من تجارب التنظيم السري والعمل الحزبي في الأسلام هادي العلوي

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

 إصدارات صوت اليسار العراقي

 

من تجارب التنظيم السري والعمل الحزبي في الأسلام

 3 \ 4

للمؤرخ والمفكر العراقي الراحل

هادي العلوي

 

 

               بعد موت الحجاج ظهرت بوادر حركة جديدة للشيعة كانت هذه المرة بقيادة زيد بن علي بن الحسين وليس لدينا تفاصيل عن نشاط زيد الذي سبق تمرده في العراق عام 120 هج حيث عالجته المصادر كما لو كان نزوة شخصية تسببت عن خلاف بين زيد وهشام بن عبد الملك . وهو افتئات دأب عليه الرواة حين يتناولون امثال هذه الأحداث باحالتها الى اسباب آنية . لدينا مع ذلك سابقة هامة في حياة الشيعة السياسية , قبل خروج زيد , نجدها في شعر الكميت بن زيد الأسدي , وقد برز هذا الشاعر في المدة الفاصلة بين وفاة الحجاج وحركة زيد , وكتب عددا من المطولات السياسية التي عرفت بالهاشميات , مع قصائد اخرى تعكس في جملتها حالة الغليان التي عاشها العراق تلك المدة , والكميت شاعر سياسي بكامل تفكيره وانتمائه وبمجمل نتاجه الشعري . وقد وزعت قصائده في الخفاء , وتداولها الناس حينا طويلا قبل ان ينكشف صاحبها في خلافة هشام بن عبد الملك الذي حكم بقطع لسانه . لكن الشاعر نجا من هذا الحكم بقصيدة مدح فيها هشام . وكان تداول الهاشميات بمثابة آصرة تنظيمية في ظروف التخلخل التي كان عليها الشيعة آنذاك . كما ساهمت الهاشميات في الهاب مشاعر المعارضة للأمويين . وتعطي تجربة الكميت هنا دليل على الدور الهام الذي يمكن للمثقف ان يؤديه في أوقات الجزر السياسي . ويمكننا في الحقيقة اعتبار هاشميات الكميت واشعاره الأخرى التمهيد الذي ارهص بظهور زيد بن علي . كما يمكن ان نفترض وجود علاقة ما بين الرجلين , مباشرة او غير مباشرة , لان الكميت ردد بعض اراء زيد في ثنتين من هاشمياته القصار , وعلى اي حال , فأن الصلة بين إنتاج الكميت الأدبي وتحرك زيد تلقى بعض الضوء على المخاض السابق لهذا التحرك , وتنفي كونه مجرد رد فعل آني كما يؤخذ من كلام الرواة عنه .

           بعد إخفاق زيد ومقتله تحولت حركته الى فرقة عرفت بأسمه , ولكن من دون ان تتمايز عن الفرقة الأم , كتنظيم مستقل , وإنما كانت حتى نهاية الأمويين وأوائل العباسيين اشبه بالجناح المسلح للشيعة .

          ثم استقلت في غضون الثالث الهجري بعد ان استقر خط الشيعة الأثني عشرية مقابل فرق الشيعة الأخرى . ونظرا لأتباعها نهج العمل المسلح كأساس , لم تزاول الزيدية نشاط سري يتجاوز الأعداد لتمرداتها المسلحة . كذلك لم تكن للزيدية ايديولوجية خاصة بها تستدعي نشرها في الخفاء . كانت في  قضايا العقائد تتبع المعتزلة التي لم تواجه حظرا على نشاطها الفكري منذ أواخر الأمويين . وفي القضايا السياسية كانت آراؤها وسط بين التشيّع وجمهور الفقهاء ؛ فرغم انها تمسكت بأحقية اهل البيت في الخلافة لم تتبرأ من ابو بكر وعمر خلافا لسائر الشيعة , مما جعلها مقبولة من عامة المسلمين . وقد اتبع زعماء الزيدية اسلوب الأستتار دون العمل السري , وهي مرحلة كانت تسبق قيادتهم لأي تمرد . ومن تطبيقات هذا الاسلوب ما نجده في حركة النفس الزكية محمد بن عبد الله بن الحسن واخوه ابراهيم .

