"السأم
يتلوّن" لدنى غالي
العنكبوت "البصراوية" تحوك
المنمنمات للأسئلة
هل العنوان شكل أم مضمون؟ تعبّر العناوين دائما عن
مضمون ما، وربّما تختزل أحيانا محتوى معيناً أو تومئ اليه أو
الى بعض شظاياه
الجارحة. لكنّ عنوان مجموعة دنى غالي "السأم يتلوّن" ("طوى
للنشر"، 2009)، لا يشير
الى ذلك، على الرغم من وجود السأم وتلوّنه وتلوّيه بوفرة.
العنوان هنا يشير الى
الشكل، الى الأسلوب، الى بناء الجملة السرديّة، الى بناء
الصورة، الى سبل تلوين
العلاقة الخاصّة التي تربط الكلمة بالشعور وحركة العواطف. بل
يشير العنوان الى
جماليّة ارتباط المبتدأ بالخبر في جملة نصفها اسم ونصفها فعل،
نصفها فاعل مموّه
ونصفها الآخر فعل محتال، متقلب المزاج. ذلك اشتغال فنيّ لا
تخطئه العين الخبيرة،
تحققه دنى غالي بمعزل عن الأخريات، وبمعزل عنّا نحن الآخرين،
الذكور، أيضا. تحققه
وهي تراقب البيت القصصيّ بشغف ودراية، وتسعى الى إزاحتنا من
طريق كلماتها، ويكون
لها ما تريد. أراجيح جملها تتطوّح في هواء النص بين الشعر
والنثر. ذلك هو تفردها.
بين عام 1998 وسنة 2009 أصدرت روايتين ومجموعة شعريّة
بالعربيّة والدانماركيّة
ومجموعتين قصصيتين وترجمات قصصيّة.
رحلاتها القصصيّة قصيرة، حبكاتها مستقيمة
دائما، وسواء أكانت رحلة الى عتبة البيت الدانماركيّ أم الى
جسر العشار في البصرة،
فإنها تنسى، حالما تفتح الباب، ملامحَ العالم الخارجيّ، فيفقد
الأشخاص صورهم
الخارجية، وتخفي الأشياء والأماكن والأبواب والبيوت والأشخاص،
وتظل الكلمات تتبادل
الحوار مع نفسها وحيدة، مثل نحلة مستثارة. حتى الصديق والطفل
والزوج والحبيب الذي
يظهر أحيانا فجأة، يتمّ تجريده من مرجعياته الحسيّة، وفي أحيان
كثيرة لا نعرف طفل
من هذا الذي يتقافز بين أرجل الخصمين اللدودين: آدم وحواء.
لكنّ الأشياء المتوارية
تتحول ولا تزول. حالما تخرج من شرنقة الكلمة، تصبح أمواجا من
التساؤلات؛ تساؤل
يتبعه تساؤل. بهذه العنكبوتيّة الملحاحة، الضبابية، الكظيمة،
تنسج دنى غالي عالمها.
وربّما يكون هذا البناء الخيطيّ هو البناء اللائق بفكرة القصص
المحورية: التصدع،
وما يلازمه من بحث محموم عمّن يعيد الذات الى مركز الاهتمام.
لكنّ هذا البحث يبدو
في أحوال كثيرة محض عبث، أو دفاعا يائسا عن شيء أثير تحطّمت
قواعده المألوفة منذ
زمن طويل. لا أعني هنا قواعد المنطق الشخصيّ وحدها، وقواعد
المنطق الايديولوجيّ
وحدها، فالتصدع شامل وأكيد، الى الحدّ الذي جعل البعض يغدو
مغرما بانكساراته، ويسير
حثيثا في اتجاه الفراغ. متى حدث هذا؟ ربّما بعدما أضحى البيت
شيئا محذوفا، قابعا في
الفراغ الرهيب، في البقعة القاتلة، في الجزء الغامض بين المنفى
والبصرة. حينما تفتح
دنى غالي باب بيتها، تتزاحم ملايين الأشياء في رأسها وتحول
دون انتباهها لما
حولها، فتبدأ رحلة الأسئلة العنكبوتيّة، رحلة البحث عن مركز
للعناية. للعناية مركزٌ
فقده الجميع. ليس الكاتبة وحدها، بل فقده العراقيون جميعهم
حينما استبيحت ذواتهم
مجّانا، حينما أعادتهم آخر إنجازات علم الصواريخ الى هراوات
العصر الحجريّ، حينما
فقدوا يقينهم وبيوتهم وأعمارهم وأسماءهم. ماذا تفعل الغيمة
حينما تفقد سماءها؟ فقدٌ
يتناسل. فقدٌ يفقّس فقداً. من أين يأتي هذا العناد الغريب في
البحث عن مركز
للاهتمام في ظل هذا الفراغ الفقديّ، والعزلة القدريّة الباردة؟
هو يأتي لدى دنى
غالي من تصعيد حاسّة الأنثى، الأنثى الأم، الحبيبة، الزوجة،
الإنسانة، والكاتبة،
ومن تسخين مياه الأعماق المرأويّة الحبيسة. ترى هل المرأة هي
الطين الذي ولدنا منه
نحن البشر؟ وهل الرجل لا أكثر من مخصّب سلبيّ في لعبة الخلق،
الفنيّ
والقدريّ؟
في أقصر القصص "ظلمة"، تشتـّد حاسة السمع، وتشتـّد الرغبة في
الإنصات.
