كتابات حرّة

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

 إصدارات صوت اليسار العراقي

 

من تجارب التنظيم السري والعمل الحزبي في الأسلام *

 4 \ 4

 

للمؤرخ والمفكر العراقي الراحل

هادي العلوي

 

 الأسماعيلية

وترجع نشأة هذه الشعبة الى أواخر القرن الثاني . وقد اتبعت اسلوب جديد في التنظيم والنضال السرّي حيّر في زمانها ولا زال يحيّر المؤرخين حتى اليوم .

ويبدأ الاشكال مع الشخص الذي حملت الحركة اسمه , وهو اسماعيل بن جعفر الصادق , الذي تتناقض الأخبار عنه فتجعل من الصعب البت بقرار مريح فيما يخص علاقته بالحركة . ومن المتفق عليه مع ذلك انه توفي خلال حياة والده فانتقلت الأمامة الى اخوه الأصغر موسى حسب الأثني عشرية والى ولده محمد حسب ترتيب الأسماعيلية . ويبدو ان المنظم الفعلي للفرقة هو محمد بن اسماعيل , لأن الأسماعيلية رغم تمسكها بامامة اسماعيل تعترف بوفاته شابا في حياة ابيه ولا تنسب اليه دور ملموس في التأسيس . ويرتكز اقرارها بوفاته قبل والده في مادة من منظومتها العقائدية تنكر انتقال الأمامة من الأخ الى الأخ بعد الحسن والحسين . وهي تهدف من ذلك الى ابطال امامة موسى بن جعفر , واعتبار محمد بن اسماعيل هو الأمام . ويلقب محمد بالمكتوم , لأنه حسب بعض المصادر الأسماعيلية استتر في زمان هارون الرشيد , وكان يقود الفرقة من مخبأه التي تراوحت ما بين دُنباوند وفرغانة في آسيا الوسطى , اونيسابور في خراسان . واستمر اولاده من بعده في الأستتار حتى نجحت الدعوة في المغرب على يد عبيد الله حفيده الثالث , حيث تأسست الخلافة الفاطمية , وفي سلسلة النسب بين عبيد الله ومحمد المكتوم يرجع الى سرّية الحركة.

اتبعت الأسماعيلية فضلا عن اسلوب الأستتار الذي شاركتها فيه فرق الشيعة الأخرى , تنظيم تحت القاع يقوم على الأسس التالية :

1-    قيادة مركزية عليا تتمرس في موقع حصين ومستور يتصدرها الأمام الأسماعيلي .

2-    قيادة اقليمية يتولاها الدعاة المعينين من طرف الأمام . والداعية هو عصب التنظيم في اقليمه , وغالبا مايكون هو القائد الفعلي للفرع الذي يتولاه او الحاكم عند اقامة سلطة . وهو كالحمدان بن الأشعث (قرمط ) داعية السواد وصاحبيه عبدان والأهوازي والحسن بن الصّباح داعية آلموت في ايران .

3-    تتخلل هذين الطرفين – الأمام والداعية – حلقات اتصال تختلف المصادر حولها كثيرا . وقد عدد النعمان المغربي في الرسالة المذهبية ستة هم : المؤمن , المحرم (بكسر الراء المشددة ) , المحل , المأذون , الجناح , والحجة . ( الرسالة المذهبية منشورة في إضمامة لعارف تامر بعنوان خمس رسائل اسماعيلية ) والحجة بحسب الغزالي هو الداعية نفسه ( فضائح الباطنية ص 42 ) لكن النوبختي فرق بينهما وجعل الداعية اقدم من الحجة , كما أضاف     " اليد " وعرّفه بأنه رجل له دلائل وبراهين يقيمها ( فرق الشيعة ص 75 ) ولعله يقصد باليد الجناح وهو بتعريف الغزالي الواسطة او الرسول بين الداعي والأمام , يرفع اليه الأحوال عن الداعي ويأخذ منه التوجيهات اليه . أما المأذون فهو من أعوان الداعي أو الحجة . ولم أعثر على تعريف للمحرم والمحل . وتضم سلسلة الأعضاء المستجيب والمؤمن . والأخير هو المرتبة التالية للمستجيب . وطبقا لهذا النسق يكون المستجيب مرادف للمرشح في التنظيمات الحزبية الحديثة . والمؤمن هو العضو الكامل العضوية فيها . ومن الجدير بالملاحظة هنا ان معظم الفرق الأسلامية اعتادت على اطلاق اسم مؤمنين على أعضائها , تمييزا لهم عن اتباع الفرق الأخرى الذين يعتبرون في نظر بعظهم البعض مسلمين لا مؤمنين . واستعمل بعض الأسماعيليين للأشارة الى أعضاء الحركة من المؤمنين اسم رفيق وصيغة الجمع رفاق وليس رفقاء كما هو القياس .

4-    التدرج في تثقيف المدعوين للأنضمام وعدم مكاشفتهم بعقائد الفرقة جملة واحدة . وقد وضعت بحسب المصادر السنيّة , كتب لهذا الغرض تتدرج في كشف العقائد حتى تنتهي بالبلاغ السابع الذي يتضمن المكاشفة الكاملة وفي هذا الطور الأخير يطلع العضو على مذهب الأسماعيلية في نسخ الشريعة بالأستناد الى التأويل الباطني للقرآن . ونسخ الشريعة يعني الغاءها بشريعة أخرى يأتي بها نبي جديد . وهذا النبي عند الأسماعيلية هو محمد بن اسماعيل بوصفه الناطق السابع . والكتب مكتومة . ومن المحتمل انها لم تكتب فعلا وانما كانت تعاليم شفوية تلقى على العضو في تدرجاته . وأنا أرجح هذا الحكم حتى يظهر الأسماعيليين المعاصرين كتبهم التي يدعون إنها محفوظة لديهم لنعرف إن كانت لديهم مدونات بالبلاغات السبعة . أما أهداف الحركة فتشرح للمستجيب والمؤمن وهي تدور حول نقطتين :  إعادة الخلافة الى أهل بيت النبي , وأنصاف الفقراء من الأغنياء .

5-    يستند التنظيم الأسماعيلي الى أيديولوجيا كونية ذات نسق نيو أفلاطوني . نجد ذلك في منظومة الأصول الأربعة وهي : السابق والتالي والناطق والأساس . والسابق والتالي سماويين الأول يقابل العقل والثاني النفس التي تفيض عنه تبعا للقاعدة النيو إفلاطونية : الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد . أما الناطق والأساس فهما المقابلان الأرضيّان للسابق والتالي . والناطق هو النبي الذي تفيض عليه من العقل , يتوسط النفس , قوة قدسية تسمى النبّوة . وينتقل جزء من النبوّة الى الأساس وهو الوصي الذي لا تكمل رسالة النبي إلا به . والناطق و الأساس يتسلسلان من آدم حتى محمد بن اسماعيل وهو الناطق السابع وأساسه عبد الله بن ميمون القدّاح . والسابع هنا ليس صدفة تاريخية بل هو مقابل أرضي لأصول كونية تشمل الكواكب السبعة والسموات السبعة والأرضين السبعة والثقوب السبعة في الجسد .  ومن هنا تأتي المكانة الخفيّة للأمام الأسماعيلي بوصفه كما يقول إبن هانيء , شاعر الأسماعيلية الأوحد :

                          هو علّة الدنيا ومن خلقت له

                          ولعلّة ما كانت الأشياء

والأمام داخل في الحدود العُلْوية التي تشمل النطقاء والأسس والأيمة والتي تتصل بها من حيث تنتهي الحدود السفلية وأدناها المؤمن الذي يترقّى عبر خمس مراتب حتى يصل الى الحد السادس وهو الحجة أو الداعي .

وهكذا تأخذ الأسماعيلية بعد كوني يضفي على تنظيمها من أعلاه الى أسفله غلالة غنوصية يلتف الأسماعيلي في شبكتها المقدسة فلا يفلت منها إلا شهيدا أو حاكما . وهو في ذلك قد خرج من ذاتيته ليذوب في المشيئة المطلقة للوجود , مع ما يلازم هذه الحالة من الهوس الأيماني – العقائدي المعطِل . ويرتبط الفرد الأسماعيلي بالفرقة من خلال عقيدتين متكاملتين : عصمة الأمام والتعليمية . ويقصد بالأخيرة الأنقياد لقول المعصوم وعدم الأجتهاد فيما يقرره . ويتشكل من تكامل هاتين العقيدتين شكل صارم من المركزية الغير ديمقراطية , يكون فيه عضو التنظيم منفذ أعمى لقرار الأمام والدعاة . ولو إن هذا لا يقع بالقسر لأن الأنقياد طوعي ويتحدد بمركز المؤمن في المنظومة الكونية الشاملة .

6-    التأويل الباطني واستخداماته في العمل السرّي : يُقصد بالتأويل تجاوز المعنى الظاهر للنصوص والأحكام الشرعيّة الى معاني وأغراض أخرى يورّى عنها بظاهر النص . وهو ركن هام في ايديولوجيا الأسماعيلية . وله تعلق وثيق بكل من غاياتها ووسائلها . وبقدر ما يتعلق بالعمل السرّي إتجه التأويل الى إعطاء بعض النصوص والأحكام الشرعية معاني تدل على وجوب التقيّد بالكتمان ومن ذلك الصيام ؛ معناها الظاهر هو الأمتناع عن الأكل والشرب , ومعناها الباطن الأمساك عن كشف السّر , أي إنه أمر بكتمان أسرار الدعوة ( الرسالة المذهبية للنعمان المغربي ص 35 ) وأعطوا طقوس الجَنابة تأويل غريب لتلبية نفس الأغراض , فقد نقل عنهم إبن المرتضى المعتزلي في " المنية والأمل " إن الجَنابة هي إظهار العلم الى غير أهله . ويعني ذلك إفشاء العقائد لمن لم يبلغ رتبة الأستحقاق . ويرد هذا التأويل عند الشاطبي في " الأعتصام " وهو من مصادر أهل السنّة ويضيف اليه إنهم يعتبرون الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك (1 \ 340 ) ويقول الغزالي إنه  أولوا الأحتلام – القذف أثناء النوم – على إنه سبق اللسان على إفشاء السر في غير محلّه والأغتسال منه يعني تجديد العهد , وليس هو الأستحمام المعروف ( فضائح الباطنية 56 ) . وتحتاج هذه التأويلات الى تدقيق لورودها في مصادر غير إسماعيلية .

وأخطر الأسرار الباطنيّة هو السر المتعلّق بأشخاص القادة , وهم حسب تراتبهم : الناطق والأساس والأمام والقائم . وقد تضمنتها آية من آيات الحج أولها النعمان في الرسالة المذهبيّة على هذا النحو :

- يأيها الذين آمنوا لا تُحلوا شعائر الله : لا تكشفوا حدود الله وهي أسرار الدعوة .

- ولا الشهر الحرام : ولا الناطق حتى يُظهر دعوته ويتم أمره .

- ولا الهَدْي : ولا تكشفوا أساسه أي وصيه .

- ولا القلائد : يعني الأيمة المستورين .

- ولا آمّين البيت الحرام :  وهو القائم أي المهدي .

 

7-    التنكر والأسماء الحركيّة :  تشترط الأسماعيلية على الداعي أن يتقن التخفي والتنكّر وإن لا يطيل المكوث في بلد واحد بل يتنقل من وقت لآخر حتى لا يؤدي طول إقامته في مكان واحد الى كشفه . وقد مر بنا وقائع عن إستخدام الشيعة للتنكر , وكيف نسج الخيال الشعبي عن بعضها حكايات تشير الى شدّة إتقانه مع رباطة جأش القائمين به , وهم يتنقلون بين عيون السلطة وعلى مقربة أحيانا من مراكزها الخطرة . وقد إستدعى العمل السرّي هذا الأسلوب رغم إنعدام الرسم والتصوير في ذلك العهد بسبب قوة جهاز المخابرات في الدولتين الأموية والعباسيّة ذلك الجهاز الذي جعل الهاربين من السلطة لأي سبب يلجأون الى الفيافي الموحشة الخالية من البشر لئلا تقع عليهم عيون المخبرين .

والجديد في التنكر عند الأسماعيلية إستعمال الأسماء المستعارة . ومع إن بعض الدعاة العباسيين إستعملوا هذه الأسماء من قبل ,  فأن الأسماعيلية توسعت بها وجعلتها من لوازم الأستتار التي تعم ّ أعضاء الحركة بما فيهم الأمام . وثمة خلاف حول الشخص الذي استخدم هذا الأسلوب لأول مرة : هل هو محمد بن اسماعيل أم أحد أولاده ؟

كما نشأ بسببه خلط بين محمد وداعيته أو أساسه عبد الله بن ميمون القداح , حيث قيل أحيانا إن عبد الله هو محمد نفسه .

لكن مصادر الشيعة تؤكد وجود شخص بهذا الأسم وقد روى عنه الكُلَيني في ( أصول الكافي ) الذي ألف في زمان الغيبة الصغرى . (انظر مثلا ج 1 \ 32 و ج2 \ 102 من ط ايران 1381 هج الكُليني ) .

وهناك رواية اسماعيلية تفيد ان أول من أستتر هو عبد الله بن محمد بن اسماعيل ( الرسالة الكافية \ ضمن رسائل عارف تامر ص 121 ) . واستتار الأمام يوجب تبديل الأسم كما يلزم ذلك الداعي وغيره من مراتب الحركيين . وكل اسماعيلي يمكن أن يحمل اسم مستعار إذا إقتضت ذلك ظروف نشاطه . والأسم غير ثابت بالضرورة , ويستحسن تغييره مع الأنتقال الى بلد آخر . ومن الأسماء التي إستخدمها الدعاة : مبارك , ميمون , سعيد , نصر وبركان . أما الأيمة في دور الستر فتسمى جميعهم بمحمد . وهي خطة جيدة – للتعمية لأن كثر المتسمين بهذا الأسم من المسلمين يجعل تمييز أصحابه عسيرا .

عن اسلوب التنكر والأسماء الحركية والتشدد في الكتمان قد جعل إكتشاف قيادات الأسماعيلية وكوادرها من الأمور الصعبة على الأجهزة . وقد سلم الأيمة المستورين كلهم حتى ظهورهم في المغرب كما سلم الدعاة الكبار في جملتهم . ولم يقع في يد العباسيين إلا القليل من الكوادر الأدنى مرتبة .

 

 تنظيمات الخوارج و نشاطهم :

 

ظهر الخوارج لأول مرة في معركة صفين عند رفع المصاحف . وكانوا في جملتهم من القراء – فئة رجال الدين في صدر الأسلام – فتوقفوا عن القتال تدينا وفرضوا على علي بن أبي طالب ايقافه . وبعد التحكيم انشقت فئة أخرى عن علي متهمة أياه بالمساومة على مبادئه حين قبل بالتحكيم .و أنشقاق الخوارج في الحالتين ذو طابع عسكري . وقد خاضوا معركة مبكرة مع خليفتهم أسفرت عن مقتل أربعة آلاف من رجالهم .  وبعد انفراد الأمويين بالسلطة توزعوا على مجموعات صغيرة نسبيا ليخوضوا حروب متحركة شبيهة بحروب العصابات. ونظرا لطغيان العمل المسلح عليهم لم تتبلور لديهم تقاليد عمل سرّي . ولم يهتموا كثيرا بالدعاية لمذهبهم الذي بدأ سياسيا بحتا . وكانوا يعتبرون تجمع اربعين شخص كافي لأعلان تمرد . ولم توافق مجموعاتهم الأولى على التقية لتعارضها مع طبيعة صراعهم المستغرق في القتال . على انهم لم يستطيعوا الأبتعاد كليا عن العمل الفكري . ونظرا لوجود تجمعات كبيرة منهم في البصرة ومحيطها فقد صبأ عدد من رجالهم نحو الدراسات الفقهيّة والكلاميّة والتي كانت ناشطة في تلك المدينة .

وكان من هؤلاء ابو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي , المعاصر للحجاج الثقفي . ويعتبره الخوارج من مؤسسي مذهبهم . وهو فقيه ومحدث مرموق تخرج عليه عدد من نشطاء الخوارج بينهم عبد الله بن إباض التميمي مؤسس الأباضية اكبر فرق الخوارج  (والوحيدة الباقية منها الى الآن ) وابو عبيدة مسلم بن ابي كريمة , وهو زنجي الأصل تصدّر حركة الخوارج بعد شيخه جابر وتخرج عليه عدد من قادتهم في المغرب وعمان . ومن عبد الله بن اباض وابو عبيدة بدأ التحرك الواسع للخوارج بعيدا عن موطنهم الأصلي في العراق .

فقد ذهب خمسة من تلامذة ابو عبيدة الى المغرب , ومثلهم الى عمان , ونشروا هناك افكار الخوارج مستفيدين من بعد تلك الأصقاع عن مركز الخلافة في دمشق . وقد تغلغل دعاة الخوارج واتباع عبد الله بن أباض في ارياف المغرب واستطاعوا تعبئة جماهير غفيرة من البربر لمقاومة مظالم الأمويين .

ويبدو ان هذا ماكانت تعنيه ملاحظة للطبري تقول ان أهل المغرب كانوا من أطوع الناس لأنهم كانوا يعتقدون ان الخلفاء الأمويين لا يعلمون بما يفعله ولاتهم , حتى جاءهم دعاة العراق فأثاروهم وأعلموهم ان هؤلاء – يعني الولاة – انما يعلمون بأمر اولئك , يعني الخلفاء ( ج 3 \ 313 ) .

وحقق الخوارج نجاحات مرموقة في المغرب فأقاموا ما سماه الراحل المرحوم احمد صادق سعد " جمهوريات تسووية " في انحاء شتى من تلك البلاد وعلى امتداد القرون الأولى من تاريخ الأسلام .

وفي كل هذه الصراعات لم يجد الخوارج حاجة ماسة الى العمل السرّي , فاذا تركنا جانبا غلبة القتال على اصولهم في المشرق طوال القرنين الأول والثاني , فأن عملهم في المغرب بين جماهير البربر وفّر لهم كسبا سريعا مكنهم من توطيد اقدامهم في تلك البقاع . وهو ماتمّ  لهم ايضا في عمان التي سرعان ما صارت اشبه بمنطقة مقفلة للأباضية . وأختار افراد الخوارج طريق المجابهة المكشوفة مع الأستعداد لدفع الثمن لقاء ذلك . وكان سلوكهم مع الولاة والخلفاء انتحاري في الغالب . وكان زعماؤهم الأوائل , جابر بن زيد وعبد الله بن أباض وبلال بن مرداس وغيرهم , يواجهون الخلفاء والولاة الأمويين بهذه الطريقة مشافهة أو مكاتبة . وتحتفظ مصادر الأباضية بمذكرة لعبد الله بن اباض كتبها لعبد الملك بن مروان بلغة فدائيّة عديمة الرتوش . ونجد لهذا السلوك اصداء في مؤلفات الخوارج . وقد اطلعت في مكتبة المتحف البريطاني غلى مخطوطة في التاريخ لمؤلف اباضي بعنوان " الكشف والبيان " عالج فيها احداث التاريخ الأسلامي بمنهج خالي من التقية تماما , ووزع اتهاماته على العديد من الصحابة الكبار , تبعا لآراء الخوارج فيهم , ولو ان جرأته توقفت عند حرمات النبي فتورع عن نقد عائشة لدورها في حرب الجمل بينما ندد بصاحبيها طلحة والزبير ( رقم المخطوطة or . 2606 )

 

العمل السرّي في الثقافة :

يتردد في تاريخ الأدب العربي إصطلاح " المكتمات " ويشار به الى قصائد تداولها الناس ايام الأمويين وفيها هجاء لهم أو دفاع عن خصومهم . وعرف من المكتمات قصيدة للأعشى همدان رثى فيها قتل التوابين الشيعة . وأخرى يؤيد فيها حركة ابن الأشعث ضد الحجاج . وقد بقيت اشعار الأعشى متداولة سرّا ولا يعرف صاحبها حتى اشترك في حركة ابن الأشعث واخذ يجاهر بأشعاره المناوئة للأمويين . وقد كلفه ذلك حياته , اذ وقع اسيرا بيد الحجاج . ومن المكتمات هاشميات الكميت المار ذكرها .

وكان المتكلمون الأوائل ينشرون افكارهم بعيدا عن رقابة الأمويين الذين تبنوا الجبرية وكافحوا ما عداها من اطروحات علم الكلام . على ان قدرة المتكلمين على التستر لم تكن كقدرة السياسيين . وقد وقع معظمهم في قبضة السلطات الأموية وقتلوا . وأضطر لا هوتي كبير هو الحسن البصري الى المداراة والتقية , واحيانا الى الأختباء للتخلص من مطاردة الأمويين . وكان اذا اراد الأستشهاد بعلي ابن ابي طالب ذكره بأسم أبو زينب , ولجأ مرة الى شتمه ومهاجمته عندما أحس بوجود مخبرين في مجلسه . ولما فرغ المجلس سأله احد أصحابه عما بدر منه في حق علي فقال : كلمة باطل حقنا بها دما ! .

ونزل المعتزلة الى التعليم سرا في عهد المتوكل لتحاشي عقوبته بعد مرسوم الحظر الذي أصدره ضد الفلسفة وعلم الكلام . لكن كبار المتكلمين والفلاسفة كانوا يجدون الفسحة في معظم الأحوال لمعالجة قضاياهم  في المواقع العامة والمجالس الشخصية على السواء . وبالطبع فقد كان عليهم تغليف عباراتهم في النقاط الحرجة , ولو ان طبيعة البحث الكلامي والفلسفي تضمن في حد ذاتها عدم فهم المقصود منها لأفراد السلطة أو عامة الفقهاء أو الجمهور .

وشهد العصر العباسي تجربة جليلة في التعليم المكتوم قامت بها مجموعة اخوان الصفا . وهي  حركة مجهولة المكان والأسماء . وقد عرفت وانتشرت موسوعتها الفكرية المسماة " رسائل أخوان الصفا " دون أن يعرف مؤلفها على وجه التحقيق . فأخوان الصفا من الشيعة , ويميل معظم المؤرخين المعاصرين الى اعتبارهم اسماعيلية . وهو أعتبار وجيه  لتقارب افكارهم ولشدّة الشبه في تكتيك الكتمان الذي أنتج مثل هذه الموسوعة الضخمة وابقاها مجهولة المنشأ على أمتداد التاريخ .

 

 

                              الجزء الثالث >>  

 

الهوامش

 

-  الرقمية     NUMIROLOGY    نزعة  تضفي على بعض الأرقام دلالة سحرية أو دينية . وهي مشتركة لدى معظم الشعوب القديمة .

-  الفرقة اصطلاح اسلامي يرادف اصطلاحين معاصرين : حزب اذا كانت الجماعة المقصودة طرف في الصراع السياسي , واصطلاح مدرسة اذا كان المقصود اتباع مذهب فلسفي أو ديني . مثال الأولى الشيعة والخوارج  والخُرّمية ومثال الثانية المعتزلة والظاهرية . والمدلول الأول  للفرقة يصدق على اطراف الصراع السياسي في العصور الأسلامية , غير ان مدلوله أخذ بالتغير مع أنحسار النشاط السياسي للفرق حيث اختفى الأصطلاح بالتدريج ليحل محله اسم طائفة لما تبقى من الفرق الأسلامية .

 

- الجَنابة اصطلاح فقهي يشير الى الدنس  الناشيء عن خروج المني من الرجل نتيجة الجماع أو ما في حكمه كالأستمناء والأحتلام , وهو بالنسبة للمرأة نتيجة بلوغها الذروة في حالة مماثلة . وتوجب الشريعة الأغتسال للتطهر من الجنابة قبل اداء العبادات ودخول المساجد ولمس القرآن . والجنابة في أصولها السامية الابعد تدل على الأثم والقتراف.

 

- استخدمت في بعض الجمل حرف ع المختزل من حرف الجر على لأجل الأختصار وتيسير القراءة وهو استعمال قديم يرجع الى صدر الأسلام . وقد ورد في شعر لقطري بن الفجاءة جاء فيه قوله :

      غداة طغت ع الماء بكر بن وائل

      وعجنا صدور الخيل نحو تميم

 

-  كتاب اُلمنْية والأمل الذي اقتبسنا منه التأويل الباطني للجنابة مخطوط في نسختين بالمتحف البريطاني تحت رقم    or. 3772 و  or. 3937 اُلمنْية

     

* كان ضمن موضوعات الثقافة الجديدة المنشورة في العدد 207 آذار 208 نيسان 1989 بمناسبة الذكرى الخامس والخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي ..

 تمت إعادة كتابة النص  من قبل صوت اليسار العراقي  إعتزازا وتقديرا وتذكيرا للمؤرخ  والمفكر العراقي  الكبير هادي العلوي

في الذكرى 76 لتاسيس الحزب السيوعي العراقي . 13.3.2010

صوت اليسار العراقي

 

 

 

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

تصدرها مجموعة من الصحفيين والكتاب العراقيين

webmaster@saotaliassar.org    للمراسلة