          كان النفس الزكية قد تهيأ للخروج على العباسيين لحظة إعلان دولتهم بمبايعة ابو العباس السفاح , فتوارى عنه . وعاش متسترا طيلة خلافة السفاح وشطرا من خلافة المنصور حتى ظهر فجأة في المدينة وأستولى عليها . واستتر اخوه ابراهيم ايضا حتى ظهر في البصرة بُعيد ظهور اخيه في المدينة . وقد تعذر على المنصور ان يعثر عليهما رغم كفاءة اجهزته فلجأ الى حبس والدهم ورجال آخرين من اسرتهم لأستجوابهم وكانوا على علم بمكان الأخوين . ويقول ابو الفرج في ( مقاتل الطالبيين ) : " انهما كانا يأتيان والدهما في زي الأعراب ويتداولان معه في أمر الخروج " (ط القاهرة 1949 ص 223 ) وكان والدهم عند اعتقاله في الثالثة والسبعين , فعذبه المنصور حتى الموت دون ان يحصل منه على شيء بخصوص ولديه . وحبس معه حوالي العشرة من افراد الأسرة قتلوا كلهم أو ماتوا في السجن . وحسب رواية ابو الفرج كان محمد مستتر في بعض جبال الحجاز اما ابراهيم فأختبأ في البصرة في بيوت أنصاره .

وثمة رواية عن إتقان ابراهيم للتنكر تزعم انه كان يحضرمائدة المنصور فيأكل معه وهو لا يدري به ! وهي بلا شك من نسج الخيال الشعبي الذي اعتاد على تضخيم قدرات ابطاله .

من أمثلة الأختفاء الشديد الأتقان ايضا اختفاء عيسى بن زيد . وكان من أتباع ابراهيم . هرب بعد فشل حركته في البصرة وعاش مستترا حتى مات في خلافة المهدي بن المنصور . وقد تزوج في مخبئه واخفى هويته عن زوجته وأهلها . وبعد وفاته جاء احد اصحابه بولده احمد الى المهدي فتعهده وانزله في دار الخلافة . ولما شب احمد بدأ يزاول السياسة على طريقة والده فأعتقله هارون الرشيد مع علوي آخر وتبعا لرواية في مقاتل الطالبيين (ص 620 ) افلت الأثنين من السجن بعد ان تمكن اتباعهما من تخدير السجانين باكلة فالوذج وضعوا فيها البنج . وعاش أحمد متخفيا حتى مات في عهد المتوكل .

وتزوج في مخبئه وولد له ولد اسمه محمد هو والد علي بن محمد صاحب الزنج , بحسب احدى سلاسل النسب التي اوردها المؤرخين عنه .

طبق الشيعة في طور لاحق اسلوب جديد للعمل السرّي المنظّم يتمثل في عقيدة الأمام الغايب .

وقد سبقت اليها الكيسانية كما رأينا . لكنها اخذت هنا شكل مغاير اكثر تعقيدا . ابتدع هذا الأسلوب فرقة الأثني عشرية . ولست متأكد ان كان هذا العدد قد ظهر بتأثير الرقمية , والأثنى عشر من الأعداد المقدسةعند المسلمين وهو عدد نقباء واسباط بني اسرائيل وحورايي المسيح : اسلاف التقاليد اليهمسلامية , ام انه جاء مصادفة لأن الأمام الثاني عشر لم يولد له ولد يخلفه .. مهما يكن , فالذي حدث هو انه بعد وفاة الحسن العسكري اضطر خلفه محمد بن الحسن (المهدي ) الى الأختفاء وهو لا يزال غلام . وكانت الأمامية الأثنى عشرية قد تمايزت كما قلنا كفرقة لها اتباعها وتنظيماتها مما أعطى إختفاء محمد بن الحسن وضع يختلف عنه لدى عيسى بن زيد وولده , اذ كان اختفاءهما لمجرد النجاة بنفسيهما . وقد ترتب على محمد المهدي ان يبقى على اتصال بأتباعه ولكن عن طريق شخص واحد من مقدميهم يعرف مخبأ الأمام ويلتقي به شخصيا ثم ينقل توجيهاته الى الآخرين . وسمي هذا الشخص الوكيل والسفير . وتشتمل مصادر الشيعة على نصوص صريحة بأن الأمام محمد المهدي مختبيء وليس عائب , وتحذر من السؤال عن مكانه لأن في ذلك اباحة لدمه ( فرق الشيعة للنوبختي ص 108  \ ط بيروت ) وينسب اليه كلام عن حاله في مستتره جاء فيه : ابي ابو محمد عهد الي ان لا اجاور قوما غضب الله عليهم .. أمرني ان لا أسكن من الجبال إلا وعرها ومن البلاد إلا قفرها ( الكنى والألقاب للقمي ص 119 ) وهو كلام من إستتر ولم يغيب لأن الغايب لا يخاف . ويؤكد مؤلف اثني عشري معاصر ان محمد بن الحسن ارادوا قتله بعد ابيه فاختفى خوفا من القتل . ( محمد نور الدين الموسوي – فائدة في فضل علي وخبث معاوية – مخطوط في الفاتيكان برقم 1739 ) والمتفق عليه عند الأثني عشرية ان محمد بن الحسن لم يخلّف ولد فهو آخر الأيمة , رغم النظرية الطريقة للموصلي الطويل العمر عبد الغني الملاح حول بنوة المتنبي للمهدي .. وقد استمر مستترا طيلة حياته وبلغ وكلاءه أربعة , وهم معروفين ولكل منهم مرقد قائم في بغداد , وكان آخرهم علي بن محمد السمري وقد توفى عام 329 هج . 

