للتكيف الهيكلى"، فى الأجلين المتوسط والطويل، ويتولاه البنك الدولى. وتُنسق المؤسستان الدوليتان فيما بينهما البرنامج الكلى، خاصة فيما يتعلق
بالانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية.
ويتضح من تأمل عناصر إعادة الهيكلة الرأسمالية أن الغرض الرئيس منها هو دعم تبلور *السوق العالمى الحر الواحد*. والمستفيد الأكبر من قيام هذا السوق هو الفاعل الأكبر فى الاقتصاد العالمى: رأس المال، خاصة شقه المالى، الذى يتجلى بأقوى صوره فى الشركات عابرة الجنسيات العملاقة واللاعبين الكبار فى أسواق المال الدولية. فالبيئة الاقتصادية الكلية المستقرة تمكن رأس المال من إجراء حسابات دقيقة على صعيد العالم، وانسحاب الدولة من المعترك الاقتصادى والاجتماعى يستتبع حرية أوسع للقطاع الخاص- المحلى والأجنبى؛ وفتح الاقتصادات المحلية للتجارة الدولية يوسع الأسواق التى تتمتع فيها عابرات الجنسيات بميزة لا تبارى؛ وكل هذه ممكّنات من تعظيم الربح على الصعيد العالمى.
وكثيراً ما تُقدم إعادة الهيكلة الرأسمالية على أنها شبه قدَر لا فكاك منه، حيث يُدّعى أن الاندماج فى الاقتصاد العالمى الواحد هو السبيل *الوحيد* للنمو الاقتصادى، الذى هو بدوره منفذ البلدان النامية- الأوحد- إلى التقدم.
غير أن *الإطار النظرى الذى تقوم عليه هذه الادعاءات متهافت*، من ناحية. كما *جرّ التطبيق الفعلى لإعادة الهيكلة الرأسمالية ويلات اقتصادية واجتماعية ضخمة*، من ناحية أخرى. ولنتمعن فى الأساس النظرى أولاً.
 

ينهض *الأساس النظرى* لإعادة الهيكلة الرأسمالية على صورة مبتسرة من النظرية الكلاسيكية المحدثة neoclassical التى تعتمد آلية الأسعار *التنافسية* لتحقيق النمو من خلال التخصيص الأمثل للموارد فى اقتصاد سوق *ساكن*. وهى طُورت أصلاً فى أواخر القرن التاسع عشر كنظرية تصلح للمجتمعات الرأسمالية *المتطورة*، وإن لم تُثبت كفاءة حتى فى هذا السياق مما استدعى المراجعات الكينزية Keynesianوغيرها. لكل هذه الأسباب لا تقدم النظرية الكلاسيكية المحدثة أساساً لتنمية المجتمعات المتخلفة[3]، ومع ذلك تقوم عليها "وصفات" إعادة الهيكلة الرأسمالية!
فهى حد علم العاملين فى المؤسسات المالية الدولية- كما درسوا فى الجامعات الغربية. أما تطوير الأطر النظرية المناسبة لتنمية المجتمعات المتخلفة- فوق أنه ينطوى على مشقة بالغة-.فأمر لا يعنى هذه المؤسسات أصلاً.
ويَرد على تطبيق هذه النظرية فى ظروف اقتصادات العالم الثالث المتخلفة تحفظات كثيرة منها:
- تقوم النظرية على وجود *أسواق تنافسية كفء*. وليست هذه الأسواق قائمة، ولا متطلباتها محققة فى الاقتصادات المتخلفة. بل تتراكم الكتابات عن معوقات عمل الأسواق فى هذه الاقتصادات، مثل الفساد والبيروقراطية وغيرها. وبالتالى فإن آلية الأسعار لا تعمل بكفاءة. والواقع أنه يتعين فى كثير من البلدان النامية * خلق* الأسواق الحرة وتوفير متطلبات عملها بكفاءة، وضبطها regulation لضمان تحقق الصالح العام، وهذه أدوار مهمة *للدولة*[4]. فالبنى المؤسسية للبلدان المتخلفة توفر المعلومات وحرية دخول الأسواق فقط لذوى النفوذ، مما يقضى بداية على شرطين
جوهريين للأسواق التنافسية. والمأساة أن *إطلاق قوى السوق* libertarianism، فى مثل هذه البيئة المؤسسية الخربة، يوطد أركان غياب المنافسة.
- أحد أهم جوانب ابتسار تطبيق الإطار النظرى الكلاسيكى المحدث فى المراحل الأولى لبرامج "التكيف الهيكلى" هو *استبعاد سوق العمل* من حرية آلية الأسعار. فالأجور، حسب تعليمات "التكيف"، يجب أن تُكبح لمكافحة التضخم، كأحد مكونات التثبيت. الأمر الذى يعنى عادة تدهور الأجور الحقيقية.
 

وحيث تكون المراحل الأولى للتكيف الهيكلى انكماشية بالتصميم، يترتب عليها عادة ارتفاع البطالة. وتبدأ بعد ذلك مرحلة من المطالبة بمرونة سوق العمل (حرية أصحاب العمل فى التعيين والفصل، وعدم وضع حدود دنيا للأجور، ...) بهدف تقليل تكلفة العمل لأصحاب الأعمال حتى ينشط النمو. وفى سياق انتشار البطالة، يؤدى ذلك إلى
تدهور أبلغ فى الأجور.
 

- لا تُعنى آلية الأسعار بقضية توزيع الدخل والثروة. بل عادة يؤدى إطلاقها، فى غياب دور قوى للدولة فى مضمار العدالة التوزيعية distributive justice- وهو قائم فى كل الاقتصادات الرأسمالية الناضجة، إلى استشراء الفقر وتفاقم سوء التوزيع فى المجتمعات، خاصة تلك المتخلفة التى تتردى فيها الإنتاجية الكلية فى إطار البنى المؤسسية التى يستشرى فيها البيروقراطية والفساد.
- فى النهاية، لا تُعنى آلية الأسعار التنافُسية بمسألة التنمية، أى إحداث تغيرات هيكلية فى الاقتصادات المتخلفة بهدف تعظيم القدرات البشرية والتقانية والإنتاجية. وأقصى ما تصبو إليه هذه الآلية، *إن أفلحت*، هو مجرد *النمو*
growth الاقتصادى.
ومن ثم، تعنى إعادة الهيكلة الرأسمالية التخلى عن قضية التنمية فى المجتمعات المتخلفة، أو هى تُمثل، بعبارة أخرى، ردة إلى اعتماد مفهوم النمو الذى يسود اتفاق على عدم كفايته للقضاء على التخلف. ويتبدى هذا التوجه فى توارى مفهوم "التنمية"، والتعويل على "النمو الاقتصادى" فى إطار نظام السوق فى "التخفيف" alleviation من الفقر عوضاً عن غاية التنمية: "القضاء" eradication على الفقر.

ولا ريب فى أن التطورات العالمية فى العقدين الماضيين تفرض على البلدان خارج مركز "النظام العالمى الجديد" قدراً من "التكيف" مع معطياته. لقد مثل انهيار الاتحاد السوفيتى والكتلة "الاشتراكية" الحلقة الأخيرة فى سيادة الطور الراهن
من الحضارة الغربية على العالم أجمع. غير أن الاستجابة للمؤثرات العالمية تتباين من فاعل لآخر. وهل يستوى انفتاح الصين وانفتاح مصر مثلاً، وكلاهما تم فى الحقبة الزمنية ذاتها؟ ودون تبنى كل ما حدث، ويحدث، فى الصين، ومع الاعتراف بالفوارق بين مصر والصين، تكفى مُقارنة عبء الاستدانة، وتدفق الاستثمارات الخارجية، ومستوى ونمط النمو التقانى والاقتصادى بين البلدين، لتأييد الادعاء بتفاوت الاستجابة للمؤثرات العالمية حسب المُستجيب.
وعندنا أن غالبية شعوب العالم الثالث، ومنها العرب، ستدفع ثمناً باهظاً لسيادة النسق الرأسمالى على صعيد العالم، مع إطلاقه دون ضبط فيها، نتيجة لإعادة هيكلة اقتصادات بلدان الأطراف على صورة *متخلفة ومشوهة* للغرب الرأسمالى ترتع فيها قوى السوق، ورأس المال وحافز الربح، بحرية لا تتأتى لها حتى فى أعتى صور الرأسمالية الغربية[5]. وتُنذر التطورات المتوقعة من "اتفاقية التجارة الدولية" بتفاقم ضعف كثير من بلدان العالم الثالث فى مضمار الاقتصاد العالمى.
ولا غرابة. فغالبية بلدان العالم الثالث تدخل الساحة الدولية فرادى تابعة وضعيفة، تتلقى و "تتكيف". وتأخذ حالة التشرذم والضعف هذه بُعداً مأساوياً فى حالة البلدان العربية. إذ لا تتوافر لمجموعة من بلدان العالم من أسباب العزة والمنعة عن طريق الوحدة، أياً كان شكلها، ما يتوافر للبلدان العربية.
 

ولا يمكن عزل *جذور* إعادة الهيكلة الرأسمالية عن تفاعل أزمتين، واحدة عالمية والأخرى محلية، فى كثير من بلدان العالم الثالث.
تتمثل الأزمة *العالمية* فى حالة الركود الاقتصادى التضخمى stagflation التى سادت بعد منتصف السبعينيات، وتفاقم أزمة البطالة فى الاقتصادات الغربية المصنعة حتى بعد تعافى النمو الاقتصادى، مما أنتج ظاهرة "النمو بلا تشغيل" jobless growth. وتنحى الدوائر الاقتصادية الغربية، فى تفسير انتشار البطالة، باللائمة
على "صدمة" أسعار النفط فى السبعينيات الأولى، وعلى "جمود" أسواق العمل فى الاقتصادات الأوربية التى مازالت تكفل بعض حقوق العمال، مثل فرنسا وألمانيا، مقارنة بنموذجى "التحرر والمرونة"- الولايات المتحدة وبريطانيا- اللتان تم فيهما ترويض التنظيمات العمالية مما ساعد على إطلاق يد الشركات فى تقليص العمالة downsizing. وإن كان الواضح أيضاً أن الأزمة تمثل انعكاساً لتغير تقانى جوهرى طويل الأجل يأخذ مداه فى حمل الاقتصادات الرأسمالية المتطورة إلى عصر المعلوماتية، هذا من ناحية.
 

ومن ناحية أخرى، فإن الأزمة العالمية تنطوى على تفاقم تزيّد الطاقة الإنتاجية overcapacity فى الصناعة، وقلة الطلب على منتجاتها على صعيد العالم نتيجة لتناقص الأجور الحقيقية، وزيادة التفاوت فى توزيع الثروة والدخل. ويترتب على هذا انخفاض هامش الربح فى المشروعات الصناعية، على حين تعاظمت قوة رأس المال، خاصة المالى، مع ثورة المعلومات والاتصالات والتحرر المتسارع لأسواق المال فى العالم. ويستدعى كل ذلك قيام رأس المال بالعمل على خفض التكلفة من خلال سبل متعددة منها الاندماج فى وحدات أكبر، وتقليل تكلفة العمل- خاصة عبر نقل
النشاطات الإنتاجية إلى المواقع الأرخص فى تكلفة العمل والأكثر تساهلاً فى حماية العمال. بعبارة أخرى، تمثل ظاهرة عولمة globalisation النشاط الاقتصادى انتصاراً جديداً لرأس المال على العمل، فى سعيه لتعظيم الربح، على صعيد العالم.
وتنطوى هذه الأزمة على انعكاسين جوهريين على مجمل الأوضاع المجتمعية فى بلدان العالم الثالث المتخلفة. الأول، أن اقتصادات غالبية بلدان العالم الثالث، ومنها العربية، ترتبط بقوة بمراكز النظام الاقتصادى العالمى فى الغرب. وبالتالى عانت هذه الاقتصادات من تصدير الركود الاقتصادى إليها من الغرب عندما كان راكداً، وعليها الآن أن "تتكيف" مع عولمة النشاط الاقتصادى، لتساعد رأس المال العالمى على تحقيق أقصى أرباح على حساب العمل. وبقدر قليل من التجريد يظهر أن قسمة البلدان النامية من الاقتصاد العالمى هى العمل، والاستهلاك. ومن ثم يصعب أن
يجلب الاقتصاد العالمى، الواحد، خيراً عميماً فى هذه البلدان.
والانعكاس الثانى، وإن كان أقدم تاريخاً، هو أن توافر عائدات النفط الهائلة، وتدفقها إلى المؤسسات المالية فى مراكز الغرب، مع انكماش النشاط الاقتصادى هناك، أنتج كماً ضخماً من السيولة الدولية استخدمتها البنوك الكبرى فى الإقراض السهل نسبياً لدول العالم الثالث، التى استمرأت بدورها الاستدانة حتى وقعت فى فخ الديون الثقيلة، وتفاقم عبء خدمتها، فى سياق الأزمة الداخلية التى نتحول إليها الآن.
أما الأزمة *الداخلية* فتتمثل فى فشل سياسات وبرامج التنمية التى طُبقت فى غالبية دول العالم الثالث فى تحقيق أهدافها. وليس هنا محل البحث فى تفاصيل هذا التقييم أو أسبابه. ولكن كثيراً من البلدان المتخلفة وجدت نفسها فى خضم أزمة تنموية متفاقمة. ولجأ بعضها إلى أساليب متباينة لمواجهة الأزمة حقق بعضها نجاحاً وقتياً على صورة ارتفاع فى معدلات النمو الاقتصادى (مقاساً بالمؤشرات النقدية فى إطار نظام الحسابات القومية). كما حدث على صورة التوجه نحو الغرب سياسياً، والتوجه الاقتصادى نحو الخارج من خلال سياسات "الانفتاح"، والاعتماد على تصدير العمالة والسياحة، فى مصر مثلاً. ولكن المؤكد أن توافرت فى غالبية بلدان العالم الثالث، نتيجة لأزمة التنمية، شروط موضوعية مهدت لإعادة الهيكلة الرأسمالية فى أوقات مختلفة.
 

ومع ذلك فالمؤكد، كما سنبين، أن السوق *الطليق* غير قادر على إنجاز تنمية حق فى البلدان المتخلفة، خاصة فى منظور التنمية البشرية. بل إن إطلاق قوى السوق، دون رادع، مع تخلى الدولة عن مهامها الجوهرية فى التنمية، لابد سيؤدى إلى تفاقم التخلف وتدهور الرفاه الإنسانى فى غالبية بلدان العالم الثالث.
 

فتُرتب إعادة الهيكلة الرأسمالية، فى السياق المجتمعى السائد فى غالبية البلدان المتخلفة، كما سنرى، نتائج *اجتماعية عميقة وفورية*. وتكفى الإشارة، السريعة، أولاً، إلى أن إعلاء دور رأس المال فى النشاط الاقتصادى يستتبع، تلقائياً،
مُحاباته على حساب العمل، وتوكيد سيطرة الأول على الأخير. وغنى عن البيان أن مالكى رأس المال فى مُجتمع فقير قلة، وأن الكسب من العمل يُمثل مصدر الدخل الأهم للسواد الأعظم من الناس. مما يعنى، خاصة فى ظروف الأزمة الاقتصادية، استشراء البطالة السافرة والغلاء والفقر وتفاقم سوء توزيع الدخل والثروة. ولكن تبعات التغيير تمتد إلى نسيج المجتمع بكامله بما فى ذلك نسق الحوافز المجتمعى الذى ينحى لتكريس الفردية واقتناء المال.

كذلك تتفاعل إعادة الهيكلة الرأسمالية مع *السياق* *المؤسسى* الراهن. وفى بلدان العالم الثالث، التى تتسم بنُظم حكم غير مسؤولة أمام الشعب وباستشراء الفساد، تُكرس الآثار الاجتماعية لإعادة الهيكلة الرأسمالية تهميش السواد الأعظم من الناس وتركيز القوة فى قلة تمسك بمقاليد السلطة أو المال، أو كليهما.

ومن ناحية أخرى، فإن السياق المؤسسى، الاجتماعى والسياسى، القائم فى كثير من البلدان المتخلفة، لا يوفر الشروط اللازمة لأن تُحقق إعادة الهيكلة الرأسمالية أفضل النتائج المتوخاة منها. والواقع أن تحقيق إعادة الهيكلة الرأسمالية
لنتائجها المُدعاة يطلب تعديلات جذرية فى السياق المؤسسى تتعارض مع مصالح النُخب المُهيمنة الراهنة، أو التى يتم تشكيلها وتدعيمها من خلال إعادة الهيكلة الرأسمالية ذاتها، مما يحكم من حلقة شريرة تستعصى على الكسر.

المسألة ليست إذاً مجرد بعض "تعديلات اقتصادية"، وإنما هى *إعادة هيكلة* بحق يمكن أن تطول تبعاتها مناحى الحياة *كافة*، وفى العمق.


ب- فى مضمون "التنمية البشرية"
 

اكتسب مفهوم "التنمية البشرية" ذيوعاً منذ عام 1990 بتبنى برنامج الأمم المتحدة للإنماء للمصطلح، بمضمون محدد، وتركيب مقياس مبسط للتنمية البشرية، ونشر تقرير سنوى حول الموضوع. وينبنى المفهوم على التراث الفكرى الخاص بالبشر فى التنمية الذى مر بتطورات متتالية توصلت إلى جل العناصر التى تبناها تقرير التنمية البشرية الأول (برنامج الأمم المتحدة الإنمائى، 1990)[6].
 

ويقوم المفهوم على أن "البشر هم الثروة الحقيقية للأمم"[7] وأن التنمية البشرية هى "عملية توسيع خيارات البشر". والواقع أن "*الخيارات*" choices تعبير عن مفهوم أرقى، يعود إلى الاقتصادى أمارتيا سن A. Sen منذ الثمانينيات، ألا وهو "الاستحقاقات" entitlements. ويعبر عن *حق* البشر الجوهرى فى هذه "الخيارات".
ومن حيث المبدأ، فإن استحقاقات البشر يمكن أن تكون غير محدودة، وتتغير مع الزمن. ولكن عند أىٍ من مستويات التنمية، فإن الاستحقاقات الثلاث الأساسية، فى نظر تقرير التنمية البشرية، هى "العيش حياة طويلة وصحية، والحصول على المعرفة، وتوافر الموارد اللازمة لمستوى معيشى لائق". ولكن التنمية البشرية لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداه إلى أحقيات إضافية أخرى، تشمل "الحرية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وتوافر الفرص للإنتاج والإبداع، والاستمتاع باحترام الذات وضمان حقوق الإنسان". التنمية البشرية إذاً ليست مجرد تنمية "موارد بشرية" وإنما هى توجه إنسانى للتنمية الشاملة المتكاملة.
 

وعلى هذا يتسع مفهوم التنمية البشرية *لأبعاد ثلاثة*: الأول، *تكوين* القدرات البشرية، مثل تحسين الصحة، وتطوير المعرفة والمهارات، والثانى، *استخدام* البشر لهذه القدرات فى الاستمتاع، أو الإنتاج، أو المساهمة الفاعلة فى النشاطات الثقافية والاجتماعية والسياسية، والثالث، *مستوى الرفاه البشرى* المحقق، فى إطار ثراء المفهوم.
 

وقد ساهمت الإصدارات المتوالية من تقرير التنمية البشرية فى إثراء المفهوم بفحص تفصيلى للقضايا المتصلة به.
 

ونحن نعتقد أن "الإطار المؤسسى" institutional framework للتنمية البشرية هو مربط الفرس فى نهوض بلدان العالم الثالث. ومن حسن الطالع أن عالج تقرير التنمية البشرية لعام 1993 قضايا المشاركة participation، والحكم governance، والتنظيم المجتمعى (المحلى) community organization، باعتبارها محاور أساسية للإطار
المؤسسى اللازم للتنمية البشرية.
 

وتعليقاً على حمى "إطلاق قوى السوق" التى تسود بعض البلدان المتخلفة حالياً، يوصى هذا التقرير بالعمل على صياغة "أسواق صدوقة للناس   people-friendly marketsتسمح للناس بالمشاركة الكاملة فيها، والمشاركة العادلة فى
منافعها. أى أن تكون الأسواق خادمة للناس عوضاً عن أن يخدموها".
 