أنثى ترتمي على الأرض، تضع أذنها على الحجر الأصمّ وتأخذ في
الإصغاء. تصغي الى
الرجل، ربّما هي تصغي الى نفسها. تنصت الى هجوم الحواس من عالم
الظلمات، وربّما هو
العالم الموجود في الغرفة المجاورة، أو في طرف السرير الآخر.
في ذروة الإصغاء، وهو
فعل محض حسّي، تنفجر هي بالبكاء، حينما يخترق الجدران لهاثه
وتُخترق الأنثى
الموجودة في داخلها وفي أحاسيسها.
العالم لديها نسويّ خالص، وعار من الشيئيّة
بشكل خالص. أنسويّ وعار هو التصدع؟ أعجب كيف تكون الكاتبة
بَصْرِيّة (من مدينة
البصرة) وهي على هذا القدر الغريب من العداء لمرجعيات الخارج.
البَصْرِيّون قادوا
مدرسة عراقيّة متميزة عربيّا في فن تسجيل. الأشياء وتكويناتها
الدقيقة ومراقبتها.
دنى غالي تنتقم من معلّميها، من حرفة مراقبة الكائنات
المجهريّة، الحرفة البصريّة
بامتياز. إنّ فسيفساء النصّ، لكي تكون بصريّة أصيلة، تحتاج الى
ألفة الشناشيل، والى
رائحة الشطّ، وطلع النخيل، والى نسمة ماكرة مخبّأة على جسر.
هنا، في العزلة، لا توجد سوى
الأسئلة. المهمّة الوحيدة للعنكبوت هنا هي أن تبني منمنمة
بَصْرِيّة أيضا، ولكن
بالأسئلة.
ناتالي ساروت! لماذا تذكرتها؟ لا توجد علاقة مضمرة أو جليّة
بين
الإثنتين. ربّما قصر بعض النصوص! لكنّ نصوص دنى غالي ليست بهذا
القصر؛ ربما حركة
المشاعر؟ ولكنها ليست بتلك الحياديّة الوصفيّة، التي امتلكتها
ساروت. كاترين
مانسفيلد إذاً؟ ربما! لا، كاترين أكثر حكائيّة وسرديّة، وأكثر
تشخيصيّة. محمد خصير؟
لا، أكثر رجولة، وأكثر ميلا الى التشييء، وأكثر بصراويّة.
البصرة لا تكتب إلا
مخلوطة بالبهارات. أين البهارات في كوبنهاغن؟
دنى غالي تكتب أدبا أنثويّا أصيلا.
إمرأة تناضل بكلّ قوّة من أجل أن تحافظ على تمايزها كأنثى،
تصعّد أنوثتها بشكل
مميّز، جارح وصارخ، الى الحدّ الذي تتغلب فيه على مشكلة الفصل
بين الجنسين. ترتقي
بمقدرتها في التعبير عن مشاعرها الأنثويّة الى مستوى الرجل في
التعبير عن رجولته،
حينما يكون أقل جبنا ممّا هو معتاد، وأقل نفاقا ممّا هو سائد.
في قصة
"تصدّعات"،
تزاوج الكاتبة بين أغنية الأطفال، عن اللعبة البلاستيكيّة
"باربي"
الجميلة، ولعبة الحياة البلاستيكيّة، التي يلعبها آدم مع حواء
في المنفى. باربي
الإنسانة تغنّي وسط غابة من المشاعر الملتبسة، المحاصرة،
المقلقة. أغنية باربي أكثر
صور المجموعة تجسيما وتعميما لمشكلة القاصّة المحوريّة:
التصدّع.
حينما يكون
التصدّع ثلاثيّ البعد الى هذا الحدّ، من أين يأتي السأم إذاً؟
أهو حجّة للمشاغبة؟
أم هو مجرد لعب فنيّ؟ كلا الأمرين يشير الى أمر واحد: بواسطة
دنى غالي يستعيد
العراقيّون انوثتهم الصافية، المخجلة، بعدما فقدوا رجولتهم
الفخريّة،
المستباحة.
لا يملك العراق إرثا غنيّا في مجال النثر النسويّ. بيد أنّ
العقود
الأربعة الأخيرة أنجبت عددا من القاصّات والروائيّات، اللواتي
أخذن يتقدمن بخطى
حثيثة الى واجهة المشهد النثريّ العراقيّ، ثمّ شرعن بالتسلل
الى البيت النثريّ
العربيّ. القصّة الحديثة تحتاج الى جرأة وقلّة أدب. بعض النسوة
كنّ أكثر جرأة منّا،
أكثر جرأة لناحية الصدق في التعبير، لا في اختلاق المواقف
والمشاهد. دنى غالي
أكثرهن رهافة: دقّة معماريّة، اختزال، ومهارة في هندسة فوضى
المشاعر الحبيسة
والانهيارات الكبرى، المكتومة.
