لقد كان الصراع في الإسلام وما زال وسيبقى صراعاً سياسياً… وكل المحاولات التي جرت لتصوير ما جرى في الإسلام على أنه خلاف عقائدي أو فكري لم تكن موفقة بل كانت في الغالب محاولات تغليف للصراع السياسي وذلك لمنع الحرج الناتج عن إكتشاف الناس أن كل ما لحق بالإسلام من ضرروخسارة كان بسبب الصراع على السلطة وليس كما صوره الفقهاء بأنه صراع عقائدي أو فكري حول تفسير ما أراده رب العزة.

ولكي نعرف جذور هذا الصراع السياسي لا بد أن نعود للبيئة التي ولد فيها الإسلام. فمكة تختلف عن أية مدينة في التأريخ في أنها كانت وما زالت محج الناس بشكل منتظم ومستمر منذ آلاف السنين. ولم تحظ مدينة في التأريخ بهذا الشرف فكل حاضرة صعدت ثم سقطت إلا مكة كانت محج الناس ومحط أنظارهم قبل الإسلام وإزدادت بعد ذلك. فرغم أن العرب كانوا يأتونها لإسباب غير تلك التي أقام إبراهيم بيته من أجلها إلا أنها كانت تزار كما تزار اليوم وكانت مركز الدين ومركز التجارة ومنبر التباري في الشعر، أي بإيجاز كانت عاصمة العرب السياسية والفكرية والإقتصادية رغم عدم وجود نظام سياسي ليمسك بكل ذلك. فقوله تعالى ” أوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ” لا يعني مكة بعد إعلان الرسالة المحمدية بل منذ رفع إبراهيم القواعد وستظل كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ويتضح من هذا أن من تمكن في مكة فإنما تكون له حظوة وقوة وجاه لاجتماع عوامل ذلك. وهكذا غدا شيوخ قريش حريصين على التمسك بذلك الوضع لأنه كان يمنحهم القوة والسلطة والنفوذ وفقدان موقعهم في مكة كان سيؤدي بكل ذلك.

ولد الإسلام في ظل ذلك. ولم يولد رسولنا الأكرم في بيت من البيوت المتنفذة من بطون قريش ذلك لأن بني هاشم كانوا أقل مالاً وأعز نفراً إذا ما قيسوا بمخزوم وزهرة وأمية على سبيل المثال. وقد كان شيوخ هذه البطون من قريش ينظرون لبني هاشم نظرة استصغار. لذا كان من الطبيعي، حين دعى الرسول الأكرم قريش لإتباعه، أن تثور ثائرة شيوخ تلك البطون القريشية المتعالية. لأنهم أدركوا أن نجاح الهاشمي سيؤدي لزوال نفوذهم وسطوتهم. كما إنهم إعتقدوا أن إنصراف العرب عن مكة إذا تمكن محمد (ص) منها كان سيقطع تجارتهم ويسلبهم المال وهو أداة القوة الأولى ولا شك.

وهكذا نرى أن أغلب قريش كانت معادية للدعوة المحمدية والتي اقتصرت أول الأمر على بني هاشم “وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِين” ونفر من قريش وبعض العرب من غيرهم. وحين لم ينجح العداء فإنهم قرروا مقاطعتهم إقتصادياً. ويبدو أن قريش هي التي علمت الغرب معنى وفائدة الحصار الإقتصادي. فقد كان نفي الرسول وأهله الهاشميين ومن معهم  إلى شعب أبي طالب ومحاصرتهم ومنع أي شخص من التعامل معهم لثلاثة أعوام حيث قاسوا الأمرين دليلاً على العداء الذي كان شيوخ قريش من أمية ومخزوم وزهرة يكنونه لمحمد (ص) وبني هاشم. فلا يستغربن أحد من حصار بوش للعراق فقد حاصر أبو سفيان بني هاشم بالطريقة نفسها وبقسوة لا تختلف كثيراً.

هكذا نجد أن الصراع حول الإسلام كان صراعاً سياسياً حيث أشك أن اياً من شيوخ قريش كان يقاتل حقاً دفاعاً عن اللاة والعزى. بل كان يقاتل دفاعاً عن موقعه الإجتماعي والسياسي والإقتصادي أولاً وأخيراً. فهل يعقل أحد أن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس (جد معاوية لأمه) حين خرج في معركة بدر ليقاتل فيصرع على يد حمزة أو علي كان يقاتل ليموت دفاعاً عن هبل؟؟ وهذا الصراع الذي كان قائماً عند ولادة الإسلام امتد في عصر حضانة الدين الناشئ واستمر بشكل أو بآخر بعد ذلك ثم انتقل إلينا تراثاً وتأريخاً نعيش في آثاره بوعي أو بدون وعي، كما سنرى.

وحين ساد الإسلام ودخل رسولنا الأكرم مكة دون قتال دخلت بقية قريش في الإسلام طوعاً أو كرهاً أو رياءً، وهم الذين اشار إليهم رسولنا الأكرم بهذا التسلسل في قوله (من دخل المسجد فهو آمن  ومن دخل بيت أبى سفيان فهو آمن  ومن أغلق بابه فهو آمن ) . فكان منهم منافقون كما كان من أهل المدينة “وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ مُنَـٰفِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا۟ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍۢ”….وإذا كان المنافقون من حول الرسول الأعظم في مكة والمدينة فهل يكون من العجب أن نجدهم في كل تأريخ الإسلام وفي كل زمان ومكان؟

ولم يختف الصراع السياسي داخل قريش حتى في عهد الرسول الأكرم (ص)  وإن كان ضعف على السطح كما يبدو إلا أنه ظل قائماً، وقد برز في مرض الرسول الأخير. فحين عاده شيوخ قريش في بيته يوم الخميس وطلب (ص) دواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أدرك عدد منهم أنه ربما كان سيوصي ولم يكونوا راغبين في ذلك لأن أية وصية من النبي الأكرم كانت ستحسم موضوع الخلافة بعده. فكثر اللغط في المجلس وقال أحدهم إن الرجل ليهجر وقال آخر لسنا بحاجة لوصية فعندنا كتاب الله سيغنينا عن ذلك….فغضب (ص) وقال اخرجوا لا ينبغي عند نبي تنازع. فخرجوا ولم يعودوا. وقبض (ص) يوم الإثنين ولم يكن أحد من الصحابة الذين طردوا من بيته قد رآه قبل صعوده للسماء. وقد وصف حبر الأمة عبد الله بن عباس ذلك الحدث الجلل بأنه “رزيئة الخميس”. فهل هناك قارئ للتأريخ يقدر أن يصف ما حدث ذلك الخميس بغير الحدث السياسي فضلاً عن أنه رد للأمر الإلهي “وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُوا۟ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ”.

ثم ما لبث الصراع السياسي أن تفجر بعد قبضه (ص). فقد عقد أخطر مؤتمر سياسي في تأريخ الإسلام كله. لكنه رغم خطورته واثره على تأريخ الإسلام منذ ذلك اليوم حتى الآن فإن ما وصلنا عنه لا يتعدي نتفاً وحكايات متفرقة. فلم ينتظر شيوخ المسلمين دفن رسولهم ونذيرهم، فاجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتداول في أمر الخلافة. وحين سمع شيوخ قريش سارعوا لحضور الإجتماع لقطع الطريق على الأنصار من حسم موضوع الخلافة، كل ذلك بينما كان بنو هاشم مشغولين بدفن رسولهم الأكرم (ص). ويبدو لي أن مؤتمر سقيفة بني ساعدة السياسي وما جرى فيه كان من الخطورة مما دفع القيادة السياسية في العقود الذي تلته أن تحجب عنا ما أمكن حجبه ليظل المؤتمر سراً من أكبر أسرار الإسلام. إلا أن نتفاً مما وصلنا عما دار في الإجتماع السياسي مما يدعمه ما حدث بعد ذلك يكاد يلخص بما يلي.

طلب الحاضرون من الأنصار أن تكون الخلافة في الذين نصروا فرد الحاضرون من قريش أنهم أولى بها. وسمع المسلمون في المدينة الأذان ببيعة أبي بكر بينما كان الرسول الأكرم يدفن. وخرج شيخ الأنصار سعد بن عبادة من الإجتماع غاضباً وترك المدينة ولم يعد إليها حيث قتل بعدها غيلة في وادي حوران في ظروف غامضة. ورغم أننا لا نريد الخوض في التأريخ إلا أنه لا بد من التذكير بأن الرسول الأكرم (ص) كان يعقد راية الأنصار لسعد بن عبادة في غزواته، وسواء أرضي القارئ عن سلوك سعد أم لم يرض فإن الحقيقة التي يجب الإقرار بها هي أن شيخ الأنصار ومعه العديد من أتباعه لم يرضوا على القرار السياسي الذي تمت به أول بيعة بعد الرسول (ص). ولنا في مقتل سعد بن عبادة وقفة أخرى مع تأريخ الإسلام السياسي. فقد كتب عن مقتل عثمان بن عفان وقامت الحروب بحجة المطالبة بدمه. لكن شيئاً لم يكتب عن مقتل شيخ الأنصار الذي قاد قومه في كل حروب الدفاع عن الإسلام وثبت في أحد وحنين. أليس من حق أهله بل أليس من حق الأنصار أن يعرفوا لم قتل شيخهم ومن قتله ومن انتفع من موته؟ أليس من حق المسلمين أن يعرفوا سر إغتيال شيخ الذين “ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوٓا۟” والذين لم يرتكبوا إثماً بحق محمد (ص) حتى يحتاجوا لاختلاق حديث (الإسلام يجب ما قبله)؟ أم أنها السياسة التي وجدت أن من الأفضل طي هذه الصفحة؟

ولا بد من وقفة عند مؤتمر سقيفة بني ساعدة لفهم بعده السياسي وتأثيره في تأريخ الإسلام حتى اليوم. وأول ما يجب تذكره هو أن سرية أسامة بن زيد بن حارثة قد تحركت من المدينة قبل أن يقبض الرسول (ص). وقد عقد (ص) الراية لأسامة بن زيد وأمره بالتحرك لقتال الروم في شمال جزيرة العرب وجعل كل شيوخ المهاجرين والأنصار في جيش اسامة حتى تململ البعض، فقال (ص) ما فعلته عن أمري! بل إنه (ص) ذهب أبعد من ذلك فقال قولة لم يسبق له أن قال مثلها حين صرح قائلاً (لعن الله من تخلف عن جيش أسامة). فإذا كان الأمر كذلك فإن الصحابة من المهاجرين والإنصار كانوا خارج المدينة حين قبض (ص) فكيف عادوا بهذه السرعة وعقدوا مؤتمرهم السياسي في السقيفة؟ ولعمري لا أدري لم تلك العجلة في إختيار خليفة حتى قبل دفن الرسول؟ فهل يعقل أن أحداً كان يخشى على الدين؟ فإذا كان هناك من يخشى على الإسلام والمسلمين فلا بد أن ذلك لضعف في إيمانه. فالذي أرسل محمداً (ص) ثم قبضه كفيل بحماية دينه!

ثم لا بد من التساؤل: من حضر المؤتمر وماذا دار فيه؟ ذلك لأن معرفة الحاضرين مؤشر مهم على صدق الإدعاء بأن البيعة كانت بيعة دينية سليمة شارك فيها أكبر عدد من الصحابة. كما ان معرفة ما دار من جدل يغنينا عن التكهن عن الأسس التي بني عليها اختيار الخليفة، وهل كان هناك إعتبار ديني من سبق وتقوى وجهاد أم ان الجدل كان فعلاً كما رشح قد دار حول ما إذا كانت قريش أولى بالخلافة لأنها شجرة النبوة؟

إلا أننا ما دمنا لم نحصل على تفصيل لما دار في المؤتمر فإننا ليس لدينا سوى الإستنتاج عما جرى بناءً على سلوك البعض ونتائج المؤتمر. والمؤشر السياسي الأكبر الذي خرج عن المؤتمر هو ما صرح به القريشي للهاشمي حين قال (كرهت قريش أن تجتمع فيكم الخلافة والنبوة) .

ولا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يصف هذا التصريح بأية صفة غير الصفة السياسية. ذلك لأن كره قريش كما وصفه المتحدث لا علاقة له بالدين وما إذا كان في بني هاشم من يصلح للخلافة لسبقه وجهاده وتقواه. أي بمعنى آخر إن شيوخ بطون قريش من غير بني هاشم قرروا ألا يكون خليفة النبي الأكرم (ص) من بني هاشم حتى إذا كان ذلك الهاشمي أهلاً للخلافة!

وهكذا كان فأول خليفة كان من تيم وثاني خليفة كان من عدي وثالث خليفة كان من أمية قبل أن تنتهي الخلافة في بني هاشم لأنه لم يعد بالإمكان التقدم على الهاشمي فإذا كانت قريش أولى بالخلافة لأنها شجرة النبوة فالهاشمي ثمرة تلك الشجرة ولا شك.

كما أن مؤتمر سقيفة بين ساعدة ثبت مبدءاً خطيراً في تأريخ الإسلام ألا وهو منع أي أنصاري من الوصول للخلافة حيث إن تثبيت أن قريش أولى بها لأنها شجرة النبوة أصبح سنة لم تنقض. وقد تم نتيجة ذلك عزل الأنصار عن السلطة بشكل دائم، بل إن الأمر ذهب أبعد من ذلك حيث إن دور الأنصار في الإسلام حجم بشكل منتظم فساد أبناء الطلقاء من قريش في الوقت الذي غاب المجاهدون الذين “ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوٓا۟” عن المسرح….. بل إن  تأريخ الإسلام الذي كتب في العقود والقرون التي تلت أنسانا حتى اسماء الأنصار الأوائل…. فكم مسلم اليوم لم يسمع بابي سفيان الأموي القريشي والذي لم يسلم إلا بعد فتح مكة؟ لكن كم مسلم اليوم يعرف شيئاً ما أو حتى إسم البراء بن معرور الأنصاري وهو من أوائل المسلمين الذين “ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوٓا۟” بايع في العقبة الأولى وكان أول من وجه وجهه للبيت الحرام حتى قبل أن يصرح (ص) “فول وجهك شطر المسجد الحرام”؟ ومن من المسلمين اليوم يعرف شيئاً عن أبي الهيثم مالك بن التيهان الأشهلي أول الستة الأنصارالذين بايعوا الرسول وشهد العقبتين وكان نقيب بني عبد الأشهل مع أسيد بن حضير؟ بل من من المسلمين اليوم قادر أن يحصي اسماء نقباء المدينة وكانوا من أشرف الصحابة الذين آخا رسول الرحمة (ص)  بينهم وبين عدد مشابه من المهاجرين وقال في حقهم عز من قائل ” وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلْإِيمَـٰنَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةًۭ مِّمَّآ أُوتُوا۟ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌۭ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ”.