وتتضمن متطلبات هذه الأسواق الصدوقة للناس ما يأتى: الاستثمار الكافى فى التعليم والصحة ومهارات الناس لتأهيلهم للأسواق، تكسير عوائق دخول الأسواق، إتاحة المعلومات- خاصة تلك المتعلقة بفرص الأسواق، توفير الائتمان للفقراء، توزيع عادل للأصول، بنية تحتية مناسبة، ودعم كاف للبحث والتطوير.
 

كما يجب أن تُتخذ إجراءات قوية لتصحيح الآثار الاجتماعية السلبية لقوى السوق الطليقة، فى إطار مؤسسى مختل بداية. ويتعين حماية المنافسة الشريفة، والبيئة الطبيعية، والمستهلكين، والعاملين، والفئات الاجتماعية الضعيفة مثل النساء والأطفال.
 

كذلك يجب أن توجد شبكة أمان لرعاية "ضحايا قوى السوق" حتى يمكن "إعادتهم إلى المشاركة الفاعلة فى الأسواق"[8]، أساساً من خلال الاستثمار فى الطاقات البشرية، إعادة التدريب، وتوفير الائتمان الميسر، بالإضافة إلى دعم مستمر للفئات الاجتماعية الأضعف كالمقعدين والمسنين.
 

ويلاحظ أن التقرير قد ركز فى أكثر من موضع على الأهمية المحورية للتعليم والصحة، كمكونين جوهريين للتنمية البشرية. وتأكيداً على هذه الأهمية، وبالمخالفة للأيديولوجية السائدة حالياً عن دور الدولة، يوصى تقرير عام 1993
بأن "بعض الخدمات، على وجه الخصوص الرعاية الصحية الأولية والتعليم الأساسى، ينبغى أن تظل *مجانية دائماً*".
 

وقد واصل تقرير التنمية البشرية الاهتمام بالقضايا المهمة التى ترتبط، كما سنرى، بإعادة الهيكلة الرأسمالية، والتى عرضت على قمة التنمية الاجتماعية فى عام 1995، وهى البطالة والفقر والتشرذم الاجتماعى.
 

فقدم تقرير عام 1994 تحضيراً جيداً لقمة التنمية الاجتماعية، وبلور استراتيجيات فى مجالات مكافحة الفقر، وخلق فرص العمل، والتكامل الاجتماعى، باعتبارها ضمانات للعيش الكريم للجميع. وتبلورت مقترحات ذلك التقرير فى جعبة من السياسات المقترحة، تقبل سيادة نظام السوق بداية، وتتضافر بقوة تعبيراً عن تداخل القضايا الثلاث. ورغم تحفظات لنا على بعض مكوناتها، نود توضيح عناصر مهمة فى ثلاثية حزم السياسات هذه:
 

- أن على *الدولة* مسؤولية قاطعة فى توفير مكونات رأس المال، بالمعنى الواسع، للجميع: رأس المال البشرى عن طريق التعليم والصحة، وكذا رأس المال الطبيعى (توزيع الأرض)، والمالى (الائتمان).
 

- بل على الدولة توفير العمل للجميع، حتى فى مشروعات الأشغال العامة عند فشل الأسواق فى توفير فرص العمل.
 

- أن على الدولة مسؤولية حاسمة فى توفير البيئة المؤسسية لعمل الأسواق بكفاءة ولحماية المتضررين من عمل الأسواق.
- أن الحكم الديمقراطى اللامركزى والمشاركة الشعبية *الفاعلة* شروط جوهرية لقيام التنمية واستمرارها بوجه عام، وفى مواجهة مشكلات البطالة والفقر والتشرذم الاجتماعى، بوجه خاص.
 

ومن المهم هنا الإشارة إلى أن كثيراً من هذه التوجهات يتناقض مع مكونات إعادة الهيكلة الرأسمالية، خاصة على صورتها الفجة التى طُبقت، ومازالت تُطبق، عن جهل أو قلة روية أو عدم اهتمام برفاه السواد الأعظم من الناس، فى بعض البلدان المتخلفة.
 

وتمثل قمة التنمية الاجتماعية، فى تقدير الكاتب، اعترافاً دولياً بما جرّته سياسات إعادة الهيكلة الاقتصادية، على النمط الرأسمالى الطليق، فى كثير من بلدان العالم الثالث، من ويلات اجتماعية واقتصادية، تُنذر بفورات سياسية، من
خلال انتشار البطالة، واستشراء الغلاء، وتفاقم الفقر، وما يترتب على كل ذلك من تشرذم اجتماعى- رغم التسميات البراقة، والخداعة، من "إصلاح" و "تصحيح" و "تعديل" وغيرها. ويتحمل النظام الاقتصادى العالمى، وعلى رأسه المؤسسات المالية الدولية وعابرات الجنسيات والحكومات الغربية، المسؤولية الأولى فى هذه النتيجة، هذا من ناحية. غير أن هناك تنبه الآن إلى أن العواقب الوخيمة لالتحاق البلدان الأقل نمواً بالسوق الرأسمالى العالمى، من موقع ضعف وتخلف، قد ينجم عنها إضرار بمصالح مراكز الغرب المهيمنة، من ناحية أخرى. ومن هنا عقد القمة.
وقد تمخض المؤتمر عن "الإعلان" و "برنامج العمل" المعتادين دون كثير نتائج على أرض الواقع. فالقوى الواقفة وراء "التكيف الهيكلى" أقوى من الأمم المتحدة، ومن المؤتمرات التى تعقد فى كنفها.


