إصدارات
صوت اليسار العراقي
من تجارب التنظيم السري والعمل الحزبي في الأسلام
*
2 \
4
للمؤرخ والمفكر العراقي الراحل
هادي العلوي
أسفر الأنشقاق حول الخلافة بعد رحيل النبي عن ظهور
علني للأجنحة المختلفة في جماعة الصحابة . وكانت
بعض هذه الأجنحة موجودة في حياة النبي , ويستدل من
مصادر السيرة انها كانت تتألف من جناحي المهاجرين
والأنصار مع جناحين ضمن المهاجرين يضم الأول ابو
بكر وعمر ومجموعتهم القرشية التي لعبت شوطها
المعروف في السقيفة , ويضم الثاني علي ابن ابي
طالب وأفراد من المهاجرين والأنصار وغيرهم . ويمكن
الأستنتاج مما جرى قبيل وفاة محمد في السقيفة ان
مجموعة ابو بكر وعمر قد زاولت شيء من التنسيق
الغير معلن في حياة محمد , ثم اسفرت عن نفسها بعد
وفاته في هيئة قيادية جيدة التنظيم وشديدة التماسك
. أما تجمع علي وأصحابه فقد تمايز هو الآخر منذ
السقيفة.
وتتضمن مصادر الشيعة ما يدل على إنه قد تبلور
حينذاك في قيادة مؤلفة من سبعة ذكرت بعض الروايات
منهم : ابو ذر الغفاري , سلمان الفارسي , المقداد
بن الأسود , عمار بن ياسر , حذيفة بن اليمان ,
وعبد الله بن مسعود . ولم يذكر السابع (المجلسي 10
\ 60 , الكشي \ الرجال 4- 5 , الدرجات الرفيعة 209
) والرقم الحقيقي يجب أن يكون خمسة لأن عبد الله
بن مسعود لا علاقة له بالتشيّع , وولائه لعلي غير
مؤكد . أما السابع فقد لا يكون له وجود أصلا . ومن
الأرجح ان يكون النص على سبعة محض ارتكاس للرقمية
الأسلامية التي يشغل العدد 7 مكانة خاصة فيها .
من الجدير بالملاحظة عدم انتظام الأنصار في تكتل
متمايز رغم مطالبتهم بالخلافة ونضالهم من اجلها في
السقيفة . ويتكرس هنا الفارق بين الشخصية التجارية
– قريش – والشخصية الزراعية – اهل المدينة . وقد
انحاز فريق كبير من الأنصار الى علي بعد ان خسروا
الخلافة , وظهر من ابنائهم في وقت لاحق بعض القادة
الأكفاء بتأثير الوسط الأجتماعي والسياسي النشيط
الذي عاشوا فيه , واعتمد عليهم علي في معاركه ضد
الأمويين .
لم يستمر تكتل ابو بكر وعمر كمجموعة متمايزة ؛ فقد
استلم الخلافة وايدته الأكثرية الساحقة من الصحابة
فلم تكن لديه حاجة الى التنظيم لتثبيت وضعه بينما اتجه علي واصحابه الى التنظيم في صراعهم من
أجل الخلافة التي خسروها . وتتحدث مصادر الشيعة عن
افراد من اشياع علي سمتهم الأركان الأربعة وهم ابو
ذر وسلمان وعمار وحذيقة أو المقداد . ويشير الأسم
الى دورهم في التأسيس الى جانب علي . وقد بدا من
الواضح ان تيارا متمايزا عن خلافة الأكثرية قد أخذ
بالأستقطاب حول الأمام الأول للشيعة على إنه لم
يكن تيار سرّي طيلة الخلافة الراشدية . وقد سعت
المصادر المناوئة للشيعة الى إضفاء ارتباطات
مشبوهة على نشأة التشيّع بأختلاق حكاية عبد الله
بن سبأ , اليهودي الذي جمع بين نهج اليهود التآمري
والفكر الغنوصي السرّي , فبذر نواة التشيّع في
حياة علي . ويصدر هذا الأختلاق عن إتجاه سائد في
العمل السياسي حتى الوقت الحاضر , حيث تتهم
الحركات المعارضة بأنها مدفوعة من الخارج . وقد
طُبق ذلك ليس فقط على الشيعة الأوائل بل وعلى
تفرعاتهم اللاحقة لا سيما الأسماعيلية , كما إنسحب
على الفلاسفة والمتكلمين الذي غالبا ما واجهوا
اتهامات سلفية بأخذ افكارهم من مصادر أجنبية :
فلسفة الأغريق أو عقائد الصابئة أو الوثنيين , أو
اليهود . وهي إتهامات تقوم على الخلط بين التعلم
والأستلهام وبين مخططات الكيد الأيديولوجي يمكن أن
نلاحظ , على أي حال , ان علاقات علي وأركانه
الأربعة كانت علنية , كما لم تأخذ شكل تنظيم
بالمستوى الذي عرفته الدعوة في بدايتها . لكن
المجموعة تمايزت عن سائر المسلمين في ولائها لعلي
كما في أفكارها الأجتماعية المناوئة لأرستقراطية
قريش الجديدة . فشكلت بذلك نواة فرقة إسلامية لا
شك انها كانت اولى الفرق الأسلامية نشوءا . وقد
خاضت هذه الفرقة صراع متزايد الحدّة في غضون خلافة
عثمان بدأته بتحرك سياسي تدوّن في صولات ابو ذر
الغفاري في المدينة والشام , ثم انفجر عن حركة
مسلحة تصدرها عمار بن ياسر , وهو الوحيد الذي بقي
حيا حينذاك من الأركان الأربعة . وأنتهى الأمر
بمقتل عثمان ووصول الفرقة الى السلطة ممثلة في
أمامها الأول . وفي هذا الطور ازداد وضوحا تمايز
الشيعة مقابل فئة اخرى من المسلمين ضمت أنصار
الأمويين وعدد من كبار الصحابة الذين عارضوا سياسة
علي في الأموال . على إن الفرقة الأولى ما لبثت ان
إنشقّت على نفسها حيث ظهر الخوارج ردا على رفض علي
إيقاف القتال في صفين ثم ردا على قبوله التحكيم .
والخوارج هم ثاني تنظيم سياسي في الأسلام .
وسأتحدّث عنهم في مفصل لاحق .
سلطة الشيعة الأولى لم تدوم طويلا كما نعلم . فبعد
أربع سنوات من إستخلاف علي عاد الحكم الى
الأرستقراطية القرشية ممثلة في معاوية . وعاد
الشيعة الى المعارضة . وكان العراق ساحتهم الأرأس,
وفيه بدأوا تحركهم ضد الأمويين . وكانت نشاطاتهم
اول الأمر شبه علنية نظرا لتساهل المغيرة بن شعبة
الذي ولاه معاوية حكم العراق بعد ان استتب له
الأمر . ومرّت ثلاث سنوات كانت تحركات المعارضة
الشيعية والخارجية تتصاعد فتهدد سلطة الأمويين ,
فلجأ معاوية الى عزل المغيرة وتولية زياد بن أبيه
ثم ابنه عبيد الله وهما من اقدم مُشرعي الأرهاب
الرسمي في الأسلام . وقد جوبه زياد بأنتفاضة قادها
حجر بن عدي الكندي فأستطاع اخمادها وبدأ على اثرها
مطاردة الشيعة والخوارج . وفي هذه الظروف العسيرة
لجأ الشيعة الى العمل تحت القاع , مدشنين مفصل
جديد تماما في تاريخهم , كما في مجمل التاريخ
السياسي للأسلام . وقد أضطرّهم زياد بمسلكه
الأرهابي المنفلت الى التشدد في السرّية. وقد ذكر
الطبري اسماء ثلاث نساء كانت منازلهن أوكار للشيعة
. واحدة في البصرة وتدعى مارية بنت سعد – أو منقذ
(4 \ 294 ) والثانية هند الناعضيّة والثالثة ليلى
المُزَنية وكانتا في الكوفة ( 4\ 566 ) .
وأستحدث الشيعة في مساق شغلهم السرّي مبدأ التقية
. ويسمح هذا المبدأ بكتمان الأنتماء عن العدو
وإنكاره عند الأستجواب , كما أجيز للشيعي شتم علي
واولاده اذا توقف عليه نجاته من الموت .
ولكن لا تجوز له البراءة بأي حال . وهذا التوجيه
منسوب الى علي ابن أبي طالب , ومروي في نهج
البلاغة على الوجه التالي : اما انه سيظهر عليكم
بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن يأكل ما يجد
ويطلب ما لا يجد , فأقتلوه ولن تقتلوه . الا وانه
سيامركم بسبّي والبراءة مني . فأما السب فسبوني
فانه لي زكاة ولكم نجاة . وأما البراءة فلا
تتبرأوا مني فاني ولدت على الفطرة وسبقت الى
الأيمان والهجرة (الجزء الأول من شرح محمد عبدة ص
158 – 159 من ط دار التعارف , بيروت 1982 ) .
ونسبته الى علي غير مقبولة من وجهة نظر النقد
التاريخي لأن فيه نبوءة مستحيلة بتغلب معاوية على
الخلافة فضلا عن ان علي كان حتى اليوم السابق
لمقتله واثق من الأنتصار وكان قد اخذ في ايامه
الأخيرة يسترجع سيطرته على الوضع السياسي والعسكري
ويتأهب للزحف على الشام . وينبغي ان يكون هذا
التوجيه قد وضع على لسانه لأعطاء مبدأ التقية من
اساسيات العمل السرّي لاي حركة . وقد ميّز فيه
الشيعة بين مسلكين بحسب هذا التوجيه : التظاهر
بعدم الأنتماء الى حد شتم الأمام وهو جائز ,
والبراءة من الفرقة في شخص قائدها وهو ممنوع .
والشاتم لا يفقد عضويته في الفرقة لكن المتبرّيء
يفقدها ويعتبر مارقا .
يفترض مبدأ التقية سلوك سياسي وايديولوجي غير
مصحوب بالعمل المسلح , لأن رفع السلاح يعني الخروج
الى العلن وانتفاء الحاجة الى التكتم . ولذلك تحسس
منه الخوارج لغلبة النشاط المسلح عليهم ,كما اهمله
الزيديون الأوائل من الشيعة لنفس السبب , اذ كان
زيد بن علي يقول باولية رفع السلاح واعتبره من
شروط الأمامة .
لم تأخذ الشيعة في اول امرها صيغة دعوة وانما بقيت
في حدود الشغل السياسي والعسكري وكانت قيادتها
العليا في المدينة تتمثل رسميا بالحسن بن علي
وفعليا بأخوه الحسين , الذي انفرد بالقيادة بعد
إغتيال الحسن عام 50 هج . وكانت تحركات الحسين في
الحجاز مكشوفة واتصالاته بالعراقيين مكتومة .
وكانت بعض قيادات العراق معروفة الأسماء وتضم
شخصيات اجتماعية وعشائرية بارزة , لكن ذلك لم
ينقذها من زياد وابنه عبيد الله , فقد قتل زياد
اثنين منهم وسجن آخرين وتخفى الباقين .
الا ان هذا لم يقطع خيوط الأتصال فيما بينهم . وقد
تمكنوا بعد وفاة معاوية من الظهور والسيطرة على
الكوفة . ثم راسلوا الحسين فتوجه اليهم وحدث ما هو
معروف بعد ذلك , حيث قتل الحسين وتشتت القادة
العراقيين مرة أخرى بين السجن والأختفاء . وبعد
وفاة يزيد بن معاوية واضطراب الوضع في العراق عاود
الشيعة الظهور وقاموا بحركتين مسلحتين : حركة
التوابين التي ضمت صفوة الزعماء المقاتلين من شيعة
العراق . وكان هدفها تكفيري خالص بسبب ما اعتبرته
تقاعس عن نصرة الحسين .
وقد اصطدمت هذه الجماعة بالجيش الأموي في شمال
العراق وقتل معظم أفرادها الأربعة آلاف.
الحركة الثانية هي التي قادها المختار بن عبيد
الثقفي تحت شعار الأخذ بثأر الحسين . وكان لهذه
الحركة ارتباط بفرقة شيعية جديدة عرفت بالكيسانية
نشأت في الكوفة واشتغلت تحت القاع , قبل ان تستولي
على السلطة فيها بقيادة المختار . وقد تبنت
الكيسانية مذهب المهدوية . وكان مهديها هو محمد بن
الحنفية الأبن الثالث لعلي . ونسبت المصادر الغير
شيعية الى الكيسانية اقوال غنوصية دارت حول
المختار يصعب توثيقها . لكن مهدويتها تشير الى
تأثر مبكر بالمذاهب القديمة , السابقة لظهور
الأسلام الذي لاتحتوي نصوصه الأصلية على اشارات
موثقة بشأن هذا المذهب
. وبعد سقوط حكم المختار
عادت الكيسانية الى الكتمان , غير ان نشاطها لم
يتسع لأكثر من التبشير بخروج محمد بن الحنفية.
وكان من اتباعها البارزين الشاعر كثير عزة وهومن
شعراء عبد الملك بن مروان واولاده . وكان يجاهر
بآراء فرقته دون ان يتعرض للقمع مما يدل على
انحسار الأثر السياسي للكيسانية واقتصارها على
العقائد .
بعد المختار تخلل الوضع التنظيمي للشيعة وظلوا
عمليا دون قيادة مركزية , لأن الأمام الرابع زين
العابدين والخامس محمد الباقر مالوا الى العزلة
وجحدوا علاقتهم السياسية بأهل العراق. وقد انصرف
الأول للعبادة كرد فعل لما شاهده بعينيه في كربلاء
, والثاني الى الفقه . ومرت خلافة عبد الملك
وابناءه الوليد وسليمان ويزيد دون ان تكون للشيعة
حركة . وفي ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي للعراق ,
التي دامت عشرين سنة , كانت المعارضة المسلحة
للخوارج في المقام الأول . كما امتحن الحجاج بثورة
عارمة غير منتمية لفرقة قادها الرحمن بن الأشعث ,
وهي اخطر ما تعرض له الحكم الأموي في هذه الحقبة .
يتبع
<< الجزء الثالث
الجزء الأول >>
*
كان ضمن موضوعات الثقافة الجديدة المنشورة في
العدد 207 آذار 208 نيسان 1989 بمناسبة الذكرى
الخامس والخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي ..
تمت إعادة كتابة النص من قبل صوت اليسار
العراقي
إعتزازا وتقديرا وتذكيرا للمؤرخ والمفكر
العراقي الكبير هادي العلوي
في الذكرى 76 لتاسيس الحزب السيوعي
العراقي .
13.3.2010
صوت اليسار العراقي
الصفحة
الرئيسية
|
مقالات
|
دراسات
|
عمال
ونقابات
|
فنون وآداب
|
أرشيف
الأخبار
|
المرأة
|
الأطفال
|
إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة
© 2009 صوت
اليسار العراقي