الصاق تهمة تجارة الرق بالعرب
د. ثائر الدوري
في عام 2100م أو 2200م - إن استمرت البشرية في البقاء- جاء مؤرخ
أمريكي – إن استمرت أمريكا في الوجود – و اتهم الهندوراس و السلفادور
باستعمار العراق لأنهما أرسلتا كتيبتي جنود عملتا بإمرة الجيش
الأمريكي ، ثم جاء أحد العرب و طالب السلفادور و الهندوراس بالاعتذار
عن هذا التاريخ الاستعماري ، ثم صدق رئيس السلفادور أو الهندوراس هذا
الأمر و قدم اعتذراً ، و بعدها بدأ المؤرخون الأمريكان يكتبون عن
المآسي التي اجترحتها القوات الهندوراسية و السلفادورية أثناء احتلالها
للعراق .
و ما موضوع الرق الذي يتهم العرب بممارسته في جزيرة زنجبار و في شرق
إفريقيا عامة إلا شبيه باتهام هندوراس أو السلفادور باستعمار العراق
لأن هاتين الدولتين أرسلتا عدداً محدوداً من الجنود بأمر أمريكي . كم
تبدو هذه التهمة مضحكة ! أما إن كان تسليط الضوء على هندوراس و
السلفادور لتبرئة الولايات المتحدة فهذا أمر يدعو للبكاء.و هذا عين ما
يحدث مع العرب في موضوع تجارة الرق فيركز الغرب و أتباعه على جدورهم
الهامشي في هذه التجارة لتغطية الدور الرئيسي الذي لعبه الغرب.
قبل مناقشة موضوع الرق لا بد من توضيح عدة نقاط أولها أن الرق من أجل
العمل في الخدمة المنزلية كان موجوداً في كل العصور، و ما زال موجوداً
حتى اليوم بتسميات و أشكال مختلفة قليلاً عن العبودية السابقة. و الأمر
الثاني أن كل الشعوب مارست هذا النوع من الرق كما أنها وقعت ضحيته بغض
النظر عن العرق و اللون و الدين ، فقد كانت الأطراف المتحاربة تأسر من
بعضها و تبيع الأفراد المأسورين كرقيق أو تستفيد من خدماتهم عسكرياً ،
كما حدث في ظاهرة المماليك في التاريخ العربي الاسلامي الذين بدأوا
كرقيق عسكري و انتهوا سادة للحضارة العربية – الاسلامية . لكن ما حدث
في العصور الحديثة أن مضمون ظاهرة الرق اختلف جذرياً فقد تحول إلى رق
مندمج ضمن نظام رأسمالي غربي، فصار نظاماً و طريقة حياة مندمجة بالنظام
الرأسمالي و تعمل في خدمة هذا النظام ، و هذا ما جعل من شروط العبودية
وحشية لا تطاق ، فبينما كان هناك حد لا يمكن تجاوزه من الإنتهاكات
بالنسبة للرق المنزلي صار رصيد الانتهاكات الإنسانية مفتوحاً على
اللانهاية للعبيد الذين يعملون في حقول القطن الأمريكية ، و يلاحظ
ماركس أن العبد في ظل هذا النظام كان يستهلك و يموت خلال سبع سنوات و
يُستعاض عنه بشحنة جديدة من أفريقيا .
لذلك يجب عدم خلط الأمور عند الحديث عن الرق أو العبودية . فالحديث هنا
مقتصر على ظاهرة الرق التي حدثت في العصر الحديث،و كان موضوعها
الأفارقة السود الذين شُحنوا من أفريقيا ليعملوا في مزارع القطن في
الولايات المتحدة و بقية القارة الأمريكية و هناك تعرضوا لأسوأ اضطهاد
عنصري و ما زالوا .