ثانياً: القضايا المنهجية والفنية فى تقييم آثار إعادة الهيكلة الرأسمالية

 أ- فى صعوبة تقييم البرامج والسياسات
ينبغى أن يكون التقييم مكوناً أساسياً فى أى برنامج للتدخل الاجتماعى. إذ أن هذه البرامج تعنى، بالتعريف، وجود غايات مجتمعية تسعى هذه البرامج لتحقيقها. وفى البلدان النامية، حيث الكفاءات والموارد المالية نادرة، وعبء التخلف ثقيل،
يكتسب تقييم البرامج الاجتماعية أهمية خاصة. ولكن واقع بلدان العالم الثالث يدل على ضعف مكون التقييم، أو غيابه، فى منظومة التدخل الاجتماعى. وهناك بالطبع أسباب مجتمعية لهذه الظاهرة، مثل خفوت العقلانية وتخلف البحث الاجتماعى. وحيث تتضاءل القوة السياسية للفقراء فى المجتمعات المتخلفة، فإن تقييم وقع برامج التدخل الاجتماعى على رفاههم يكاد لا يلقى اهتماماً يذكر.
ولكن يعنينا هنا، بالأساس، توضيح أن البرامج الاجتماعية لها سمات تجعل من العسير تطبيق أساليب التقييم الدقيقة. فبرامج التدخل الاجتماعى الكبيرة عادة ما تكون مركبة وتتفاعل مع بيئة اجتماعية واقتصادية غاية فى التعقيد. ويزيد الأمر سوءاً أن معرفتنا عن الأنساق الاجتماعية هشة، مما يُدخل درجة كبيرة من عدم التأكد فى توصيف الأنساق الاجتماعية، وأنشطتها، ناهيك عن قياس معالم تلك الأنشطة ونتائجها. فالبرنامج يتأثر بالمجتمع الذى يقوم فيه. وقد يتفاعل مع برامج أخرى. ويمكن أن تتعدد نطاقات التأثير للبرنامج الواحد. وقد يخضع بعضها للتأثير من برامج تدخّل اجتماعى أخرى. وكل نطاقات التأثير تخضع للمؤثرات المجتمعية العامة. بل قد تتفاعل نطاقات التأثير فيما بينها بصورة مستقلة عن البرامج.
 

وفى الحالات التى تتجاوز فيها غايات البرنامج مخرجاته المباشرة، يدخل التقييم نطاق "تحليل الوقع الاجتماعى" social impact analysis، الذى يكون أحد عناصره إنشاء الصلة بين النتائج النهائية للبرنامج، فى تفاعله مع بيئته الاجتماعية، وبين أنشطة البرنامج ونتائجه المباشرة. ويقوم تقييم الوقع الاجتماعى لبرنامج ما على وجود قياسات لمعالم نطاقات التأثير، وعناصر البيئة المجتمعية، المتصلة بغايات البرنامج قبل، أو عند، بدء تنفيذ البرنامج بحيث يمكن مقارنة هذه القياسات الابتدائيةbase-line بقياسات مقابلة أثناء حياة البرنامج، أو بعد انتهائه.
 

ويمكن اعتبار السياسات الاجتماعية برامج للتدخل الاجتماعى بالمعنى الواسع. ولكنها، فى هذا التصور، تكون أقل البرامج الاجتماعية قابلية للتحديد الدقيق. ويترتب على هذا الاعتبار، مباشرة، نتيجتان: الأولى، أنه يمكن تطبيق كل ما
قدّمنا عن تقييم البرامج الاجتماعية على السياسات الاجتماعية. أما الثانية، فإن هذا التطبيق يصبح محفوفاً بصعوبات مفهومية ومنهجية جمّة، مؤداها أن أفضل الممكن فى تقييم السياسات الاجتماعية خاصة فى بلد متخلف، هو أمر تقريبى إلى حد بعيد، بالمقارنة بالتصور الدقيق للتقييم.


ب- بعض الاعتبارات الخاصة بتقييم إعادة الهيكلة الرأسمالية
 

بداية، ما هى الغايات التى يجب أن تُستخدم كمعايير لتقييم إعادة الهيكلة الرأسمالية؟
مرجعنا هنا هو مفهوم التنمية البشرية. وعليه، نقترح معايير ثلاثة أساسية لتقييم إعادة الهيكلة الرأسمالية: *تكوين القدرات البشرية*، و*توظيف القدرات البشرية*، و*مستوى الرفاه البشرى المحقق*.
ويعنى هذا التحديد، على وجه الخصوص، عدم الاكتفاء بتقييم إعادة الهيكلة الرأسمالية فى ضوء الأهداف المباشرة لبعض عناصرها، مثل تثبيت سعر الصرف أو التقليل من عجز الموازنة العامة. من ناحية، اهتمامنا هنا هو بالبشر وبأثر
السياسات والبرامج على تكوين قدراتهم وتوظيفها ورفاههم. ومن ناحية ثانية، فإن برامج إعادة الهيكلة الرأسمالية تتبنى، هى ذاتها، هدف النمو الاقتصادى كوسيلة لتحسين رفاه البشر. فلا إعادة الهيكلة الرأسمالية، ولا مجرد النمو الاقتصادى، يتعين أن تكون أهدافاً *فى حد ذاتها*.
وهنا يجب التفرقة بين مستويات مختلفة من الوقع الاجتماعى لإعادة الهيكلة الرأسمالية. إذ يمكن التمييز، على تتالى الاتساع، بين المناظير *النقدية*(مثلاً سعر فائدة حقيقى موجب)، و *المالية* (مثل تقليل العجز فى موازنة الحكومة)، و*الاقتصادية* (النمو الاقتصادى المقوم نقدياً)، و*التنموية* (التنمية البشرية)، والمستوى الأخير هو محل اهتمامنا الأساسى فى هذه الدراسة.
 

وبالطبع يمكن، بل يجب قدر الطاقة، إعمالاً لتضافر عناصر التنمية البشرية التى قدمنا فيما سبق، تبنى أهداف، أو غايات وسيطة، مثل مدى تعميم التعليم الأساسى على مستوى راق، أو انتشار البطالة، أو إقامة سياق مؤسسى مواتٍ للمشاركة الشعبية الفاعلة، أو مدى انتشار الفقر وتفاقمه، كمعايير تفصيلية لتقييم إعادة الهيكلة الرأسمالية.
 

وكثيراً ما يُثار فى مناقشات تقييم إعادة الهيكلة الرأسمالية أن التطورات السلبية "المصاحبة" لها ليست، فى حقيقة الأمر، "آثار"- أى لا يمكن إقامة علاقة "سببية" مباشرة بينهما- وإنما تعود هذه التطورات السلبية إلى السياسات *السابقة على* إعادة الهيكلة الرأسمالية من إفساد للآليات الاقتصادية، حسب الكلاسيكية المحدثة، عن طريق تدخل الدولة. وفى هذا *قدر* من الصحة. ويتفرع عن هذه الحجة عادة الادعاء بأنه *لو لم* تجرِ إعادة الهيكلة الرأسمالية لكانت الظواهر
السلبية قد تفاقمت بعد أكثر من المستوى المُشاهد فى وجود إعادة الهيكلة. وينطوى اختبار هذا الادعاء على تقييم النتائج المحتملة لسيناريو تصورى counterfactual، يصعب الحكم عليه، إن أمكن على الإطلاق.
 

والواقع أن أنصار إعادة الهيكلة الرأسمالية *لا* يقدمون تدليلاً مقنعاً على أن استمرار الأوضاع السابقة عليها كان سيؤدى إلى نتائج بعد أسوأ من تلك التى صاحبتها. فقط يشيرون إلى أن ما سبق إعادة الهيكلة الرأسمالية *ما كان يمكن أن يستمر*، وإلى أن *حكومات البلدان المعنية هى التى طلبت* من المؤسسات المالية الدولية المساعدة فى إعادة الهيكلة الرأسمالية.
 

ونتصور أن كلا الادعاءين صحيح. يؤكد الادعاء الثانى على المسؤولية الأساسية التى يجب تحميلها للحكومات فى الإتيان بعصر إعادة الهيكلة الرأسمالية ومساوئها، وفى هذا نتفق. ولكن الادعاء الأول، *لا* يعنى عدم وجود بدائل أفضل من البرامج التى تم تطبيقها.
 

ودون أى تعاطف مع سوءات الإدارة الاقتصادية والاجتماعية، فى البلدان العربية أو على صعيد العالم، فى الحقبة السابقة على انتصار الرأسمالية، فإن "حُمّى" إعادة الهيكلة الرأسمالية، خاصة بيع القطاع العام وهو أحد أهم مقوماتها، تفوّت على البلدان العربية مثلاً فرصة تنموية نادرة تقوم على *تحرير كلا القطاعين، العام والخاص، وتعريضهما لمنافسة بعضهما وللمنافسة الخارجية، فى إطار من كفاءة الأسواق وضبطها، ودعم محسوب من دولة- قادرة، كفء، حيوية، ومسؤولة أمام الناس- لجهد التنمية عموماً*.
 

إلا أن *الاستغراق* فى مثل هذا الجدل، فى تقديرنا، قليل الجدوى. والأجدى، فى منظور التنمية البشرية، هو إعمال المعايير التى قدمنا على تقييم الوضع الراهن وتطوره، وتقدير أثر استمرارهما على إمكانية التنمية البشرية، بدلاً من بذل
كثيرَ جهدٍ للإجابة على أسئلة من صنف: ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم تُطبق إعادة الهيكلة الرأسمالية؟
 

وحيث تقوم شواهد قوية على حدوث تدهور واضح فى التنمية البشرية فى ظل إعادة الهيكلة الرأسمالية، عما كان يمكن التنبؤ به حال استمرار الاتجاهات التى أفرزتها أوضاع ما قبل إعادة الهيكلة، كما سيتبين فى حالة البلدان العربية فيما
بعد، يصبح السؤالان الجديران بالنظر، وبإلحاح، هما: كيف تتأثر التنمية البشرية مع تطبيق إعادة الهيكلة؟ وماذا يمكن عمله لإعادة تأسيس التنمية البشرية؟
 

وحيث فرقنا بداية بين إعادة الهيكلة الرأسمالية وبرامج التكيف، نرى ضرورة لتوضيح أن تقييم الأخير أصعب من الأول. فبرامج التكيف عادة أقصر عمراً من إعادة الهيكلة. وبالتالى كثيراً ما يُثار، وبحق أحياناً، أنه لم يمض بعد من الوقت على تطبيق هذه البرامج ما يكفى لإخضاع هذه البرامج للتقييم. ولكن يتعين مراعاة أن هذه حجة لا تنقضى.
 

إلا أن الأهم من ذلك، فى تقديرنا، أن اختلاط عناصر برامج التكيف مع مكونات أخرى للسياق الاجتماعى والسياسى تُثير، بقوة، مشكلة تداخل الآثار بين البرنامج والسياق التى أوردنا فى القسم السابق. وفى المقابل، فإن إعادة الهيكلة
الرأسمالية تُمثل توجهاً مجتمعياً متكاملاً يقوم على تدخلات اجتماعية واقتصادية متعددة، مما يُقرب الصلة بينها وبين التطورات فى مضمار التنمية البشرية بما يبرر، بدرجة أعلى، إرجاع التطورات المُشاهدة إلى إعادة الهيكلة الرأسمالية.
 

غير أن تقييماً جاداً لآثار إعادة الهيكلة الرأسمالية فى البلدان العربية يواجه عقبة كؤود من *قصور قاعدة البيانات* اللازمة. فيطلب مثل هذا التقييم توافر بيانات *جيدة ومنتظمة ومقارنة*، فى عدد كبير نسبياً من البلدان العربية، عبر *فترة طويلة* من الوقت *قبل، وبعد*، بدء تطبيق إعادة الهيكلة الرأسمالية، عن *كل غايات*، *ووسائل**،* التنمية البشرية التى تُتخذ معايير للتقييم.
 

وغنى عن البيان أن هذا مطلب عزيز المنال ولو لواحدة من الدول العربية، ناهيك عن عدد منها، بالنسبة للعديد من المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية اللازمة لتقييم شامل لإعادة الهيكلة الرأسمالية.
 

فلا تتوافر سلاسل زمنية بالطول المطلوب لعدد معقول من البلدان العربية إلا فيما يتعلق ببعض المتغيرات النقدية والمالية، مثل مقاييس الأسعار وأسعار الصرف ومؤشرات التجارة الخارجية وتقديرات الناتج الإجمالى، والتى تضمن المؤسسات المالية الدولية توافرها لأغراضها.
 

والأهم أنه لا تتوافر سلاسل من المسوح الميدانية الجيدة لعناصر التنمية البشرية، قبل وأثناء تطبيق البرامج، وهذه المسوح هى المصدر الرئيسى لتقييم أثر البرامج والسياسات الاقتصادية والاجتماعية على التنمية البشرية.
 

ولعل أحد سوءات إعادة الهيكلة الرأسمالية أن يقل إنتاج البيانات عموماً بسبب خفض الإنفاق الحكومى، وتداعى مؤسسات التخطيط. بل تتدهور نوعية البيانات المنتجة تحت ظروف الخدمة الحكومية فى البلدان العربية.
 

وفى النهاية، يكتسى تقدير آثار إعادة الهيكلة الرأسمالية بحساسية سياسية شديدة بسبب التدهور البالغ فى أوضاع الغالبية من ناحية، مع وجود فئات صاحبة مصلحة فى التحول الرأسمالى الطليق، مهيمنة وتتزايد قوتها باستمرار، من ناحية أخرى. ويؤدى هذا إلى التضييق فى نشر البيانات، وحتى محاولة استنطاقها ما يروم الأقوياء.
 

وحتمى، والحال كذلك، فوق الصعوبات المنهجية التى أسلفنا ذكرها، أن تكون مقاربتنا لتقييم إعادة الهيكلة الرأسمالية فى هذه الدراسة *انتقائية وتقريبية ومتفاوتة من قطر عربى لآخر*، حسب توافر البيانات.
 

ومن المفيد، فى تقديرنا والحال كذلك، الاستعانة بالقرائن القائمة على آثار إعادة الهيكلة الرأسمالية فى البلدان غير العربية. وهناك مجموعتان من البلدان طبقتا سياسات إعادة الهيكلة الرأسمالية بالمعنى الواسع، أو برامج تكيف، لفترات
طويلة نسبياً فى أمريكا اللاتينية وفى أفريقيا جنوب الصحراء، ويتوافر تراث علمى واسع عن تقييم آثارها. ودون إهمال خصوصيات كل مجموعة، وحتى خصوصيات الدول الداخلة فى كلٍ منهما، فإن نتائج تقييم تطبيق إعادة الهيكلة الرأسمالية فى هاتين المجموعتين تصلح كمؤشرات للآثار المحتملة لنفس السياسات فى البلدان العربية. ومن حُسن الحظ أن البلدان العربية تحتل موقعاً وسطاً بين المجموعتين المُشار إليهما فى مستوى التقدم العام مما ينطوى على قبول الآثار المشتركة بين المجموعتين كنتائج متوقعة لنفس السياسات فى البلدان العربية.
 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا