<%@ Language=JavaScript %> كتابات حرّة

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

صدمة الزمن المقلوب

 

حمزة الحسن

 

ليست رسالة أو وصية علي حسن المجيد الأخيرة رسالة عادية ولو كان الامر كذلك لما تعاملنا معها ولكنها وثيقة على درجة كبيرة من الاهمية تحتاج الى قراءة وتأمل من منظور مختلف عن طريقتنا في التعاطي الصاخب في قضايا عاصفة صنعت وتصنع مصيرنا اليوم وبعد اليوم. كون الرسالة سجلت على اداة تسجيل قبل ساعات من تنفيذ حكم الاعدام يجعل التعاطي معها بعيدا قدر الامكان عن  الوصم والآراء المسبقة والادانة لأن هذه الطريقة في تحليل الخطابات لا تقود الى نتيجة ايجابية مثمرة رغم كونها الطريقة الأكثر شيوعاً وسهولةً وتصيداً للأخطاء والجرائم وما أكثرها في تاريخنا السياسي القريب والبعيد، لأننا في هذه الضجة وهتافات السحق والسحق المتبادل نريد أن نفهم كيف جرت وتجري الامور في هذا البلد، وهذه الوصية النموذج تعكس طريقة السياسي العراقي خارج وداخل السلطة في تقييم الاحداث الكبيرة من أضيق الزوايا كدليل على هشاشة الوعي ونوع العقل السياسي السائد حتى اليوم.

 

لم يجد علي حسين المجيد شعبا يخاطبه، كما فعل الرسول بولس حين كتب من سجن روما رسالته الى أهل أفسس:(كلمة يونانية تعني: المرغوبة) وهي رسالة تحث على السلام الداخلي والفرح من( سجين الرب) كما كان يطلق على نفسه، ولا هي رسالة بطرس الى أهل غلاطية( بلدة قديمة في تركيا) ولكنها وصية أب الى ابنه في ساعة عصيبة، ومن غير الممكن الدخول في قراءة نوايا صاحب الوصية ولكن من المعقول جداً تحليل وتفكيك وتشريح منطوق الخطاب والأهم من ذلك ما لم ينطق به أو ما سكت عنه وتركه بين الفراغات والفجوات والألغاز والمناطق المعتمة وهو الجزء المثير والخطير في تلك الوصية.

 

ـ يمكن تتبع هذه الوثيقة كما هي بصياغاتها اللغوية والنحوية وتبدأ بعبارة وردت في كلامه للقاضي حين سأله عن حلبجة قائلا:( جميع الموجودين في هذا القفص ليسوا "مسؤولون" عن ضرب حلبجة بالسلاح الكيمياوي بما فيهم أنا شخصيا ولو يعاد الزمن ويعود الحزب لن أعود الى العمل بقيادة الحزب لأنها ـ القيادة ـ قيادة النكبة) ـ في هذا الاقرار اعتراف صريح بتلك الجريمة ولكن نفي المسؤولية عن جميع من في القفص لا ينفي الواقعة لأن المسؤولية شيء والواقعة شيء آخر. هل كانت قيادة( النكبة) هي المسؤولة؟  لكن من هي قيادة النكبة؟ اليس الأمر غريبا حين نصغي لاعترافات(شيوعيين سابقين)و( قوميين سابقين) و( جنرالات سابقين)وغيرهم حول أحداث ومصائب وكوارث نسمع الكلام نفسه عن مسؤولية قيادة النكبة أيضا كما لو ان قيادات العراق لا تقود بشرا بل خرافا؟

 

ـ يضيف:(أنا لا أصلح في قيادة النكبة... وبعد أن عشت سبع سنوات" في السجن" مع رفاق أعضاء قيادة والله العظيم وبجميع مبادئ قيم الرجولة ومبادئ الحزب العظيم يوجد قسم منهم ليس قليلا لا يصلحون أعضاء قاعدة وليس قيادة... اكتشفت ان الغالبية العظمى منهم  كانوا يكذبون على انفسهم وعلى حزبهم وشعبهم وقائدهم... ليس قليلا منهم الجبناء سواء كانوا أثناء التحقيق أو اثناء المحكمة) ـ تشير عبارة( اكتشفتُ) الى ان صاحب الوصية لم يكن يعرف جيدا أعضاء القيادة يوم كان في السلطة ولكن (الاكتشاف) جاء في السجن الذي وجد نفسه محشورا فيه مع أعضاء قيادة لم يكن يعرفهم جيدا ولم يسمعهم من قبل يتحدثون أو يتعرضون بالنقد الى القيادة(النكبة) بل لم يكن هو في تلك الأيام يحتاج اللقاء بهم الا كما يتطلب البرتوكول السياسي أو الظهور في صور جماعية دعائية أو في لقاءات عابرة، لكنهم هم، على العكس، كانوا يعرفون الكثير عنه غير ان زمن السجن ليس هو زمن السلطة حين وجد الجميع انفسهم خارج السلطة وخارج الأمكنة الطبيعية وخارج الأمل، وهذا الزمن بالنسبة له هو( زمن مقلوب) كما يقول ذلك صراحة وهي عبارة محيرة ولكنها واضحة الدلالة لرجل سلطة وجد ان كل القواعد تغيرت، فجأة، وصارت في صورة مقلوبة كما تقتضي قواعد السجن، وسجناء من هذا النوع انتزعوا من عالمهم الخاص وزجوا في موقف حرج وقاس وغير متوقع ليس من المتوقع أن تكون أفعالهم هي نفسها كما في السابق، بل ان الدكتور سعدون حمادي كما يروي أحد المطلق سراحهم كان يبدو قبل أن يموت كمخلوق من كوكب آخر وغير مدرك، عدا بعض الومضات، لما يدور حوله، وهي بلا شك أعراض الصدمة أو الذهان النفسي الناجم عنها أو تبدل وانقلاب موقع الاشياء والأمكنة والقوانين لأن الانسان لا يستطيع  بسرعة التكيف مع ظروف مزلزلة وينسى، فجأة، قواعده الشخصية خلال عشرات السنوات، رغم ان هذا، في التجربة العامة، ليس صعبا على سجناء سياسيين يؤمنون بقضيتهم. لكن لماذا لا نعترف بالحقائق الا في "زمن مقلوب"؟هل الصحو العقلي والنفسي والروحي لا ينفتح في الوعي السياسي العراقي الا بالقرب من حائط موت أو مشنقة؟ اليس الصمت والتدليس هو المنتج الأول للأزمنة المقلوبة؟

 

ـ لكن كيف عرف المجيد ان بعضهم كان يكذب على نفسه وحزبه وشعبه وقائده؟ وماذا كان سيفعل لو انه عرف ذلك قبل اليوم؟ إنها ليالي السجن والأحاديث الطويلة مع سجناء قيادة يلتقي بهم، لأول مرة، في مكان ضيق ومفروض ومصيري، أولا، وثانيا، لم يعد هو يتحاشاهم كما في السابق حين كانت الخيارات مفتوحة، ولم يعودوا هم، ثالثا، يتحاشونه كما في السابق لظروف السجن: اذن هي "صدمة الاكتشاف" داخل السجن ولم يكن يعرف، الا بعد فوات الأوان، ان السجن الحقيقي هو يوم كان في السلطة لأن السجن المادي الأخير حرره من وعي سرابي خادع ومن نشوة عابرة في كونه يعيش ويمارس سلطته بانسجام مع قيادة اكتشف ان قسما من أفرادها ليس قليلا (لا يصلحون أعضاء قاعدة). اذن، لأي شيء يصلحون؟ ولأي شيء يصلح هو كذلك؟

 

ـ :( ليس قليلا منهم الجبناء في التحقيق وفي المحكمة) بل ذهب ابعد من ذلك الى القول ان بعضهم كان يستجدي تزكيات من مراجع دين وشيوخ عشائر ومسؤولي صحوات تشهد لهم بحسن السلوك. أما هو فكان الوحيد كما يقول:( بينما يقف والدكم ورفيقكم يتحدث مزهوا... لا ينسى تاريخه الحافل بالنقاوة والاخلاص) ـ لا نريد الدخول في تفاصيل معنى الشجاعة في هذا الموضع وكيف تفسر ولا معنى( النقاوة والاخلاص) أيضا وهو خطاب سياسي عراقي شائع ومألوف سواء من داخل السجون أو من خارجها، وليس هذا التحاشي من باب التجنب بل لأن الصورة واضحة تماما رغم ان الوضوح المشع يزيد من الغموض، لكن ما يلفت النظر في الخطاب ان كاتب الوصية وهو يمارس( النقد والنقد الذاتي) كما يقول بوضوح لم يترك أحدا خلفه بلا ادانة بما في ذلك( قيادة النكبة) المسؤولة عن كل شيء، وبالطبع قيادة النكبة ليست هؤلاء، واذا لم يكونوا هم فمن هم؟ لا يترك لنا هذا النص ـ الخطاب غير القول ان المجيد أراد أن يقدم نفسه كضحية، وهو أيضا تقليد عراقي سياسي معروف ومتداول حتى اليوم، لقيادة نكبة ولرفاق ظهر انهم في السجن على صورة مختلفة، كما ظهرنا نحن أيضا، بعد الاحتلال، بصورة مختلفة.

 

اذا كان الذين في السلطة لا يعرفون بعضهم الا في السجن، والذين خارج السلطة لا يعرفون شعبهم وصدموا بكل شيء، بالانتقام والسرقة والجريمة والتمايزات والأعراق والطوائف والأحقاد والنزعات وغيرها، فهل كنا جميعا، حالنا حال المجيد، نعيش في مملكة أشباح؟

 

هذا هو أحد ابعاد هذا الخطاب ـ الوصية الذي أراد له صاحبه أن يكون آخر رشقة كيمياوي تلقى على "الرفاق" قبل الصعود الى المشنقة، وهو لا يختلف لا في الصياغة ولا في البنية ولا في العقلية عن اعترافات سياسيين وحزبين سابقين في أحزاب يسارية وقومية ووطنية أخرى وهم يقدمون خطاب الندامة والألم والنقد لتجاربهم بعد الفشل أو بعد "النكبة" حيث يتحول الجميع الى خونة وجبناء وكذابين وشياطين ويخرجون هم ملائكة وتلقى الكوارث، في كل مرحلة، على أشباح.

 

صاحب الوصية عاش تحت ثلاث ذمم: الأولى: كان في ذمة الدكتاتور وحده لذلك دُهش من أعضاء القيادة وهو يتعرف عليهم في السجن كما لو انه لم يشاركهم في السلطة عشرات السنوات، والثانية: في ذمة قوات الاحتلال كسجين، والثالثة والأخيرة: في ذمة الله. في الذمة الأولى كان سجين وعي. في الذمة الثانية كان سجين جدران وصدمة. الذمة الثالثة والأخيرة يتوقع كما في الوصية( الحمد لله الذي أنعم عليّ بنعمته) أن يفوز بالجنة، ولكن يبدو ان الرجل، في ساعة صعبة، وفي(زمن مقلوب) تصور ان الباري عز وجل( وليس الشعب) لديه نسخة حقيقية عن تاريخ تلك الفترة وعن قيادة النكبة مكتوبة من ملائكة أطهارلم يكونوا يوما أعضاء في الحزب الحاكم.

 

أما سؤال الأمس واليوم وربما الغد القريب عن من صنع كل هذا الخراب؟ فلا جواب غير سلطة الأشباح. اذا كانت غالبية أعضاء القيادة في السجن، حسب الوصية، جبناء وكذابين، فمن كان يحكم الجميع وينتج السياسة والثقافة ويربي الاجيال؟ اذا كان جميع اللصوص على مائدة العشاء، فمن كان يسرق؟ يقال إن الرئيس الطالباني وهو على مائدة العشاء مع جميع أعضاء السلطة والحكومة تلقى مكالمة هاتفية من منزله تقول له ان اللصوص يسرقون المنزل، الآن، فرد مذهولا: "هذا مستحيل لأن جميع أعضاء السلطة والحكومة هنا على العشاء".

 

9/9/2001

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

مقالات الكاتب والروائي

حمزة الحسن

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال