%@ Language=JavaScript %>
|
لا للأحتلال |
|
---|
غائب يحضر لأول مرّة في لندن
فيحاء السامرائي
(أمسية عن الروائي غائب طعمة فرمان)
من منّا لا يعرف الروائي الراحل غائب طعمة فرمان؟ ومن منّا لا تشهد كراريس دروس التعبير له، محاكاة لإسلوب ذلك الأديب؟ ...
لاتزال شخصيات مثل سليمة الخبازة وحمادي العربنجي وغيرهم، شاخصة ومحفورة في كهوف ذاكرة جيل الستينيات والسبعينيات، وربما من بعدهم...وهاهي عشرون عام ونيّف، تمرّ على وفاة فرمان ولم يأخذ حقاً في ذكر رسمي أوتكريم أو تذكّر في أوساط ثقافية من أبناء بلده، بل لا يوجد له حضور بارز حتى في موقع اتحاء الأدباء العراقيين...وكما نعرف ان الإحتفاء بأي مبدع له بصمات جليّة في حقل أدبي كالرواية مثلاً، هو لامحالة دليل حضاري على رقي مجتمعات، ونضج مؤسسات، وعلاء وعي شعوب ودول...
حضرتْ تلك التساؤلات وغيرها، في أمسية أحرزت فيها مؤسسة الحوار الانساني دور الريادة، مقارنة بمنتديات ثقافية أخرى في لندن، في سعي حثيث لها للإحتفاء برواد الإبداع العراقي ضمن برنامج اسبوعي لها، خصصته تلك الأمسية للروائي العراقي غائب طعمة فرمان (1927-1990).
سلّط الضوء في تلك الأمسية، الدكتور المحاضر كاظم الموسوي، على جانب ما كُتب عن الأديب فرمان من أطروحات ودراسات عليا، وعلى الروائي نفسه في ورقة منفردة...كما رافقت السينما حياة الغائب غائب، في فيلم للمخرج فاروق داوود بعنوان - ذاكرة الجذور، وبحضور جمهور متشوق لهفة، لمعرفة المزيد عن ذلك العملاق البسيط الراحل، مدركين بأن ندوة أو أمسية واحدة لا تكفي لتغطية مفاصل عديدة من أدبه وحياته.
أطاريح حضرت بقوة عن غائب
صعوبة توفير المصادر، وابتسار الكتابات النقدية أو شحتها، لم تثن بعض المثقفين خارج العراق وداخله، كما أوضح الموسوي، عن البحث عن فرمان والكتابة عنه، حيث صدرت دراسات أكاديمية لنقاد وباحثين أكاديميين، أبرزهم خالد المصري والناقد أحمد النعمان، كما ودرسه بعض الطلبة لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب، منهم شاب فلسطيني في أمريكا، ومن العراقيين زهير شليبة، وفاطمة عيسى، وعلي ابراهيم، وتدافع اليوم أيضاً عن أطروحة عنه، طالبة من جامعة تكريت.
وعلمنا من الضيف المحاضر، بان أطروحة شليبة الموسومة، غائب طعمة فرمان دراسة مقارنة في الرواية العراقي، شليبة، الذي كان قريباً من فرمان في بلاد غربته، تناول في أطروحته دراسة مقارنة عن الرواية العراقية، وفي الخصوص عن فرمان، تضمنت فصولاً في أصل الرواية العراقية، البدايات، عالم غائب، ملاحق ومقابلات، ومصادر بحث.
في مقدمته، أورد شهادة لناقدة روسية عن فرمان، وتطرق الى وظيفة الأدب الاجتماعية الجديدة، وعزلة الروائي وتغربه المبكر واغترابه...وتتسع الدراسة أيضاً لتشمل جميع مراحل حياة الأديب الراحل من قراءاته الاولى لكتب التراث، مروراً بنهله من الأدب المترجم عن الفرنسية والأنجليزية، ورحلة اذهابه الى مصر، وحضوره المجالس الأدبية، كمجلس الزيّات وسلامة موسى، والمجلس الطليعي، حيث التقى بنجيب محفوظ هناك، وتأثره بذلك الكاتب في طرائق سرده ومعالجاته القصصية وبناء الحدث الروائي، وسمات شخصيات العمل الأدبي، فأبدع بالسرد الموضوعي ويليه الذاتي، كما ولجأ أيضاَ الى السرد المختلط...كل ذلك بطاقة رؤيوية متميزة وقدرات وأنساق فنية عالية، يكتنفها صدق ونقل وفيّ، لصور البيئة العراقية ولشخصيات اجتماعية واقعية من صميم مجتمعه، تغطي مراحل زمنية وتحولات مرحلية تاريخية، وانقلابات سياسية وتقلبات اجتماعية، كل ذلك بأدوات بارعة ومتمكنة فنياً، ومحبوكة بترابط غير متخلخل للعناصر الروائية المتشكّلة لجوهر ولُحمة النص... وتطرق الضيف المحاضر أيضاً، الى أطروحة فاطمة عيسى التي بعنوان (غائب طعمة فرمان روائياً)، الصادرة عن دائرة الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة 2004، والتي تناولت فيها مقدمة عن الرواية الروائي، ثم تطرقت الى طرائق السرد وأبنية الحدث في روايات فرمان، قبل أن تركز في البحث على الشخصيات والزمان والمكان في رواياته...وكان لاختيار الدارسة كتابات فرمان سببين، أولهما موضوعي، باعتبار أن الروائي رائداً ومعلماً بارزاً في الرواية العراقية، وثانيهما ذاتي، لإلتقائها والروائي في موضوعة الغربة والحنين...وتناولت في الفصول الأخرى الشخصيات الروائية، ثم عنصري الزمان والمكان في أدبه.
للمكان، كما جاء في إطروحة علي ابراهيم وكذلك فاطمة عيسى، أهمية استثنائية في روايات فرمان، حيث استعاد روح الأمكنة في مخيلته وذاكرته ليرتد متشظياً خلاقاً حياً بعد ذلك، في كل أعماله...الأحياء الشعبية نفسها، و الصور اليومية عينها، وذات التفاصيل الدقيقة والفوتوغرافية، التي تتسلل الى الحدث الروائي بدون افتعال وإقحام...وضع فرمان أصبع قلمه على أمكنة تتنفس فيها الذاكرة، برئة وعلاقة متبادلة بينها وبين الانسان العراقي، علاقة أكسبتها هوية وكياناً متفرداً، وجعل المكان يتلاقح مع الحدث، فيأتي مرة جامداً وأخرى طارداً، مما يجعله عنصراً داخلياً للرواية تنمو فيه الشخصيات ولا تتحرك فيه فقط...وبذلك تخلد الأمكنة وتتغلغل في حواس القارئ، حتى يكاد يشم رائحة بلل الطين بين الورق، وعفونة مياه آسنة لصرف صحي مكشوف، و(السيان) والنتانة في أزقة ضيقة بائسة، ونفس الخيل في الزرائب ( الطوايل) وروثها المتروك ورائها...انه قاع المدينة البغدادية الشاهد على مواجعها وأزماتها...كما يتحسس القارئ في الوقت نفسه، بل ويتنفس رائحة احتراق في ثلوج البلاد البعيدة، يولعه حنين وشوق متوثب للروائي، الى بلد متّقد في القلب، يأبى أن يتحول الى رماد.
والشيء ذاته ينطبق على عنصر الزمان، بكل تموجاته المتراوحة بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة واللحظة، بأنساق زمنية تتلاعب بها مهارة وجودة موهبة امتاز بها الروائي، مستخدماُ الارتدادات بشكل فعّال وضروري لسير الحدث، فتؤثر تلك الاسترجاعات على تكنيك السرد وتعمل على إبطائه أو تسريعه، أو جعله استشرافياً دافعاً بالحدث الى أمام، ليمتلك مساحات زمنية داخلية وخارجية وكونية، تساعده على تطور الحدث...
تطغي شخصيات فعلية من واقع الشعب العراقي على روايات فرمان، ينفذ عبر قسماتها الى آلام البشر، وعبر تجاعيدها الى حزنها، فتنزلق كلماته الى قلوبها وآمالها وخيباتها مثلما يتلقاها القارئ...شخصيات رواياته، أناس شعبيون، كسبة، مثقفون، بسطاء، حرفيون، عشّاق، شقاوات، حالمون، متأزمون، فقراء، بغايا، سياسيون، هامشيون...يرصد الروائي بعين نافذة تحولاتهم، وما تنطوي عليه نفوسهم من صفات وصفاء في دواخلهم، بكل همومهم وظروفهم المتقلبة وأمانيهم المتواضعة أو المتورمة...التصقت أنامل كلماته بمعاناة الآخرين وراحت تتلمس قلوبهم بمواساة ودفء وتعاطف، وبحيادية وأمانة دون تدخل مفتعل من شخصه، وبمنأى عن تأثيراته الذاتية...كل ذلك بلغة تتناسب مع حجم تلك الشخصيات ومنبعها، لغة أحياناً محكية، لسائس خيل، لا يمكن أن يتكلم كما المثقف بالفصحى، يفصّلها على مقاس شخصياته فتعطيهم هوية واضحة مع ثراء وتنوع واضحين.
آراء وآراء
من الطبيعي أن تختلف ذائقة القراء الأدبية والفنية، وتدور آراء متفاوتة بشأن إبداع وموهبة الروائي غائب طعمة فرمان، حتى لو كان جمهوراً صغيراً، اجتمع في قاعة صغيرة كدار السلام في لندن، بعض منهم يرى، بأنه نشأ في أحضان المدرسة الواقعية النقدية، حيث أن التوجه نحو التراث الشعبي والقومي كان هاجس ونداء كل المثقفين في نهاية الستينات، أسبغ عليه تأثراً جلياً بأعمال وأعلام تلك المدرسة من عرب وأجانب، تمرسوا في تقليب الواقع الاجتماعي ونبشه، واستخراج خفاياه وأسراره وتفاصيل جوفه...ويشير أصحاب هذا الرأي الى تأثر فرمان الواضح بـ - طفولتي- لغوركي، و بـ - فونتمارا - لسيلوني، في الخصوص على رواية (النخلة والجيران)، و- القرية والمدينة وبيت الضيعة- لفولكنر، على عمل (ظلال على النافذة)، و- أولاد حارتنا - لنجيب محفوظ، في (القربان)، و- ميرامار - لنجيب محفوظ، و- الصخب والعنف - لفولكنر أيضاً، على (خمسة أصوات)...
ولو شئنا أن نكون واقعيين، ينبغي علينا إدراك، أن أحد منّا أو من غيرنا لم ولا يأتي بشيء جديد ومبتكر من عنده وحده...كل التجارب الانسانية سلسلة تمتد عبر التاريخ، تتمازج وتنصهر في بودقة الخبرات والموهبة والإبداع، وغالباً ما توجد أوجه شبه في الرمز في أي أدب، ففي (القربان)، يصوّر فرمان حياة ناس يصنعون مصائرهم وتاريخهم بشكل مجازي...وفي (آلام السيد معروف)، وعبر هذيان ومونولوج، يحتج على أوضاع يعاني منها المثقف، تتغلب عليه كفة عسف وتخلف وجهل، يصيغها بنسق رمزي، تفادياً من سلطة قمعية ورقابة مأجورة.
لا ضير أن يأخذ الجميع من الجميع، ومن البداهة أن لا شيء يأتي من لا شيء... تأثر الأديب بغيره نعم، الاّ انه أبدع وهذا يكفي...
يعيب بعضنا على الرحابنة أو عبد الوهاب (سرقتهم) بعض من ألحان آخرين أجانب...رغمه، فنحن نطرب لسماع ألحانهم بوشاح عربي جميل، وهذا الاحساس يكفي، ولا ينبغي علينا المزايدة والتفاخر والتحبيط وإهدار قيمة آخرين مجتهدين....
يؤكد مثقفون آخرون بأن المرحلة التاريخية ربما خدمت فرمان، فغدا رائدأ طليعياً في غمار مدّ فيّاض للمدرسة الواقعية وتأثيراتها، في وقت كتب فيه روائيون آخرون أعمالاً بمستوى لا يخلو من مرموقية بعده ولم يوسموا بالرواد، لأن الناس، كما هو معروف، تجهل ثاني شخص حطّ رجله على سطح القمر، وتتذكر دائماً الشخص الأول...
أشار بعض الحضور أيضاً على هامش الأمسية، الى أن أعمال فرمان الروائية المكتوبة لم تنل شهرة لها، الاّ بعد انتاجها مسرحياً وسينمائياً، حيث خلّدها ممثلون وكتاب نص وسيناريو مبدعون...وكانت حجة أصحاب هذا الرأي، بأنه، من منّا يعرف كم الأعاملالأدبية التي تصدر كل يوم، أو التي تنشر على مواقع ألكترونية؟
كم منّا قرأ كل ما يُطبع و ينشر؟...لا أحد بالتأكيد، لكن لو دخل هذا العمل مجال التلفزيون أو المسرح، فسينال شهرة أوسع وضوءاً أسطع، وأكبر دليل على ذلك روايات نجيب محفوظ واحسان عبد القدوس وغيرهما من الأدباء العرب والأجانب، المنتجة للسينما...
كما ويلمّح آخرون، الى تبنّي فرمان الفكر اليساري الاشتراكي، مما مهّد له سبيل الشهرة والترويج، وأمدّه بدعم مؤسسات حزبية ودولية...ويعيبون عليه انسجامه مع الأجواء والأفكار اليسارية، حيث انه غرّد داخل وضمن السرب...لكن أخرين يردّون على هذا الرأي بالإشارة الى أن الروائي لم يكن مبشراً سياسياً، بل لم يكن سياسياً من الأصل في يوم ما، لولا أفكار له كانت تنسجم وتترجم آمال الكادحين، التي هي عماد نضال اليساريين.
هل يكفي أن نمتلك خزين ذاكرة؟
هل يكفي أن نتذكر؟ ورَد سؤال من حاضرين في الأمسية...كثير منا يستعيد أحداثاً مرّ بها في ذهنه، لكن قليل منا من يكتب عن ذكرياته، وقليل من الذين يكتبون عن ذكريات لهم وحولهم، يبرعون في نقلها بصدق وحرفية، وربما تكون كتاباتهم مغرقة في ذاتية ممجوجة أو لأجل الكتابة فحسب...الأمر مختلف هنا مع فرمان...لمّا تذكر، كتب بإخلاص، وبنفس من يريد أن يغيّر، لسبب بسيط وعميق وهو أنه كان عاشقاً لناسه وتربته، أديب عرف دوره في الحياة، وأدرك مبكّراً ضرورة إضفاء أمل على كلماته، وتوصيل إشراقاته الى الناس عبر قرائه...كان فرمان ينفخ برفق على جمرة تمرد مخبوءة في أعماقهم، آملاً أن تتقد بعد حين وتشتعل بأفعال عملاقة، تصنع التاريخ وتغيّره...(لايكفي أن نتذكر، بل ينبغي أن نغيّر) هذا ماقاله فرمان...و أيضاً ( انسان بلا ذاكرة، انسان بلا ظل)...وحتى لما نضبت ذاكرته التي أفرغها في رواياته الأربعة الكبيرة الاولى إبتداءاً من النخلة والجيران، صار يلهث وراء من يعطيه معلومات وشهادات وتفاصيل عن واقع هو بعيد عنه، ليدخل الى ذلك العالم المروي عبر باب خياله وإبداعه، ويؤسس لبُنات رواياته الأربع الأخيرة، ويغرف من معين ما حكي له، فيصب روافدها الغزيرة في نهر أعماله الأدبية.