تتهم المصادر الغربية العرب باستعباد الأفارقة و بمسؤوليتهم عن شحن
العبيد من أفريقيا ، و يتم تعيين جزيرة زنجبار كمركز رئيسي للشحن ، و
ما زالت الحكومة القائمة هناك ، و التي استلمت السلطة بعد انقلاب دموي
عنصري على النظام العربي عام 1964 م . ما زالت تحتفظ بتراث تجارة
العبيد من الأماكن التي كانوا يشحنون منها ، إلى أماكن تخزينهم ، إلى
وسائل السيطرة عليهم ، و يقدم كل ذلك للسياح الذين يزورون تلك الجزيرة
، التي كانت يوماً ما عربية ، دليلاً على عنصرية العرب تجاه الأفارقة ،
و على عملهم بتجارة العبيد في حين أن مساهمة زنجبار و عرب زنجبار
بتجارة العبيد أشبه بمساهمة هندوراس و السلفادور باستعمار العراق . فما
هي قصة زنجبار التي يتهم العرب باستعمارها و ممارسة الرق عبرها ؟
تاريخ الكيان العماني الزنجباري
يرجع الوجود العربي في شرق أفريقيا و منها زنجبار إلى أكثر من ألفي عام
، فبعض المؤرخين يُرجعه إلى نحو الألف الأول قبل الميلاد ، أما المؤرخ
العمري فيقول بثلاثة آلاف عام . و قد سجل أحد المؤرخين الإغريق أن
سواحل أفريقيا كانت تزخر بالسفن العربية. تلقت العلاقات العربية -
الشرق أفريقية دفعة قوية بظهور الاسلام فقد هاجر المسلمون الأوائل إلى
الحبشة ، كما ازدهرت حركة التجارة الدولية التي باتت تحت سيطرة العرب و
المسلمين ، و انتشر الإسلام هناك ، و تعربت السواحل تماماً ، إما
ثقافياً ، أو بفعل الهجرة و الاستيطان العربي ، فنشأت سلسلة مدن عربية
هي من الشمال و الشرق إلى الجنوب و الغرب : مقديشو ، براوة ، كسمايو ،
بان ، مالاوه ، زنجبار ، ماقية ، كلوة ، موزامبيق ، سفاليه ، و وصل
العرب في الداخل حتى أعالي نهر الكونغو في أوغنده.
سكن العرب زنجبار قبل ألفي عام ، و كانوا أول من قطنها من البشر فقد
جذبهم إليها جوها البديع ، و أرضها الخصبة ، و طبيعتها الخلابة . و كان
ساحل شرق إفريقيا تابعاً لها . و في عام 1828 م استقر السلطان السيد
سعيد بن سلطان في زنجبار و جعلها مقراً لحكم الدولة العمانية –
الزنجبارية مفتتحاً مرحلة جديدة في تاريخ هذه الدولة ، فقد كان ينيب
عنه أحد أبنائه في مسقط أثناء و جوده في زنجبار و بالعكس ، و بقي هذا
الكيان دولة واحدة حتى عام 1860م. خضعت زنجبار رسمياً للحماية
الإنكليزية بعد مؤتمر برلين عام 1870 بعقد معاهدة هيلغولاند – زنجبار
بين بريطانيا و ألمانيا ، حيث تنازلت بريطانيا لألمانيا عن جزيرة
هيلغولاند ، و هي جزيرة صغيرة في مدخل بحر الشمال ذات أهمية استراتيجية
فائقة ، مقابل قبول ألمانيا بسط الحماية البريطانية على زنجبار
رسمياً.و عندما اعترضت فرنسا تم استرضاؤها بجزيرة مدغشقر .
تعرضت المنطقة لأول اجتياح غربي على يد البرتغاليين في بداية القرن
السادس عشر حيث استولوا على أغلب الموانيء العربية و منها زنجبار و
عمان ، و في عام 1698 م طرد الإمام سيف بن سلطان اليعربي الأول الملقب
بـ " قيد الأرض " البرتغاليين من هذه الحواضر . و هذا التاريخ يعتبر
بداية خضوع جزر كلوه و باتا و زنجبار و ممباسا للحكم العماني الرسمي .
لكن منذ دخول البرتغاليين إلى حوض المحيط الهندي لم يعد العرب القوة
المسيطرة على هذه المنطقة ،التي وقعت تحت سيطرة الغربيين و ما زالت حتى
اليوم . لقد صار الوجود العربي في شرق أفريقيا تحت سيطرة القوى الدولية
المهيمنة ، أو يستفيد من الثغرات التي تنشأ من صراعاتها و أحياناً يدفع
ثمن صراعاتها . لكن العرب في كل الأحوال لم يعودوا طرفاً مقرراً لا في
مصير هذه المنطقة و لا في غيرها . بل صار الغرب هو منظم العالم و محدد
لطريقة عيشه و لاقتصاده ، و في ظل السيطرة الغربية نشأت ظاهرة استرقاق
الأفارقة و شحنهم إلى أمريكا،و كما يحدث في كل الأزمنة و الأمكنة و عند
كل الأمم يلتحق بالغالب أفراد من كل الشعوب و القوميات المغلوبة و
يعملون تحت إمرة المنتصر ، و قد التحق عدد ما - قليل أو كثير - من
العرب ، و مارسوا تجارة الرق لصالح الغربيين مقابل بعض الأرباح المادية
، أي أنهم أصبحوا سماسرة عند الغربيين ، و فعل نفس الشيء بعض زعماء و
أبناء القبائل الأفريقية فكانوا يصيدون أبناء جلدتهم و يبيعونهم
للغربيين .
إن من تعاون مع الغربيين من عرب و أفارقة أفراد و مسؤوليتهم فردية ،
فهم وحدهم يتحملون وزر ما فعلوه ،و يبقى الغرب المسؤول الأساسي عن هذه
التجارة، و هو من يتوجب عليه أن يعتذر للأفارقة ، فكل عبد شُحن بواسطة
السفن في حوض المحيط الهندي إلى أمريكا تم باشراف و مسؤولية غربية و
لمنفعة الغرب ،لأنهم كانوا مسيطرين على هذا المحيط .
عمل في العراق تحت الإشراف الأمريكي أفراد مرتزقة من كل الجنسيات من
الفليبين و بورما إلى جنوب أفريقيا و تشيلي فهل أممهم مسؤولة عن
أفعالهم !و بشكل مشابه عمل أفراد عرب في تجارة الرقيق لكن تحت أمرة
الغربيين و بإشرافهم . لقد عملت أشهر شخصية عمانية الملقب " تيبو تيب "
تحت أمرة الغربيين و لصالح ملك بلجيكا ، فأوصل المستكشف ستانلي إلى
منابع النيل ، و سجل التاريخ الغربي أن ستانلي هو من اكتشف منابع النيل
لأن " تيبو تيب " يعمل تحت أمرته و لم يسجل أن "تيبو تيب" هو المكتشف ،
لكن عندما يعمل " تيبو تيب" بتجارة الرقيق لصالح الغربيين تُلصق التهمة
بالعرب .
الظاهرة الاستعمارية العربية المزعومة في شرق أفريقيا
في الكتاب الأسود للاستعمار (الكتاب الأسود ( 1600-1800) -إشراف: مارك
فرو - ترجمة محمد صبح - مراجعة زياد منى - دار قدمس ) تم حشر الوجود
العربي في زنجبار ضمن الظواهر الاستعمارية ، و أفرد معدو الكتاب فصلاً
خاصاً بعنوان " الاستعمار العربي بزنجبار " . يدور حول ما أسماه المؤلف
استعمار سلطان عمان لزنجبار و إقامته بها منذ عام 1840 . لا أدري كيف
تم حشر العرب بهذا الأمر رغم أن المؤلف نفسه يعرف أن العلاقات بين شرق
أفريقيا و العرب تعود إلى قبل ظهور الإسلام ،كما قلنا ، و هناك تمازج
سكاني كثيف بين العرب و الأفارقة و اختلاط لغوي و حضاري ، و قد أقام
التجار العرب حواضر كثيرة على الساحل الأفريقي بعضها ما زال قائماً حتى
اليوم و بعضها دمره الغزو الغربي .
لتلفيق هذه التهمة للعرب يتجاهل المؤلف أن حوض المحيط الهندي صار تحت
سيطرة الغربيين منذ القرن السادس عشر ، و أن عمان نفسها ، التي يُتهم
العرب عبرها بممارسة الاستعمار في زنجبار ،هي نفسها قد سقطت بيد
البرتغاليين التي استولت على ممتلكات العرب في شرق أفريقيا كاملاً إلا
في بعض الجيوب المحدودة . و أما عودة العمانيين كقوة بحرية في القرن
التاسع عشر فقد تم تحت رعاية انكليزية بحتة و الاستيلاء على زنجبار
يندرج في ذلك الإطار ، فقد كانت هذه الجزيرة الإستراتيجية موضع تنازع
القوى الدولية الكبرى في ذلك الوقت ، من فرنسيين و ألمان و انكليز .
قسمت معاهدة 1886 الأنغلو- ألمانية مناطق النفوذ على الساحل بحيث كينيا
لبريطانيا و تنزانيا لألمانيا. و قد دفع ثمن هذا الصراع بين القوى
الدولية أفراد أسرة السلطان نفسه ، فنفي من نفي بتهمة التحالف مع قوة
أخرى ، و يشهد على ذلك مصير ابنة السلطان سالمة التي تزوجت ضابطاً
ألمانيا و حظر الإنكليز عودتها للجزيرة إلا مرة واحدة و بعد احتياطات
كثيفة. و حتى مؤلف هذا الفصل يغالط نفسه ، فيعود ليقر بالحقيقة :
(( ذلك أنه حتى لو كان النموذج الثقافي المهيمن هو السواحيلي ، فما من
أحد ، منذ الستينيات ( القرن التاسع عشر ) ، و قبل الاستعمار الأوربي
بكثير ، كان ينخدع بالأوهام : فإلى جانب السلطان برغش ، كانت السيطرة
الإقتصادية بيد الغربيين ، و أولهم البريطانيون الذين كان لهم اثنان من
المستشارين للسلطان يعرفهما الجميع : القائد العسكري لويد ماثيوس و
القنصل العام جون كيرك . و قد شجع ارتفاع أسعار العاج الذي تسبب به
الطلب الغربي الذي ليس له حد ، هذا التقدير للسيطرة الإقتصادية الغربية
))
اما تجارة الرقيق التي يلصقها هذا الكتاب أيضاً بعرب زنجبار فيعود
المؤلف ليعترف بالحقائق ، فيقول :
(( و الحال إن تجارة الرقيق الإفريقية كانت تعيش على التجارة الدولية (
اقرأ الغربية )، و كانت تمول أساساً بالسلع المصنوعة الناتجة عن الثورة
الصناعية الأوربية و المرغوبة من قبل كل الشركاء الدوليين الآخرين . و
كانت الأسلحة من بين هذه السلع ضرورية لتجار العبيد لأن نجاح أعمالهم
كان مرهونا بها : سواء عن طريق العمل لعسكري لجلب العبيد أم عن طريق
التمتع بحق الأقوى ببساطة ))
و يتابع مؤلف في هذا الفصل شرح كيف أن أوربا بعد السلام العابر بعد
مؤتمر فيينا عام 1815 بعد عشرين سنة من الحروب البونابرتية وجدت
مخزوناً هائلاً من الأسلحة أعادت تصديرها إلى تجار الرقيق في أفريقيا .
يقول المؤلف :
" و لهذا ليس للغرب الحق في استنكار النظام العبودي الزنجباري : فهو إن
لم يكن و بشكل أكيد و بصورة غير مباشرة المحرض عليه فإنه كان المروج له
، على الأقل هو الذي أمن الإمدادات باستمرار "