نزار رهك مظفر النواب وخفايا ديوان الريل وحمد

 

مظفر النواب وخفايا ديوان الريل وحمد

 

نزار رهك

العراق هو تاريخ من الشعر والثورات , بلد صنع الآلهة والدين قبل أن تخرج الديانات السماوية على الأرض , بلد الخمرة الأولى والفن والقانون والحضارة , بلد الشعر والشعراء دون منافس على كوكب الأرض الذي نعيش فيه . فالعراقي تحركه القصيدة وتدفعه أحيانا الى الفناء إيمانا منه بروحها وفاعليتها وكان جميع الملوك والرؤساء حتى يومنا هذا لا يستطيعون إدامة حكمهم دون مرافقة للشعر والشعراء .. ومن كان عصره يشار له بالذهبي فلأنه كان يرافقه عصرا ذهبيا من الشعر والشعراء أكثر من أي شيء آخر

الحب معجونا بالشعر والحرب مطحونة بالشعر و الآلهة مصحوبة بالشعر وحتى المآتم والأفراح لا تخلو من الشعر .. وكان الشعر لغة الثورات ولغة الأحرار ولغة المنافقين في الوقت نفسه .. وللشعر في العراق روايات وحكايات وعجائب  وكأنه كان لغة الناس أجمعين حتى قبل أن تدوّن المعلقات كنصوص أولى مكتوبة للشعر وكان الناس يعرفون من الأبيات الأولى لمن تعود هذه القصيدة أو تلك .

ولم تخلو السجون في العصور الحديثة من فطاحل الشعراء وأقترن العديد منهم بالثورات الوطنية وكانت قصائدهم تهز الساحات الجماهيرية وفي جانب آخر كان هناك سّراق ماهرين للشعر وأصبحوا شعراء بشعر غيرهم .. وكان هناك شعراء يجلسون على الطرقات يبيعون قصائدهم لقاء مبالغ زهيدة أو قنينة خمر وهناك شعراء فطاحل مجهولين أضاعوا مؤلفاتهم في النفايات وآخرين أتلف الورثة جميع أوراقهم .

لقد كان جدي الفلاح الجنوبي المساهم في ثورة العشرين و الذي أمضى حياته في الكفاح من أجل إيصال والدي الى المدرسة بعد إن أمضى سنوات لدى الكتاتيب (كما كانو يسمون الحلقة المدرسية الصغيرة لدى أحد الشيوخ المتعلمين حيث كان يحفظهم القرآن )  ومن ثم المتوسطة والأعدادية في بغداد حتى أصبح محللا كيمياويا في مصافي النفط منذ العهد الملكي , شاعرا بالفطرة .

لقد كان يقرأ الكصيد البدوي وكانت حياة الفلاحين أقرب الى حياة البداوة بل كانت القرى إمتدادا لحياة البادية أو مرحلتها الأكثر تطورا حينذاك.. وقد فرض على والدي أن يدون لجدي يوميا واحدة أو إثنان من قصائده وقد إشترى جدي لهذا الغرض دفترا ضخما كان يباع لأجل القيود المحاسبية آنذاك وكما يذكر والدي إن هذا الدفتر الضخم كان قد إمتلأ من القصائد الجميلة والصعبة أحيانا بعد أشهر من التدوين .

ولكن والدي الذي كان شابا مراهقا في الأعدادية وكان حينذاك قد شاعت شهرة ملا عبود الكرخي و في المدرسة كان قد جلب معه في إحدى المرات الى معلمه في اللغة العربية دفتر المحاسبة التي تحوي قصائد جدي التي كان يلقيها في تجمعات العشائر وجلسات الدواوين وفي إضفاء الحماسة للثوار الذين كان يرافقهم في المعارك ..  وبعد إن قرأها المعلم تحدث على إنفراد مع والدي ليقنعه بأن يبادله قصائد جدي بالدواوين الكاملة لملا عبود الكرخي وافق والدي على الفور ودون حسابات أخرى وكأنه هو الرابح في هذه المقايضة وضاعت جهود الشاعر جدي بسبب نزوة إبنه المراهق و معلم محتال قد يكون قد أصبح شاعرا بهذه القصائد ولم تفلح جهود والدي بعد سنوات من البحث عن المعلم الذي إستلب منه مئات القصائد ولم يجد له أثرا  وكان نادما على فقدانها لسنوات عديدة لاحقة .

ومعروف لدى الشعراء بأن سارق الشعر لن يستطع أن يكون شاعرا على الدوام أو سيكون متقلبا في اللغة والأسلوب والصورة الشعرية بحسب ما يستطيع من النقل والسرقة والأقتباسات.. فشعراء كالمتنبي والفرزدق وعنترة وغيرهم تجدهم من أولى قصائدهم وحتى آخرها بنفس القوة التعبيرية والأسلوب والتميز وأحيانا تجدها تزداد قوة وحنكة ولكن القاريءأو السامع يستطيع تمييز الشاعر عن غيره .

وفي العصر الحديث  نستطيع نحن القراء دون كثير عناء أن نميّز شعر الجواهري عن غيره وشعر وقصائد البياتي عن السياب أو سعدي يوسف عن نازك الملائكة .. ونستطيع أيضا أن نميز قصائد السيّاب الأولى عن أواخرها وكذلك بقية الشعراء .لأن الشاعر هو الأنسان نفسه بلحم ودم ومشاعر وثقافة وروح متدفقة بالحب والكراهية والغضب قد ينكسر مرّة أو مرات ولكنه حين ينهض ثانية فأننا نجده هو بذاته الشاعر والأنسان بمفردته وأسلوبه وشاعريته .

وقد بقي كريم العراقي رغم الأغتراب بمفردته وشعره وغناءه ..ونتحسس نحن المستمعون الى أغانيه ونعرف إنه هو كريم العراقي .. ولا أحد يخالفني الرأي بصدد الشاعر أحمد مطر والروائي المرحوم غائب طعمة فرمان والموسيقي كوكب حمزة ..وهذا الأخير عندما أنتج عمله السمفوني تراتيل بابلية وكأنه يقدم لنا كامل إرشيفه الموسيقي الجميل مضافا اليه جماليات الموسيقى العالمية .

لكن ما لا نعرفه ولا نجد له التفسير هو ديوان الريل وحمد المنسوب الى الشاعر مظفر النواب الشاعرالذي لا يمت بصلة الى الجنوب ولهجته والحسكة والمفردة المتميزة  بل هو من مدينة الكاظمية من منطقة النواب.

و ديوان الريل وحمد هو عبارة عن لوحات فنيّة هائلة في الدقة التعبيرية ولغة هائلة في العمق والتجذر المكاني والزماني حيث تنطق كل كلمة فيه لتشكل عالما من الجمال والثورة  .

كان شاعر الريل وحمد ممزوجا بتراب الجنوب ومياهه والقصب والنخيل ولغة العامة الشديدة الحبكة , الصعبة على أبناءها وشعرائهم .. شاعر الريل وحمد هو كنز من المفردات الحياتية لشاعر لم يكن عابر سبيل أو أديبا مستطرقا قادما من المدينة  وكيف يمكن لشاعر أن يكتب مثل هذه القصائد وبهذا المستوى الهائل بالعظمة ولم يكتب طيلة أربعين عاما قصيدة واحدة مقابلة ومتساوية وبثقل مقطع صغير من قصائد الريل وحمد .. وكيف يمكن أن يقنعنا مظفر النواب بأن قصائده القديمة كانت نتاج ظرف آخر ولا يمكن إنتاج قصائد تقابل مستواها مهما تغيرت الظروف والأوضاع والمشاعر .. وهل الأربعين سنة التي مرّت على الشعب العراقي لم تحرك الشاعر بقصيدة على وزن سعود وحن وآنة أحن ..وهل قصيدة القدس عروس عروبتكم أو ميو أو حتى العاميّة منها كجرس عطلة هي النتاج الطبيعي للتطور الشعري لشاعر الريل وحمد وسعود وزرازير البراري وحسن الشموس . وماهو وجه التقابل إن لم نعر أهمية لقوة القصيدة والصور الشعرية .. النصوص القديمة مدرسة وتجربة شعرية لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بنتاجات الشاعر مظفر النواب اللاحقة في الأربعين سنة الماضية وله كشاعر أمنياتي بالصحة والعافية وطول العمر .. ولكن الحقيقة يجب أن تطرح بكامل الجديّة وبعيدا عن السياسة والمواقف السياسية ولا بالعولمة الجديدة التي تريد نفي الثقافة والتاريخ والموروث الثقافي والأنساني للشعوب الغير أوربية وبعيدا عن توجهات الليبراليون الجدد عملاء الاستعمار الجديد ومطية الأحتلال وتوجهاتهم السوسيوثقافية التي تبغي تجريد ثقافتنا الوطنية من مضامينها الحضارية والأستهانة بالأرث الثقافي العراقي .. الحقيقة التي نريد التوصل اليها هي لتمجيد شعرائنا ورموزنا الوطنية والثقافية ومنهم وفي طليعتهم الشاعر العظيم مظفر النواب الصاحب الشرعي والمعلن لقصائد ديوان الريل وحمد .

ويبقى السؤال محيرا من هو الشاعر العبقري المجهول الذي كتب قصائد ديوان الريل وحمد ؟

ليس سوى الشاعر مظفر النواب من يستطيع الأجابة على هذا السؤال وحل هذا اللغز الأدبي المحيّر .  

 

29.04.2010

 

 

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

 

مقالات الكاتب

نزار رهك

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 

 

 

 

لا

 

للأحتلال