لطفيّة الدليمي كنز من المشاعر الجيّاشة في وطن
ضبع. عالية ممدوح ماهرة حينما تبالغ في إثبات فحولتها الفنيّة،
هديّة حسين تركض
مسرعة، تريد اللحاق بعبد الستار ناصر (زوجها)، الذي لم يتمكن
هو نفسه من اللحاق
بخطواته العجلى وانعطافاته العاطفيّة الماكرة. ميسلون هادي
تخشى، وربّما لا تريد،
أن تمشي على أرض مسننة. إنعام كجه جي حررت نفسها من أصفاد
الجريدة اليوميّة وعلّقت
بهاءها الباذخ، في عنق الرواية الرجوليّ. هيفاء زنكنة شجاعة
الضمير والقلب، تهاجم
السياسة وتهاجمها السياسة، تتبادلان الانتصارات والخسائر، مثل
ضرّتين شرستين. سميرة
المانع تغار من غيرة هديّة حسين على عبد الستارها، فتتباطأ في
سيرها، وهي تمشي الى
جوار قامة صلاح نيازي (زوجها)، القامة التي أحنتها السنون
والعقوق الوطنيّ والكلمات
الثريّة الضائعة بين أقدام السوقة. أمّا دنى طالب، التي سمّت
نفسها دنى غالي، فقد
سرقت من أبيها اسم أبيه، فاكتشفت حينئذ أنّها تجيد سرقة
الأسرار
العائليّة.
جملها مناكدة، متوتّرة، ممتلئة، مركّزة، وحذرة. لذلك تبدو مثل
سارقة؛
هي لصّة جيب، أكثر منها لصّة مصارف وخزائن.
هذا الوصف لا ينحصر في أسلوبها فحسب،
بل يتعدّاه الى مضامينها وموضوعاتها أيضا. خطوات السرد في
قصصها قصيرة، بيئة السرد
محدودة، يخالها المرء طفلة خائفة، تخشى أن تذهب بعيدا فتضيع
أقدامها في الغابة.
الذئب ينتظرها دائما خلف شجيرات الغابة القريبة من سور البيت.
لكنّها تستأسد في
غرفتها، في منغلق بيتها، وبين أسوار ذاتها؛ تتنمّر أحيانا،
وتقاتل نفسها حينما لا
تجد أحدا تقاتله أو تخدش وجهه بأظفارها المليون.
دنى غالي ترعى الأزهار، لأنها
تخصصّت في ذلك دراسيّا، بيد أنّها لا تزرع الورود في حديقة
نصّها، وإنّما تترك
عبقها عليه، العبق الذي تسرقه خلسة من ورودها النائمة في
أحلامها. في فصولها نشمّ رائحة
الخريف ولا نراه. لذلك لا يندهش المرء لو بلّلت ثيابه بضع
قطرات من الندى تساقطت من
كلماتها. الحيطة واجبة. أحيانا تسقط قطرات فائرة من الدم أيضا.
على الغلاف
الأخير للمجموعة كتب القاص العراقيّ محمد خضير كلمات جميلة عن
النصوص. قرأت كلماته
بعد الفراغ من قراءة المجموعة، فوجدت أنّنا نتطابق تطابقا
مطلقا في اختلاف وجهات
نظرنا. هو يراها تنظر بشجن الى البصرة من منفاها الدانماركي
البعيد، وأنا رأيت
العكس، رأيتها تنظر الى المنفى المزمن من بصراها، التي لم
تفارقها قطّ. لا أعرف
أيّنا الأصدق تعبيرا. ربّما هي تجمع تناقضاتنا العقليّة
والفنيّة والجغرافيّة في
فضائها المتشظّي بين البصرة وكوبنهاغن، بين البيت القديم
والمنفى، بين الحلم البريء
المضاع والحرقة التي تشبه اليأس، الحرقة الممسكة بخناق الروح،
بدقائق العمر، بأتربة
الطريق الموصلة الى فنار وطن بعيد، بعيد، بعيد الوميض.
ستغدو كلماتها مثل جنيّات
الغابة الساحرات لو أنّها سرقت هوية عائلتها الحزبيّة،
ومزقتها، ثمّ ألقت بها في
بحيرة احتباسات أحاسيسها. ربّما، ربّما أعانها ذلك على الذهاب
الى الغابة وحيدة.
أجزم أنّها ستذهب الى الغابة خفيفة، حرّة، على الرغم من عواء
الذئب. ففي الغابة
المقتحَمة، لا المهداة، تنجب العذراوات آباء وأمهات لهم جباه
من فضة وأسنان من ذهب.
لكنّ الرهانات الكبيرة لا تتحقق إلا بالتجربة.
سلام عبود
|