إصدارات صوت اليسار العراقي
من تجارب التنظيم السري والعمل الحزبي في الأسلام
*
1 \ 4
للمؤرخ والمفكر العراقي الراحل
هادي العلوي
كانت قد مرت قبل غار حراء أربعين سنة إذا حذفنا
العشرة الأولى منها بقيت المدة التي يتعذر شطبها
من حياة القادة الذين تقترن بنشاطهم تحولات
تاريخية عاصفة. لكن الثلاثين سنة مرت بالفعل دون
أن يعرف عنها التاريخ شيئا. وهي بلا شك لم تكن من
مهملات الزمن , وإنما غابت فيه لكي تهيء في غيبتها
شروط إنبعاث تلك المفاجأة التي إنبعثت وهي في كامل
نضجها كمولود أتم اليوم الأخير من شهره التاسع .
ينبغي إذن أن تكون الثلاثين سنة السابقة من حياة
مؤسس الأسلام قد إندرجت في ميزان عمل مكتوم : عمل
لأن النقد التاريخي لا يقر بعنصر المفاجأة في
الظهور عندما يكون الأمر متعلق بنتائج بعيدة المدى
كالتي ترتبت على تلك المفاجأة. ومكتوم لأن
المفاجأة كانت هي الشكل التاريخي للظهور تبعا
لخيارات المؤسس وخططه المقتضاة من ظروف حياته
وعمله , فضلا عن موقعه الجغرافي ومرحلته
التاريخية.
ومما يثير الخيال في هذه المدة الغائبة نسيانها
المطلق من تاريخ السيرة , وهو نسيان لا يرجع الى
رواة السيرة وإنما الى صاحبها نفسه.
وإذ كنا لانمتلك أي مفتاح لولوج ساحة ذلك الغيب
فأن معالجتنا لهذا الفعل الذي إنتهى الى تلك
الحركة التاريخية العاصفة تبدأ فقط من حيث كانت
المفاجأة. وقد ولجنا مصادر السيرة بمادة كافية في
هذا المضمار ولا تختلف هذه المصادر حول المجموعة
الأولى التي جرى الظهور على يدها ؛ وهم محمد
وخديجة زوجته وأبو بكر صديقه . وهناك رابع هو علي
إبن أبي طالب , ولا يمكن عدّه من المؤسسين بهذا
الحصر لأنه كان في أوائل عشرياته , لا يزيد عمره
وفق أكثر الروايات على الثلاث عشر , ولا شك إنه
قام بالدور الذي يقوم به من هم في سنّه في الأحداث
الكبيرة , لا سيما الذين يتمتعون بالشجاعة
الأستثنائية التي عُرف بها هذا الفتى .
إنفردت حركة محمد عن معظم الدعوات الدينية بالعمل
السياسي المباشر المرتهن بأهداف الوصول الى السلطة
والغالب على الأديان وما في حكمها إنها تأخذ في
البدء شكل تحرك وعظي يؤديه النبي علنا , بحسب
الطريقة التي سلكها زرادشت وبوذا والمسيح
وكونفوشيوس . ويلاحظ إن هؤلاء لم يقطفوا ثمار
دعواتهم في حياتهم بسبب إقتصارهم على الصيغة
الدينية للعمل . ويمكن أن نرى في هذه الخصوصية
مضمون دعوة محمد كتحرك موجّه لأقامة مجتمع سياسي
موحد للعرب سيكون فيما بعد نواة لأقامة عالم جديد
فوق تلك الرقعة الشاسعة التي إمتدت اليها دولة
الأسلام . وقد ظهر محمد منذ البدء كزعيم لجماعة
سياسية موعودة بأن ترث الأرض بمفهوم الورث السياسي
المتضمن في إصطلاح " أئمة " – الآية 5 من سورة
القصص .
كان محمد قد قدر سلفا إنه سيصطدم بمعارضة الملأ
المكي , فأشتغل تحت القاع في بدء الدعوة .
وأستمر على ذلك ثلاث سنين كان الأتصال أثناءها يتم
عن طريق فردي . وأتخذ للحركة مقر سرّي في غير منزل
محمد أو صاحبه أبو بكر عرف فيما بعد إنه " دار
الأرقم " وهو رجل من بني مخزوم – من عشائر قريش
المتنفذة – أسلم مبكرا فجُعلت داره مكان إجتماع
وإتصال للمهتدين الجدد . وكان عددهم حين أسلم
الأرقم 6 فقط .
في هذه السنوات تزايد عدد المهتدين ببطء شديد حتى
بلغ الأربعين في نهاية السنة الثالثة وكان آخرهم
عمر بن الخطّاب . فأنتقلت الدعوة الى العلن . ولا
شك إن محمد قدّر إن هذا العدد يكفي لمجابهة الملأ
المكي . وهو في ذلك يستند الى عاملين , أولهما حجم
الرد المتوقع من أهل مكة , وهو لم يكن ليصل الى
ضربة إستئصال لهذه المجموعة , بحكم إن هذه
المجابهة ليست مع دولة ذات أجهزة قمعية قادرة على
ملاحقة خصومها وإعتقالهم وإعدامهم . والمعروف إن
مسلمي مكّة لم يتعرضوا إلا في إستثناءات الى حوادث
قتل وأقصى ما جرى حينذاك هو تعذيب المستضعفين منهم
.
العامل الثاني هو تركيبة مسلمي دار الأرقم التي
نجد فيها ثلاث عناصر رئيسية :
أفراد ينتمون الى عشائر متنفذة في مكة أو حلفاء
لهذه العشائر ( الحليف في نظام القبيلة العربية
يكون عضو كامل الحقوق بقدر ما يمس العلاقة مع
القبائل الأخرى ) وأفراد لهم وزنهم الشخصي في
المعشر المكّي من أمثلتهم البارزة عمر بن الخطاب .
أما الصنف الثالث فهم المستضعفين من العبيد ومن في
حكمهم . ولم يكن ممكن التعرض لأبناء العشائر
المتنفذة أو حلفائها لأن العشيرة ملزمة بالدفاع عن
أبناءها , مظلومين أو ظالمين , ولا التعرّض لشخص
متنفّذ بحكم الهيبة والوجاهة التي يحسب لها حسابها
في معشر أو مجتمع يقوم على التراتب الأجتماعي .
وقد إستفاد محمد من هذه المزايا من حماية نفسه
وأتباعه في آن واحد . وفي الحالات التي تمكن فيها
المكّيين من أضطهاد أتباع محمد من الضعفاء , كان
صمود هؤلاء ضامن لتماسك الكتلة وعدم إنهيارها أو
تفككها بالتراجعات . ولم يسجل تاريخ الفترة
المكّية أي حادثة ردّة تحت ضغط الأضطهاد.
كانت مجموعة دار الأرقم هي نواة الكتلة التي شكلها
محمد لتقوم معه بالدعوة . وهي التي أصطلح عليها
فيما بعد بالصحابة . وكان الأنضمام الى المجموعة
مشروط بالأيمان بنبوة محمد وأداء الفرائض التي
إقتصرت في مكة على الصلاة . ولم يوضع شرط آخر
للمهتدين من قبيل المتبع في التنظيمات الحزبية
الحديثة فقد ضمت كتلة الصحابة في مكة رجال ونساء
وشباب وكهول وفقراء وأغنياء وعبيد وأحرار , كما
ضمت معوقين كالعميان وأناس من ميول ومشارب مختلفة.
لكن محمد أظهر ميل ملموس الى نوعيات تتمتع بصفات
معينة كالشجاعة والهيبة والوجاهة والكفاءة
السياسية وطلاقة اللسان والقدرة على المحاججة وما
اليها من كفاءات كانت دعوته تحتاجها في ظروف مكة .
وقد تضمن القرآن واقعة لها دلالة هامة في هذا
المنحى , خلاصتها إن محمد كان يتكلم مع " رجل من
عظماء المشركين " طمع في إسلامه فجاءه رجل أعمى من
ضعفاء أتباعه يسأله عن قضية فأنزعج محمد وعبس في
وجهه لأنه قطع حديثه مع المشرك المذكور وثمة لوم
للنبي على هذا التصرف في سورة كاملة من قصار
السور المكيّة هي سورة " عبس وتولى " فقد كان
إهتمامه بنوعية المنظمين الى حركته يوازي إهتمامه
بتكثيرهم. وقد نجح في أستصباء العديد من الكفاءات
القريشية وغيرها قبل الهجرة. وأستمر في هذا المسعى
الى ما بعد فتح مكة , فتمكن من الحصول على كوادر
تنظيمية وعسكرية ساهمت في إدارة صراعاته بكفاءة
عالية.
ان تجربة العمل السرّي في مكة هي أول إختبار
تنظيمي من هذا النمط يمارسه العرب . وكانت التجربة
بسيطة , إبتدائية , لم تقترن بقواعد التخفي او
تعليمات متشددة لكتمان الأسرار . فقد ظهر التنظيم
المحمدي كما قلنا في وسط عديم الدولة لا يملك جهاز
قمع ولا جهاز مخابرات. فكان الباعث الارأس على
التستر قلة الأتباع وضعفهم وبالتالي عدم قدرتهم
على تحمل رد الفعل من الملأ المكّي.
لهذا السبب لا نجد انعكاسات ملحوظة لفترة العمل
السرّي في القرآن أو الحديث عدا الوصايا المألوفة
بكتمان السر , وهي أدخلت في منحى الأخلاق وصيانة
وضع الفرد أو العائلة منها في العمل السرّي .
إن قصر مدة العمل السرّي في الدعوة المحمديّة يرجع
من جهة اخرى الى الأستراتيجية الكليّة لصاحب
الدعوة. وهي استراتيجية تقوم رئيسيا على مبدأ
الهجوم . فرغم ان محمد عُرف بطول الأناة وعدم
التهور فقد صدر في مجمل نشاطاته عن روح مبادرة
كانت تضع خصومه دوما في موقع دفاعي. وكثيرا ما نفذ
خطط من هذا القبيل بأمكانات بسيطة . فقد خرج الى
النشاط العلني في مكة بأربعين مؤمن وخاض اول معركة
مع قريش بثلاثمائة مقاتل اغلبهم مشاة وبأسلحة
رديئة . وهذه المعركة لم تُفرض عليه وإنما اختار
هو وحده بنفسه مكانها وزمانها . وتحرش
بالأمبراطورية البيزنطية بجيش صغيروفي وقت لم يكن
في مجموع قوته قادر على إحتواء رد الفعل البيزنطي
. وقد حققت هذه الأستراتيجية نجاحات هامة لصاحبها
, اذا جعلت لدعوته الكلمة الأولى في العَرَبْيا في
غضون اقل من عشر سنوات , ثم هيأته للأندفاع خارجها
. وهي مرحلة حال موته دون انجازها على يديه فنهض
بها خلفاؤه المباشرين.
فيما يتعلق بأطار العمل , لا يمكن القول ان محمد
قصد الى إيجاد شكل من التنظيم الحزبي لم يكن يعرف
في زمانه . لكننا نلمس اوليات تكتل قيادي يبدأ كما
لاحظنا من دار الأرقم ويستمر في الأدوار التالية
محورا وأداة للعمل السياسي والأيديولوجي والعسكري
, ثم يتبلور في جماعة " المهاجرين والأنصار " التي
اعطيت مفهوم أضيق من مفهوم الصحابة , وتحدد دورها
بعد وفاة النبي بوصفها الكتلة القائدة التي تتولى
اختيار الخليفة عن بنيها , كما تبقى حول الخليفة
لتقوم بدور " أهل الشورى " الذين يساهمون مع
الخليفة في صياغة السياسات المختلفة للدولة .
يتبع
الجزء الثاني
>>
*
كان ضمن موضوعات الثقافة الجديدة المنشورة في
العدد 207 آذار 208 نيسان 1989 بمناسبة الذكرى
الخامس والخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي ..
تمت إعادة كتابة النص من قبل صوت اليسار
العراقي
إعتزازا وتقديرا وتذكيرا للمؤرخ والمفكر
العراقي الكبير هادي العلوي
في الذكرى 76 لتاسيس الحزب السيوعي
العراقي .
13.3.2010
صوت اليسار العراقي
الصفحة
الرئيسية
|
مقالات
|
دراسات
|
عمال
ونقابات
|
فنون وآداب
|
أرشيف
الأخبار
|
المرأة
|
الأطفال
|
إتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة
© 2009 صوت
اليسار العراقي