إن قرار قريش للاستئثار بالسلطة ظلم غير القريشيين وغمط حقهم فكتب تأريخنا على ذلك الشكل المزيف والمعيب….فإذا قال قائل إن التأريخ ليس مزيفاً فلا بد أن يكون السؤال أخطر وأهم وهو لماذا إذن أبعد الأنصار عن الخلافة والولاية؟ من قرر ذلك وما حجته؟ فهل كان لخالد بن الوليد، والذي قتل المؤمنين في أحد، مهما صلح إسلامه، أن يتقدم على أي أنصاري قاتل في أحد لو لم يكن خالد قريشياً فتشفع له وترفعه بطون قريش من مخزوم وأمية وزهرة وتيم؟

ثم تدخلت السياسة في الصلاة في شواهد عدة نختار واحداً منها. ذلك أن أغلب المسلمين يذكرون في صلاتهم العشرة البررة المبشرة بالجنة. فلماذا يا ترى كلهم من قريش؟ أيعقل أن رسول الله لم يبشر أنصارياً بالجنة حتى يذكر مع القريشيين؟ ثم أين عمار بن ياسر وهو أول مسلم بشره الرسول الأكرم(ص) بالجنة؟ بل إن عماراً أسلم قبل ثمانية من العشرة المبشرة بالجنة. ألا يقتضي السبق في الإسلام والسبق بالتبشير أن يكون أول المذكورين في الصلاة ذلك لأن السبق يحكم كل شيء “وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلْأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـٰنٍۢ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا۟ عَنْهُ”. فالأنصار الذين بايعوا الرسول الأكرم (ص) في بيعة العقبة الأولى لهم السبق على أي قريشي أسلم بعدهم مهما علا شأن قومه ومهما كانت له المكانة الدنيوية في مكة (رب عبد في طمرين لو أقسم على الله لأبر قسمه). فإذا اعترض معترض على هذا فليأتنا بدليل من القرآن يدعم طعنه لا أن يدفع بما قاله أحد الفقهاء بفضل هذا الصحابي أو ذاك.. كما لا يحق للمعترض أن يحتج بحديث موضوع مفاده (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام)… فلو كان الأمر كذلك لما اختار تعالى محمداً (ص) نذيراً لأم القرى ومن حولها، ولفعل، وحاشاه أن يفعل، كما طلبوا “وقالوا لولا نزل هذا القران على رجل من القريتين عظيم”!

كما إن بيعة مؤتمر السقيفة أسست لسوابق خطيرة في الإسلام. فإذا أردنا أن نقفز فوق عقود من التأريخ فإن مما أصبح خلافاً يقال عنه أنه عقائدي (وإن كان عندي سياسياً) بين السنة والشيعة هو ما أخذه فقهاء السنة على الشيعة أنهم ادعوا أن الإمامة أمر إلهي وهي في نسل فاطمة. فقال فقهاء السنة أن الإمامة إختيار من المسلمين بشورى وبيعة… وليس عندي مشكلة في هذا الرأي العقلاني إذا تحقق فعلاً واختار فيه المسلمون أولياء أمرهم بالشورى والبيعة السليمة…. لكن متى تحقق هذا في تأريخ الإسلام؟؟؟

فقد قال عمر بن الخطاب عن بيعة أبي بكر (كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها) على ما أخرجه البخاري! ولا أعتقد أن عمر بن الخطاب كان يطعن بأهلية أبي بكر في الخلافة لكنه كان يشير إلى خطورة ما حدث بالطريقة التي حدث فيها…فبيعة أبي بكر كانت عملاً سياساً!

وحين أدركت الوفاة أبا بكر فإنه أوصى بالخلافة من بعده لعمر بن الخطاب، فكانت أول سنة للوصية رغم أن أغلب فقهاء المسلمين يجمعون على أن النبي الأكرم (ص) لم يوص لأنه لم تكن حاجة للوصية ما دام الصحابة موجودين والقرآن بين أيديهم. فلماذا أوصى ابو بكر؟ أكان أحرص على الإسلام من سيده الأكرم (ص)؟ ألم تكن وصية أبي بكر قراراً سياسياً ليقطع فيه الطريق على بني هاشم؟

وحين أوشك عمر بن الخطاب على الموت أوصى بتشكيل لجنة من ستة، كلهم من قريش، ما فيهم من مهاجر غير قريشي وإن كان ذلك المهاجر قد سبق عمر والقريشيين في إسلامه وما فيهم أنصاري واحد مهما عظم إيمانه. وأوصى عمر أن يكون الخليفة من بين الستة فإذا انقسمت اللجنة نصفين فالخليفة من النصف الذي فيه عبد الرحمن بن عوف. وهذه الإجراء الذي وضعه عمر سياسي بالكامل. ذلك لأن أية لجنة لا بد أن تكون فردية إذا أريد أن يكون فيها أغلبية وأقلية. كما أن إعطاء الغلبة لنصف عبد الرحمن بن عوف كان قراراً سياسياً محسوباً لإعطائه صوتين وتهميش صوت علي في اللجنة. ثم لماذا يراد منا أن نقبل أن الخمسة من أعضاء اللجنة الذين أسلموا بعد عمار بن ياسر كانوا أحرص على الإسلام من عمار؟ أليس إختيارهم وتركيبة اللجنة كان قراراً سياسياً ليس فقط لإبقاء الخلافة في قريش وإنما حتى لتأمين عدم وصولها لبني هاشم؟ وحين انقسمت اللجنة على  أسس سياسية كانت البيعة لبني أمية في شخص عثمان بن عفان. ومن أمتلك المقدرة على القراءة السياسية السليمة فما عليه سوى أن يراجع التأريخ ليفهم كيف تم إستبعاد علي ولماذا رفض البيعة على سنة الشيخين ولماذا رفض بن عوف حق علي في الإجتهاد كي يخلص الباحث من كل ذلك بأن تلك السابقة السياسية الخطيرة أرست قاعدة أخرى من القواعد السياسية في تأريخ الإسلام والتي تنسحب على حياتنا حتى اليوم!

وما أن قتل عثمان بن عفان على يد أهل مصر (وليس على يد بني هاشم) حتى دخل الإسلام في أكبر فتنة له لم تنته إلا بعد وفاة علي بإستقرار الدولة لبني أمية لثمانين عاماً؟

فأين تمت البيعة بعد الشورى التي تحدث ويتحدث عنها فقهاء المسلمين؟ أكانت في بيعة أبي بكر أم في بيعة عمر أم في بيعة عثمان أم في بيعة علي أم في الخلافة الوراثية التي أرساها بنو أمية فصارت سنة حتى يومنا هذا؟ وكيف يؤخذ على الشيعة إيمانهم أن الخلافة في الأمة من نسل فاطمة بينما فعل السنة ذلك تماماً حين جعلوا الخلافة وراثية في بني أمية وبني العباس وبني عثمان؟؟ أليست هذه هي السياسة بعينها فليس في الصراع بين السنة والشيعة حول مفهوم الخلافة والإمامة أي خلاف عقائدي أو فكري كما يزعم فقهاء الطرفين في كتب التأريخ، إنما هو صراع قبلي سياسي كان قائماً في قريش قبل الإسلام وانتقل للإسلام وما زال سائداً بين المسلمين حتى اليوم؟

لقد كان الصراع في الإسلام وما زال بين موالين لبيت علي وموالين لبيت عائشة… أدري أن هذه المقولة ستثير الكثيرين حتى عدداً من أصدقائي لكن الوقت قد حان لكي نلقي نظرة موضوعية على تأريخنا.. هذا ما سأحاول أن أكتب لاحقاً… قبل أن أعرض كيف أصبحت الشريعة سياسة والفتح الإسلامي سياسة وإن حاولوا أن يضفوا عليها طابعاً دينياً…

وأرجو مخلصاً من الصديق الذي يغضبه ما أقول أن يقف ويسأل نفسه بأمانة ما في الحدث أو الحديث أو المقاربة التي وردت في المقال ما هو مختلق أو غير متطابق بموضوعية مع البحث التأريخي. فإن وجد ذلك فليرده لي. وإن لم يجد فليمسك غضبه حتى أنتهي مما أريد قوله وعندها نتحاور….

 

وللحديث صلة…

عبد الحق العاني

31 تشرين أول 2013