هل صحيح أن ما ذُكر بأن بئر الذاكرة لو جفّ ينتهي الكاتب العراقي؟ وهل مرجعيته ألاساسية هي ذاكرة يختزنها ويسكبها في ما ينتج؟ وهل الابتعاد عن مكان الذاكرة يشحن جزيئياتها فتتكور على شكل أحداث، ترغم الكاتب لإفراغها على الورق؟ ربما كل ذلك صائب، فما بالك بحال المغترب لو تذكر؟ حسناً...ماذا كان يحدث لو ظلّ فرمان في بلده ولم يتغرب؟ هل كان سيرى أهمية تفاصيل أزمنة وأمكنة وشخوص رواياته، بذلك السطوع والتكثيف، كما هو بعيد عنها في مغتربه؟...أسئلة تحتاج الى أجوبة.
حالة مماثلة في المعادلة تخطر في الذهن، رغم اختلاف طابعها، وهي عن حال المغتربين عموماً وتعلقهم بكل ما يمتّ الى بلدهم بصلة، مثل لوحات ذات طابع تراثي، أو أغان قديمة، أو تذكار عن البلاد الأم، يحتفظون بها، ويسعون الى جمعها، مما يثير استغراب وتعجب أبن البلد، الذي يقترح بل ويفضّل اقتناء لوحة لمنظر طبيعي، فيها جبال وغابات وزهور ملونة، يراها أجمل...انه الحنين اذن، ذلك الذي يلهب الإلهام ويوقد الذاكرة ويشعل فوانيس الروح...أولاً وتالياً، بيت الانسان هو بلده مهما تغرّب وبَعُد، ويبقى ابن بلده، يكتب بروحه عنه ومنه واليه، ولو كتب عن أهل المريخ.
غائب الانسان
يتفق الجميع على صفات عالية للاديب فرمان كأنسان...يتحدث عنه من عرفه كصادق الصائغ وخالد القشطيني قولاً في الأمسية، ويشخّصان بانه كان دمث الطباع، شديد التواضع، قريباً من القلب، بسيط السجية، هادئ الصوت والرأي، ذا خصائص روحية غير مصنّعة كطبيعته، وأداءه واقعياً وحقيقياً، لحياة عاش معظمها في تغرب، حيث أثّرت العزلة والانطواء على حياته، وجعلته دائم الوجع والقلق والكآبة، ودائم الشعور بالوحدة والوحشة...أديبنا نشأ في مناطق وأزقّة شعبية فقيرة، وشهد بؤس واجتهاد أهلها في سبيل تحصيل لقمة العيش، فاتسمت نفسه بإيثار عال، جعله يحب نفسه من خلال الآخرين، ولا يحب الآخرين عبر نفسه...وكان يقول بأننا ( كمثقفين) نعاني من أزمات نفسية، وصراعنا هو مع أنفسنا، أما هؤلاء، أي ( ناس محلّته) فتتجسد صراعاتهم مع الطبيعة والحياة، ومن أجل لقمة العيش، أي من أجل البقاء...وهكذا فهو يجسّد نفسه في أدبه كما قال (جوته).
ورغم كل عطائه الأدبي، يتحسر فرمان ويذكر بانه لم يقدم شيئاً للحياة!...فهل هناك أكثر تواضعاً من هذا الحاضر في أدبنا وتراثنا؟
غاب النقد وحضر الأصدقاء
نزر يسير هو ما كُتب عن الروائي فرمان، وقليل ما ذكره أبناء بلده، ومؤسسات ثقافية تفتقر الى تقاليد، لو فعلوا ذلك مع كل أديب ومبدع، ربما لأمتلأت شوارع العراق وساحاته بأسماء وتماثيل لمسهمين في ثقافة وعلم، يمور بهم بلد كبلدنا، شهد منذ العشرينات وبعدها، أعمالاً روائية خالدة لكل من محمود أمين السيد، و ياسين الرحال، وعبد المجيد لطفي وجعفر الخليلي وذنون أيوب، وعبد الملك نوري، وفؤاد التكرلي ومهدي عيسى، والقائمة تطول بأسماء غيرهم من جيل الستينات وما تبعها...
كان الجميع معذوراً أبان حكم سابق حطّ من قيمة المثقف لعقد خاصة برأسه نظامه، ما لنا اليوم ونحن في عهد آخر، لا ننهض ونضع النقد العراقي على رجليه؟ نكتب ليس عن فرمان وحده، بل عن كثير من أدباء مغتربين متواصلين بابداعهم حتى اليوم، ظلموا مرتين، بوجودهم في الغربة، وعدم إنصاف نقاد بلدهم لهم.
يشهد الجميع لفرمان، حتى منتقديه، على قدرة آخاذة له في تأثيث نصه الأدبي، وتضمينه لأبعاد اجتماعية وفنية وسياسية تحتل مركز الثقل في أعماله، منذ بواكير أعماله الروائية كـ (حصاد الرحى)، الى آخر أعماله، (المركب) عام 1989...أنه أديب جدير بالنقد والبحث، تمكن من الاستفادة الذكية من خبرته الصحفية، وفي مجال الترجمة فيما بعد، الأمر الذي تجلّى في فنية وخصوصية لمساته الواقعية على الحياة والأدب.
يؤلمنا حقاً، ويفرحنا في الوقت عينه، أن نسمع بأن أصدقاء له أجتمعوا في بلاد المهاجر والمنافي، وقرروا أن يحتفوا بذكراه، ولما أرادوا أن يدرسوا ويوثقوا أعماله، لم يجدوا ما يكفي ويفي بحق ذلك الرجل الأديب...
عن ماذا يكتب تقادنا اذن لو لم يكتبوا عن رواد كغائب طعمة فرمان ومبدعين غيره؟
ذاكرة الجذور
دارت نقاشات متباينة أيضاً، حول فيلم (ذاكرة الجذور) عن الروائي الراحل، والذي عُرض في الشق الثاني من الأمسية...أُنتج الفيلم قبل ما يزيد عن عشرين عام، وأخرجه الفنان فاروق داوود...وحاز على الجائزة الفضية في مهرجان الأفلام السينمائية في بيروت عام 2008...وصفه الشاعر صادق الصائغ، سينارست فيلم ( خمسة أصوات) عن رواية لفرمان بنفس الاسم، بأنه لايخضع لمنطق كرونولوجي تواردي، بل يرسم مناخات ايحائية منتقاة، وفيه تداعيات الغربة على أديب مرهف، جذور روحه مغروسة في أرضه البعيدة، بصور شاحبة بائسة لبغداد وأزقتها وبيوتها، لأطفال بملابس رثة، لنساء بعباءات، لمطر ينزل من (مرازيب) ويهطل بكثافة على جدران تخفي خلفها، أحزان شعب لا يستحم بخيراته، ولا تقْدر قطراتُه السخية على غسلها...وبالمقابل هناك ثلج وبرد وأشجار عارية في الغربة، توحي بوحشة متغرب، وشحة دفء وشمس لوطن غائب...الفيلم بنسيجه الدرامي، لا يعلّمنا بل يعْلمُنا بما جرى ويجري من حياة مائجة، في وطن ومغترب في فترة ما، لأديب ذاق مرارة وجوده في كليهما...يجعلنا نسرح بخيالنا في أجوائه، نفكّر ونستنج كل حسب وعيه ومقدرته...
وجاء اختيار موسيقى المتنبي دون أعتباط، وحتى لحظات السكون والصمت لها معنى فيه...انه اسلوب مقصود يبوح بجمال الصمت وجمال الصورة، كثّف فيه المخرج حياة فرمان، وحياة ماض يخرج من رحم حاضر، وحاضر لا يستكين لزمنه، بل يخترقه باندفاع نحو مجالات أمل، ورشّ ألوان مبهجة من نفس توّاقة لمسرات عليه، وعلى لوحات باهتة، لشعب مهصور ألماً ووجعاً...انه يحكي ما وراء القصة وما وراء الحدث، وما وراء مدخنة روح لأديب مرهف، اشتعل وجداً لناسه وأرضه...وانتهى الفيلم بالأمل كما أراد ورأى غائب...اختتمه المخرج بشموع موقدة في نهر دجلة، مثبّتة على قطعة كارتون تسير بتمهل، تلتف ذراعا الماء حولها وتحتضنها برفق، ويغني لها - الروج - هامساً: (يا شموع الخضر، أحلفك أن تحققي نذر كل مظلوم جاءك راجياً...لا تخيّبي ظن أحد تعنىّ الى نهر الخير)...
بعض الحضور كان له رؤية أخرى عن الفيلم، نظرة مغايرة تشيرالى أنه يفتقر الى خصوصية واضحة، وأن المخرج أغفل فرادة من صوّر عنه وله، وجعل شخصيته تطغي على شخصية الروائي، حتى أن المرء يتمكن من سحبه على أي مبدع آخر غير فرمان ممن عاش في مغترب...ربما الاعتياد على التوثيق التقليدي، ومنطق الوقائع وتسلسلها دعا أصحاب الرأي المغاير، الى الاستزادة من معلومات أكثرعن الروائي، ومطالبتهم بتعريف أكثر واقعية له، بعيداً عن الصورالرمزية كما حدث في الفيلم، والتي قد لا يفهمها غير متخصصين.
لا أظن أن هناك من يعترض على أي رأي...كل له الحق في إبداء وجهة نظره...
أحدهم جمع بين الرأيين وقال فيما بعد بأنه، أي الفيلم، يشبه ألحان عبد الوهاب لأم كلثوم، تتفوق فيه بصمة الموسيقار اللحنية، وتسير بموازاة تركيبة الأغنية المتكاملة، من صوت المطربة الرخيم، والأداء المتقن لها...
كلمة قابلة للطرق مرة أخرى
هاهو غائب طعمة فرمان، يتأبط حزنه وحزن ناسه وبلده ويرحل ويغيب، ليضمّه ثرى آخر غير ذلك الذي ولد عليه ونشأ فيه...وهنا ينحو الحديث منحى آخر غير ذاك الذي ينكر بان فرمان لم يأت بجديد...كلام لا ينصف الروائي حقاً، وينكر دوره في جعل القارئ يزداد فهماً للمجتمع العراقي في مرحلة تاريخية معينة، وما تلعبه سياسات دولة ومؤسسات من تأثير على حياة الأفراد، وتنفرهم من أرض أحبوها وأرادوا العيش فيها وخدمتها...هو مبدع عراقي أضاف الى عالم الرواية العراقية إضافة نوعية...أسقطت عنه جنسيته العراقية ظلماً وإجحافاً، بسبب كتاب كتبه محتجاً على عسف جرى آنذاك...
هل لنا أن نفكر اليوم بتكريمه وإعادة جنسيته اليه؟ أو ربما نذهب انسانياً أكثر من ذلك، فنقترح نقل رفاته الى وطنه، أو حتى تسمية المكان الذي ولد فيه باسمه، أو إقامة تمثال صغير له في حديقة (إن وجدت)، أو في مكتبة، كعادة متحضرة لناس متحضرين، والتفاتة راقية لقوم غير جاحدين، يعتزون بمبدعيهم ويفخرون بهم، ويعتبرونهم جزءاً هاماً من تراث الشعب والبلد وهويته الثقافية؟
نداء وجهّه حاضرون في الامسية الى من يهمه الأمر...فهل هناك من يقرأ ويسمع وينتبه ويتنبه؟؟
والى حين ذلك...يبقى ابن (المربعة)، البغدادي الأصيل، غائباً، في انتظار من ينصفه.
فيحاء السامرائي
لندن في 19/1/2011
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية | [2] [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا |
|
---|