وحسب رواية للعلامة الحلي ان السمري لما حضرته الوفاة سئل ان يوصي – اي ان ينصب سفير للأمام من بعده – فقال : لله امر هو بالغه ( خلاصة الأقوال في معرفة الرجال ص 134 من ط طهران 1310 هج ) وتتعين وفاة السمري كبداية للغيبة الكبرى التي لا يعود فيها الأتصال بالأمام ممكن . ومن الجلي هنا ان الأمام الثاني عشر قد توفي قبل وفاة سفيره الرابع . وكان حينذاك في حدود السبعين , وهو عمر طبيعي للموت لا سيما عند الفقهاء الذين لم يستهلكوا حياتهم بالملذات . ولما لم يكن هناك من يخلفه من ابناءه فقد اعتبر غائبا حتى لا يتشتت نظيم الفرقة بانعدام الأمام . ويوفر العدد 12 عنصر تصديق ايماني بأن الغايب هو آخر الأيمة الذين تحدد عددهم بأمر الهي وفق رقمية يهمسلامية جعلت كما لا حظنا نقباء بني اسرائيل وحورايي المسيح اثني عشر , وانه بالتالي حي لان موته يعني انقطاع سلسلة الأمامة وهو غير جائز في أصل الدين , لأن المسلم لا يجوز ان يبقى بلا أمام .

تتضمن دوغما الغيبة مستوى معقد من العمل السرّي اخذت في شطرها الأول – الغيبة الصغرى – حالة استتار متقنة ابقت الأمام بعيد عن متناول السلطة دون ان تقطعه عن اتباعه . وقد اعطت طريقة السفارة ايحاء للأتباع بأن الأمام المستتر ليس مجرد هارب من السلطات بل غايب يعيش في الحرز الألهي , مما يشدد من تعلق المؤمنين به ويخفف في نفس الوقت من لجاجة السؤال عن مكانه لشعورهم بأستحالة الوصول اليه وهو في ذلك الحرز .. اما الشطر الثاني – الغيبة الكبرى- فهو تغطية لوفاة الأمام وعدم وجود من يخلفه اريد بها المحافظة على استمرار الفرقة وتضاّم اعضائها تحت قيادة " مؤقتة " لا يشترط فيها ان تتألف من اهل البيت . وبفضل هذه الدوغما – التكتيك حافظت الأثني عشرية على كيانها حتى العصر الحاضر .

في اوان مقارب لأوان الغيبة كان فريق آخر من الشيعة قد انتظم في حركة واسعة النطاق عمت مشرق الأسلام ومغربه , ذلك هو الأسماعيلية .

يتبع                                  

 << الجزء الرابع                                                                    الجزء الثاني >>  

 

 

 

* كان ضمن موضوعات الثقافة الجديدة المنشورة في العدد 207 آذار 208 نيسان 1989 بمناسبة الذكرى الخامس والخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي ..

 تمت إعادة كتابة النص  من قبل صوت اليسار العراقي  إعتزازا وتقديرا وتذكيرا للمؤرخ  والمفكر العراقي  الكبير هادي العلوي

في الذكرى 76 لتاسيس الحزب السيوعي العراقي . 13.3.2010

صوت اليسار العراقي

 

 

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

 

تصدرها مجموعة من الصحفيين والكتاب العراقيين

webmaster@saotaliassar.org    للمراسلة