<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن التاريخ بين النبوءة واليقين

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

التاريخ بين النبوءة واليقين

 

 

 حمزة الحسن

 

الكلام في النبوءات التاريخية الكبرى اليوم لم يعد كما في السابق اشتغالا ايديولوجيا ولا من اختصاص اليوتوبيا بل صار صناعة وفبركة لكي لا نقول شعوذة مع ان الايديولوجيا لا تتوجه للمستقبل بالدرجة الاساس بل تصنع نموذج الماضي والحاضر بناء على تصورات ومخططات مسبقة، اما اليوتوبيا فهي حركة للامام نحو المستقبل. انها نوع من الحلم وفي الغالب نوع من الوهم.

 

حين يقع المستقبل بين نموذج جاهز ومسبق وبين نموذج صوري حالم أو واهم، لا يعني هذا سوى تثبيت الحاضر وخلق الوهم أو بكلام أدق صناعة رأي جماهيري قائم على التسطيح والاحتفالية والفرجة. حين يكون الامر كذلك يخرج التاريخ من الارادة البشرية الفاعلة الى الاختلاق والرغبة ـ اي لا يعود قوة وطاقة تغيير بل أوهام تشتيت وبعثرة وهي طبيعة أوهام النبوءات الكبرى عن القادم.

 

ان توقع الآتي شيء يقوم على حاضنة الماضي وعلى مقدمات الحاضر وليس بناء على مخطط ارادوي فكري او نفسي. حين لا يكون الأمر كذلك لا يعود الكلام عن صناعة مستقبل بل عن صناعة وهم لأن النبوءة بالقادم لا تستحلب من الكلمات والرغبات بل من قوى وقوانين ومصادفات بل ومن حماقات ايضا: فالقول مثلا ان الصين ستعود في دورة تاريخية قادمة الى عرين الكونفيشيوسية وتسيطر على العالم هو أقرب الى الانشاء اللفظي حتى لو تعكزت هذه النبوءة على شذرات من صور التاريخ لأن هذه النبوءة تلغي الحاضر بكل قواه وثوراته وتفترض ان العالم مجموعة احجار متراكمة على بعضها تنتظر المخلص ولا تفعل سوى الانتظار مع ان العالم اليوم يشهد على صراع قوى جبارة كبرى وحركات شعبية فاعلة تشارك في صناعة الحاضر وصنع مقدمات المستقبل ـ الذي هو الآن.

 

ان القطع والجزم والحسم بدورات تاريخية كبرى تمر بها الشعوب هو نوع من التنجيم لأن هذا التصور قائم على فهم مسطح لحركة الزمن على انها حركة دائرية استعادية تكرارية وليس التاريخ تاريخ منعطفات ومصادفات وصراعات وقوى ومصالح ومصادفات. ان النبوءة تتقاطع مع اليقين. لو كان اليقين على هذه الدرجة من الوثوق والطمأنينة ويختزن في داخله زمن المستقبل، لما تطلب الامر الى توقع او نبوءات، لأن من طبيعة الاحداث الكبرى القادمة أو (الكونية) وليست الاحداث المحلية العاصفة، انها تندلع في أزمنة صعبة ولعوامل متداخلة يصعب التكهن بنتائجها كصاعقة وخطف وبرق هائل خاصة في عالم اليوم الذي لم تعد فيه صناعة تاريخ العالم من اختصاص قوى محلية أو مخططات أو أحلام فردية أو جماعية في جغرافية محددة بل شراكة عالمية.

 

التاريخ البشري اليوم هو اضطراب وتظاهرات وحركات وطاقات عالمية تشارك في صناعة المستقبل ولن يكون هذا المستقبل على صورة واحدة بل سيكون تاريخ التنوع والاختلاف والتعدد وفي تاريخ الاختلاف يسقط وينهار اي نموذج للتوقع والنبوءات لأن النبوءة تفترض سيطرة النموذج والمخطط والتصور الأولي وهذا لن يحصل في عالم اليوم ولا في الغد.

 

ان اللجوء الى نماذج الماضي لانتاج المستقبل، والاستشهاد بالتاريخ القديم لاعادة صياغة الآتي، لا يلغي الحاضر وثوراته العلمية الكبرى فحسب بل هو قصور مريع في فهم الماضي أيضا الذي كان هو الاخر تراكم قوى وافكار وبنيات اجتماعية وثقافية انتج المنعطف في لحظة تشبه الصدمة  وهي في واقع الحال قشرة الجليد التي تكسرت تحت حرارة شمس لتكشف عن هوة عميقة وكبرى: ان هذه الهوة لم تكن نبوءة أو صدمة الا لمن لا يعرف، لأن( الهوة) التاريخية قائمة ومختبئة وموجودة في ارادة البشر وفي الصراع وفي التزاحم والتناكب لكن( زمن الظهور) ليس هو نفسه (زمن الهوة) بل زمن الوعي بها والانكشاف وهذه الهوة أو المنعطف التي كانت تلوح بصورة النبوءة هي في واقع الحال حركة ذلك الزمان المحدد في ذلك المكان المحدد، وتلك الحركة الصاعقة لن تعود في دورة قادمة لأن الزمان نفسه تغير والمكان نفسه تغير كما ان شروط الحياة نفسها لم تعد قائمة.

 

لم يعد هذا المكان أو ذاك أرض الاحلام الكبرى والفتوحات المنقذة والمخلِّصة اليوم لأن تاريخ الارض هو تاريخ عام وهو تاريخ الشراكة والتمايز والاختلاف وتعدد الهويات وتعايش التمايزات في الوعي وفي العرق وفي الحلم والارادة والهويات. إما افتراض وجود مخطط وحيد هندسي سيكون عليه العالم يخرج من هذه الارض أو تلك هو مخطط يقوم على ذهنية دينية في الجوهر وعقل شمولي منقسم وغير واثق وعلى حلم أو وهم شيخ قرية يؤمن في عالم اليوم ان تاريخ القرية هي تاريخ العالم الوحيد وان نموذجها قابل للاستعادة نظرا لصفاته( الاخلاقية) وحدها وصفاء النية وطيبة قلوب الناس.

 

هذه طبيعة الوعي المنعزل الذي يرى في التاريخ صناعة ضمير وعواطف ومشاعر صافية ودورات مستعادة غير مدرك ان تاريخ اليوم والغد قد تصنعه مصادفات ايضا بل حماقات الى جانب الرغبات والصراعات والحاجات. على سبيل المثال ان ضياع الشفرة النووية للرئيس الامريكي الاسبق كلينتون في زمن قضية مونيكا لعدة شهور كان يمكن ان يعرض العالم الى مخاطر جدية لو وقعت تلك الشفرة في حوزة قوى قادرة على حل الرموز والتحكم والسيطرة واصدار الاوامر. ماذا كنا سنفعل بكل كتب التاريخ والعلم والاديان والحضارات البشرية لو انهالت على رؤوس الجميع القنابل الذرية؟ لا شك ان فينا من كان سيفسر الامر على انه( نبوءة) فناء واستعادة بناء على مخطط ذهني ونفسي وفكري مسبق، لكن الأمر ليس كذلك، ولا هو نقمة الهية أو تمهيد لظهور المخلص أو عودة النبواءت الكبرى بل الأمر ببساطة ان الرئيس اضاع الشفرة النووية في ذروة الهيام بشفرة أخرى.

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

 

مقالات الكاتب والروائي

حمزة الحسن

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال