<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن " النسيان السعيد"

 

 

 

" النسيان السعيد"

 

 

حمزة الحسن

 

لا يذهب سؤال المصالحة ابعد من الغفران أو الصفح، أو النسيان السعيد ـــ مصطلح ديريدا ـــ،
لأن توقف سؤال المصالحة عند هذا السؤال، دون تصفية مخلفات وآثار الماضي، ودون تثبيت صورة المستقبل،
واعادة بناء السلطة على قواعد الديمقراطية والعدالة الاجتماعية،
وليس على مبدأ " المشاركة" بين القتلة والضحايا، توقف المصالحة عند هذا الحد،
هو في الأساس فرض سياسة الأمر الواقع، أي قيام الجناة بتثبيت صورتين بالعنف:

الأولى: الماضي لم يكن قاتماً، والقتلة كانوا أصحاب حق، من دون نقد ولا اعتذار ولا مشاعر الأسف، وهي أقرب الى الصفقة والاكراه منها الى المصالحة الحقيقية.

الثانية: الصورة الثانية، وهي استمرار، ان المستقبل لن يُبنى من قبل الضحايا وحدهم كما في أي مشروع انتقالي،
بل ان قتلة الأمس شركاء في هذا البناء، تحت دعاوى النسيان والمصلحة الوطنية وتجنب الضرر الأكبر وغير ذلك من مفردات التحايل للتسلل من جديد.
لا ندري ما هو" الضرر الأكبر" أكثر من هذه الوحشية والدمار والرعب؟
ماذا أبعد من الذبح البربري على الأرصفة؟

الدول التي أسست المصالحة كواقع ومبدأ،
كان فيها الطرف الجاني قد ألقى السلاح، وخرج من السلطة، عن طريق الاكراه أو قواعد الديمقراطية،
ولم يلجأ الى العنف المسلح في صورته البشعة كما في الحالة العراقية،
ولم يدخل الدولة والمجتمع في مخاطر كبرى،
ولم يضف أرقاما جديدة للضحايا تحت مشاعر الخسارة وجنون فقدان السلطة،
ولم يترك اشلاء الابرياء موزعة في الشوارع،
واعترف بسياسات الدمار والعطب والاقصاء السابقة،
من دون حنين الى الماضي.

لكن العقل السياسي العراقي ـــ هل هو عقل؟ ــــ يتعامل مع المصالحة بعقلية حل النزاعات العشائرية وتسويات المضايف وذهنية الدواوين،
على أساس الدمج في مشهد كشكولي سعيد للفرجة قد يمضي بهم الى مستقبل أفضل.

ليس هناك، في كل مصالحات العالم، مثل الأريحية والكرم والسخاء العراقي في تصفية مخلفات الماضي،
وهو الماضي المستمر،
حتى وصل "الكرم " الى أبعد من ذلك،
عندما اقترح القتلة الاقرار في الحق في السلطة،
أي تثبيت صورة الماضي والشراكة في صناعة المستقبل،
أو استمرارية العنف ـــ صفقة عصابات.

ليس الكلام هنا عن ملايين أُكرهوا على الانتماء لأن هؤلاء ضحايا أيضاً،
وقوانين العالم تُعاقب على إكراه الانسان بالعنف المباشر أو أشكال الحرمان الكثيرة من العمل والأمان والعدالة،
سواء كان الاكراه السياسي أو العقائدي أو حتى الاكراه على العلاج،
أو على الكلام أو الاجبار على الصمت، أيضاً.

بعض النماذج في النظام القديم تم دمجها في النظام الجديد وهو مشروع جاهز قبل الاحتلال، مع تركيبة من الضباط والمقاولين الجدد، لأن هؤلاء بسبب الخوف من الماضي أكثر امتثالية للتعليمات من سلطة الاحتلال.

هؤلاء مارسوا أدواراً مخربة في المرحلتين:
1: مارسوا في النظام القديم الخضوع المستمر مما وفر غطاءً للدكتاتورية.
2: مارسوا في النظام الجديد، حسب الدور المرسوم، العصيان المستمر وخلق الازمات على كل شيء وعلى اللاشيء، مما وفر غطاءً للإرهاب.
3: ومارسوا الصمت المشروط، بعد تقاسم الأسلاب والمناصب، ووفروا غطاءً للصوص.

اي انهم في المرحلتين مارسوا السلطة لترسيخ الموقع وليس ممارسة السياسة كفن الخيارات الأرقى والأبهى ومسؤولية تتعلق بحياة وكرامة الناس.

في كل ادوارهم نحن أمام مستحمرين ــــ الخضوع التام.
أو مستكلبين ــــ العصيان التام.
أو ضباع فطايس تتقاسم الفرائس.

اذا ركعوا، ضروا،
واذا عنفصوا، ضروا.

أليست هذه الأضرار الكارثية اليوم من نتائج النسيان السعيد وغفران الفرجة والصفح المرائي؟ ألم يكتب البير كامو بعد تحرير باريس رداً على دعاة الغفران للقتلة الفرنسيين الذين ارتكبوا جرائم قتل: " القصاص جزء من الغفران"؟. أي ان القصاص، بلا انتقام ولا اذلال، يعكس عدالة الضحايا لكي تكون هناك قدسية للدم.

في ظل حكومة وطنية نزيهة ومستقلة، فإن الحل الأمثل هو اعتقال وكبس هؤلاء بعملية جراحية في الليل، لكي لا يتم ايقاظ الاطفال والعجائز، بلا عودة الى اية شكليات وطقوس قانونية وسياسية ونقلهم في سيارات نفايات الى معتقلات نائية.

أو في الأقل الطرد الفوري ليس فقط عقاباً لهم على دورهم المخرب في عرقلة بناء الدولة ما بعد الاحتلال فحسب بل على الدور التخريبي القادم والمتوقع والمؤكد،
دون الالتفات الى مؤسسات اعلامية اجنبية أو عربية بدائية وقبلية لا يصلح ملوكها ومشايخها رعاة اباعر.

الكلام عن المصالحة بمنهج المقارنات مع تجارب دول أخرى،
هو لصق تناقضات ودمج شكلي ولعب بالالفاظ،
ان لم يكن من سياسات التحايل والتبرير لتمرير مشروع في منتهى الخطورة:
اختيار نيلسون مانديلا كمثل على المصالحة هو اقحام غير منطقي على واقع عراقي وحشي.
تجربة نظام الفصل العنصري لم تتم بالمصالحة أولاً، بل سبقها الاعتراف بالمشروع الديمقراطي والتوافق على الدولة المدنية،
واعادة بناء السلطة من جديد من دون حنين الى الماضي،
والمشاركة السياسية لم تتأسس على أساس عنف دموي جديد،
بل على أساس قواعد الانتخاب.

بحكم عوامل كثيرة، لا نعرف الكثير مثلاً عن التجربة الفيتنامية بعد نهاية الحرب عام 1975،
لكن كيف جرت" المصالحة الفيتنامية"؟
لم تكن هناك أية مصالحة ولا تسويات ولا صفقات،
بل حتى اليوم يحرم القانون الفيتنامي كل من شارك بصورة مباشرة أو غير مباشرة في قتل الفيتناميين،
والتعاون مع الاحتلال الأمريكي،
من كل المناصب السياسية والحكومية،
وابعد من ذلك تعاني الكثير من القبائل والشرائح من الاهمال المتعمد والعزل السياسي والاجتماعي كقبائل المونتجنارد الجبلية،
كعقاب رغم احتجاجات منظمات حقوقية دولية،
تتجاهلها الدولة من دون رد ولا تعقيب،
لأن ملايين القتلى والمفقودين والاف القرى المحروقة وتشوهات الطبيعة والصحة والحقول والأجساد،
لا يمكن أن تذهب بعقلية بوس اللحى والترضيات ليس من أجل الانتقام للضحايا،
بل من أجل ألا يتكرر ذلك،
أي من أجل تثبيت صورة الحاضر والمستقبل،
ومن يزور فيتنام يكتشف ان آثار الخراب القديم تُركت كما هي بل تحولت الحقول المحروقة والانفاق التي عبارة عن مدن تحت الأرض،
والمعتقلات والدبابات المحطمة والثكنات والقواعد العسكرية والمطارات بل فنادق الترفيه الأمريكية، الى متاحف وأماكن للسياح غالبيتهم من الجنود الامريكيين الذين عاشوا الحرب كجزء من برنامج للعلاج النفسي،
لأن "النسيان السعيد" نوع من البلاهة على أقل تقدير،
ان لم يكن جهلاً بأن صورة الماضي سيعاد انتاجها من جديد.

لكن هل يدل اللاعقاب على النسيان كما يطرح أدغار موران السؤال وهو يستعرض اشكال مصالحات وحالات غفران وتسويات كثيرة في افريقيا وروسيا والمانيا وفي أوروبا؟
يقول:" على الضحية أن تكون أكثر ذكاء وانسانية ممن كانوا خلف معاناتها"،

هذا ممكن وصحيح لأن استعارة اساليب القتلة،
سوف يشوه الضحايا مرة أخرى، حتماً،
ويمكن" التسامح، والصفح، بل الرحمة والشفقة"،
لكن كيف يمكن امتلاك مثل هذا الكرم أمام قتلة أعادوا انتاج الموت ، ثانية،
بصورة أخطر وابشع من السابق؟

كيف يمكن فهم اجراء مصالحة في مسلخ بشري مستمر،
سوى ان الضحايا يكافئون جلاديهم ليس على ما فعلوه بالأمس،
بل على ما يفعلون اليوم وفي المستقبل؟

 

حمزة الحسن

 

عن موقع الكاتب على الفيس بوك

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10152838466657266

 

19.03.2015

  عودة الى الصفحة الرئيسية◄◄

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

19.03.2015

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا للتقسيم لا للأقاليم

 

لا

للأحتلال

لا

لأقتصاد السوق

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                          

  

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org