الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | طلبة وشباب | المرأة | الأطفال | إتصل بنا |
---|
|
صوت اليسار العراقي صحيفة تصدرها نخبة من المثقفين والكتاب اليساريين العراقيين |
|
---|
دلالات فوز الفيلم الألماني الشريط الأبيض بالسعفة الذهبية
العيون لا تزال مبهورة
بالأسود والأبيض
عصام الياسري
في الجولة الخامسة لمهرجان كان الدولي 2009 فاز الفيلم الألماني"الشريط الأبيض"Das weisse Band للمخرج ميشائيل هانَكه Michael Haneke بالسعفة الذهبية. وبعد أن رشح مؤخراً للاوسكار 2010، اشتد تزاحم دور العرض سيما في ألمانيا والنمسا للحصول عليه. في برلين كالمدن الأخرى، أقبل الزوار بكثافة على صالات السينما لمشاهدته وكتب النقاد حكايات عن الجائزة ومستقبلها كالقول، كان من المتوقع انتقال السعفة الذهبية إلى فيينا في النمسا لأن المخرج نمساوي الأصل، إلا أن اختيار النمساوي كريستوف فالس Christoph Waltz المقيم منذ سنوات طويلة في برلين للقب أفضل ممثل في الفيلم وحيازته علي جائزة أحسن ممثل، ما يعني أن السعفة الذهبية ربما ستذهب إلي ألمانيا.. "الشريط الأبيض" دراما 144 دقيقة، أصر المخرج ميشائيل هانَكه الذهاب بعيداً للبحث عن الأسباب الجذرية للإرهاب والعنف على أرض الواقع. وتقع أحداث الفيلم في قرية في شمال ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولي ويصور البنية الاستبدادية وآثارها الشريرة في القرية عشية الحرب. توليفة التصوير "أسود ـ أبيض" ساعد على إعطاءه أهمية فنية وتاريخية وجمالية متميّزة، شبيه بأعمال انجمار برجمان "الفراولة البرية" "الختم السابع" "شخص". إلى جانب الآخرين، لعب في بطولة الفيلم الممثل الألماني أولريش توكور Ulrich Tukur سوزانا لوتار Susanne Lothar، بوركرت كلاوزنر Burghart Klausner وجوزيف بيربشللر Bierbichler Josef . وهو أول فيلم ألماني يحصل على السعفة الذهبية بعد 25 عاما من آخر فيلم ألماني حاز عليها في عام 1984 باريس ـ تكساس، للمخرج فيم فيندرس Wim Wenders. وتمنح السعفة الذهبية سنويا في مهرجان "كان" السينمائي لأفضل فيلم مشارك في فئة الأفلام الروائية المتنافسة خلال "المناظرة" وتعتبر أهم جائزة في المهرجان.
"الشريط الأبيض" الذي حاز بجدارة على جائزة "السعفة الذهبية" فيلماً يعطينا
نظرة ثاقبة في حياة قرية قبل الحرب العالمية الأولي، قام المخرج بتحليلها بدقة
ومصداقية. علاقات اجتماعية تسودها التسلطية البروتستانتية، على جانب واحد من
القيم المسيحية، وأساليب التربية والتعليم الصارم الذي تؤسس له الكنيسة، عدم
وجود علاقة عاطفية بين الآباء والأبناء. تغيير العادات البالية يبدو مستعصياً
ومتفشي في هياكل مجتمع مريض.. الآداب والأخلاق تم تحويلها إلى شعارات فارغة،
والحث على كسر وتغيير المفاهيم البالية لا وسيلة لبلوغه.
الرواية كما يتضح من البناء السردي، تؤكد على أن الراوي لا يعرف ما إذا كان كل
ما يجري في القرية في السنوات التي سبقت اغتيال الدوق النمساوي في سراييفو قد
حدث فعلا. لكنه يشير في نفس الوقت إلى أهمية المسعى الموضوعي لاستحضار التفاصيل
التاريخية، والعناية بأدق الظروف التي قادت إلى الإسراف الإنسي في وحشة الحياة
اليومية التي يسودها آنذاك "الصراع الطبقي والاجتماعي" باعتباره أرضا خصبة
لظاهرة العدوان واللامبالاة العاطفية، الغيرة، والقهر والألم النفسي الذي يجر
إلى النفاق وينمي الطاعة الصامتة والانزلاق نحو أعمال العنف والاعتداء،
وبالنهاية إلى الإرهاب النفسي والجسدي الذي طرأ على القرية في ظل ترويج
الإشاعات والأقاويل.
في بداية صيف عام 1913 في قرية بروتستانتية في شمال ألمانيا يتعرض الطبيب
(راينر بوك) إلى حادث غامض وهو يمتطي الحصان يؤدي بحياته، ضمن سلسلة كاملة من
الأحداث الغامضة. قابلة القرية (سوزانا لوتار) لاحظت وجود سلك تسبب في سقوط
الحصان، ويبدو أن النداءات التي وجهها القس (بوركارت كلاوسنر) لم تجدِ نفعاً
لأن يتقدم مرتكبي الجريمة للإعلان عن هويتهم، كما أنها لم تؤدِ إلى أثر أو
نتيجة. بعد ذلك بوقت قصير تعرض (جون رابه) لحادث سيارة أدي بحياته هو الآخر،
كما فقدت إحدى الفلاحات حياتها أثناء العمل في منشرة للبارون (أولريش توكور)
عائلة الضحية لا تجد مفراً من تحميل "الأرستقراطي" مسؤولية ذلك، فتنتشر
الاتهامات وتنعدم الثقة بين أوساط المجتمع في القرية. المعلم الشاب (كريستوف
فريدل) ناشد الأطفال إلى موقف غير ذلك، خاصة أبناء القس الذي كان صارماً، فرض
على ولديه حمل شريط أبيض على الصدر كرمز للطهارة من الذنوب.. إذن هكذا تبدأ
رحلة الفيلم في اتجاه عوالم، يبدو فيها الفعل منحرفاً وساذجا، يخلو من القيّم
والاعتبارات ولا يضع معايير أخلاقية للتعامل مع الطفولة بما ينبغي على الكبار
عمله. مزيج غير متوازن، حياة الفلاحين والعمال المزرية، الهوة الاجتماعية بين
أطفال الأغنياء والفقراء، تغطية الأب لانحرافه التربوي، استعراض المعلم حبه نحو
أطفال مدرسة القرية، القمع والتوتر، تعرض الأطفال للضرب المبرح واختفاء بعضهم،
التعمد للانتقام واللائمة.
في منزل القس البروتستانتي تسود روح ألا رحمة وتفرض تعاليم الكتاب "المقدس"
عنوة، ما يهم هو إلا الطاعة والانضباط دون أدنى اعتراض، الأسلوب التعليمي الذي
يروم لتنمية الثقة وبلوغ اثنين من الأطفال البراءة والنقاء محرم، ولا يجوز
مقاومة الجانب السلبي لهذا السلوك المتعصب الذي يؤرق لعوامل نفسية تثير الشفقة،
"التمرد" على التقاليد المتخلفة في وقت مبكر لتنمية الشخصية منذ الطفولة غير
ممكن. والنتيجة هي الثابت، الكراهية السحيقة التي جعلت الأب يمر فوقه التجاوزات
الجنائية لكسب ثقة راعي الكنيسة.
القصة كما ورد في"النص الروائي" في سياق البعد التاريخي، بالتأكيد لا تهدف إلى
مؤامرة إجرامية، حتى لو كان الفيلم يستمد الكثير من التوتر من السؤال المزعج
حول أسباب أحداث العنف. في حين أنه من وجه نظر "تيودور فونتانه" مع السائل
تكتمل ملحمة "الدراما" لكنها أي القصة تلخيصاً "وثائقياً" يوجز أو يعالج هيكل
الاستبداد منذ نشأة السلطة، هنا هو الوضوح والكثافة البلورية الذي ارتكز عليها
الفيلم بطريقة حسية قريبة إلى المثالية.. بصريا يعتبر فيلم "الشريط الأبيض"
مثيراً وأنه أحد الأفلام التاريخية التي تتميز بأشياء كثيرة على المستوي
الروائي والفني. كل مشهد مدروس جيدا والصور ثابتة ومحسوبة تماما. يؤشر على أنه
عمل آسر وذو لغة إبداعية عالية، تجمع بين الوضوح والتجارب، الحيل والحيل
الأسلوبية المتلاعبة لا نظير لها.. مع "الشريط الأبيض" جهد المخرج بعد اثني عشر
عاما من العمل في السينما الألمانية إلى اختراق لغة النار عن بعد. وخلق لغة
إنسانية في غاية من التناغم، وعلى مدار العمل، حدد هويته الخاصة وربما أكثر
للوصول إلى النشوة الأخيرة "Euphorie".
ولكن بطبيعة الحال، أغفل النمساوي المستفِز لتلك الأحداث في هذا العصر، ليس عدم
إيجاد نهاية تقليدية مفتوحة للفعل، إنما نفى أي تفسير واضح يعرج نحو سياق
الأحداث، وبالتالي ألقى مسؤولية التفسير وربما الموقف أيضا، على عاتق المشاهد.
عصام الياسري
برلين في 18 أكتوبر 2009