غرف جمعة اللامي
حمزة الحسن
بعد منتصف الليل، حين تخلد العائلة الى النوم، أصعد الى
غرفة في الطابق الثاني المطل على حديقة كثيفة رفضت تشذيبها وتشاجرت مع جاري
حول الأمر حيث يقول إن اشجار السرو تمنعه من رؤية الأفق مع ان الخلجان
المشعة بالضوء والسر والقوارب الشراعية في الصيف واللون الرمادي والجبال
المثلجة أو الخضراء ترى في الشتاء من نافذته العلوية. كنت أريد الأشجار على
هذه الصورة من النمو والكثافة والغموض. في نهاية العمل، أتسلل الى(غرفة
الآنسة .م.) آنسة الحكاية التي عادة ما تستيقظ في الفجر لكي تمارس:(هوايتها
الصباحية بانهماك حاد) في حين تكون صورتها في المرآة المقابلة تظهرها
عاريةً بصورة أوضح مما يقول المؤلف جمعة اللامي.
قد يعثر أحدُ ما على شبه بيني وبين شخصية أوغست بريل
للروائي بُول أوستر(رجل في الظلام ـ 2008) شخصية ناقد الكتب المتقاعد من
حادث سير وهو يصنع لنفسه عالماً متخيلاً في غرفته في الليل:( وحدي في
الظلام، أقلِّب العالم على رأسي، فيما أنا أصارع نوبة أخرى من الأرق، وليلة
بيضاء أخرى في العراء الأمريكي العظيم) ومثل هذا الشبه موجود بين البشر في
أزمنة صعبة. من منا لم يصنع عالماً موازياً ومختلفاً قبل النوم؟ ألم يكتب
ماركيز رواية( ذاكرة غانياتي الحزينات)كتناص مع رواية(الجميلات النائمات)
للروائي ياسوناري كواباتا؟
اذا كان أوغست بريل يحاول أن يذهب الى المستقبل ويتصوّر
عالماً مغايراً لعالم أمريكا اليوم حيث يتخيل انهالم تشن الحرب على العراق
ولم يسقط البرجان وقد دخلت في حرب أهلية مع نفسها، فأنا بكل بساطة أعود الى
الماضي، ليس الماضي الذي تقوله كتب التاريخ ولكن الماضي المتخيل من خلال
حكايات وقصص مؤلف عراقي قبل عدة عقود من الزمن يوم كان الليل العراقي يبدو
مضيئاً ورخيّاً وواعداً لكن أحداً لم يكن يحفل بالسحب خلف الأفق ـ ليس أفق
جاري الطليق والمشع والصريح كنهار اسكندنافي أبيض، بل أفقنا المغلق على
التوقع والتخيل. ماذا نفعل اذا كان اسم الكاتب جمعة وليس بول، ووالده يحمل
اسماً ريفياً هو عجيل درويش وليس أوستر، وأمه ليست دومنيك أو سيسيل بل تحمل
اسم الندى أو زهور البراري أو على اسم طائر صغير بحجم الاصبع من البيئة
والصاعقة والأشجار والأعراس القديمة وهو نفسه عمل لبّاخ طين وحمّالاً
وسجيناً لأن السجن مهنة في عراق الأمس واليوم؟ مهنة السجين ـ سجين القضبان
أو سجين الوضع العام ـ صناعة الغرف المتخيلة، وفي هذه الغرف يتم قلب لعبة
السلطة حيث يصبح الخيال سلطةً.
قد تكون مفارقة غريبة أن بول أوستر(مؤلف: ثلاثية نيويورك)
يكتب عن مستقبل متخيل لا تكون الحرب فيه على العراق قد وقعت، ونحن نعيش هذه
الحرب الحقيقية في الماضي القريب وفي الحاضر وفي المستقبل ايضا:رجل في
الظلام يحلم، بهذا المعنى، حلماً كان قد حلمه من قبل مؤلف عراقي آخر مرات
لكن حلمه ضاع كما تضيع الاحلام الكبرى والفتية، ولو ان عالم جمعة اللامي
تحقق وغرفه المتخيلة صارت حقيقية، لما كتب بول أوستر روايته الشهيرة، ولما
كان الناس في كل انحاء العالم بحاجة الى هذه المعاناة المستمرة، واحلام
الغرف والليل وكوابيس الحرب: كل حكاية هي حلم متخيل أو واقع سبق ان عاشه
انسان آخر في مكان آخر كما كان بورخيس يقول.
ماذا حل بمصير روبرت جاردن في رواية( لمن تقرع الاجراس ـ
همنغواي) المناضل الأمريكي في الحرب الاسبانية ضد الفاشيست حين أصيب بجرح
بليغ بعد تفجير الجسر وطلبه من الرفاق الانصار تركه ينزف وتنتهي الصفحات
وهو مشرف على الموت في حين يقترب منه جنود العدو وهو مسلح ببندقية؟ ماذا حل
بمصير ميرسو في رواية( الغريب ـ ألبير كامو) الذي حُكم عليه بالموت ولا
نعرف ماذا جرى بعد ذلك؟ ليست هناك رؤية تخيلية تنغلق في نص مكتوب لأنها
تنفتح على رؤى أخرى وتتداخل معها وهذه هي الحكايات عبر التاريخ.
كنت أقوم بلعبة تخيل مسلِّية وهي وضع أحد السلالم الخشبية
على نافذة الآنسة .م. ثم التسلل، الهادئ، والآمن، كنوع من التلصص، حتى أطل
على غرفة الانسة. م. وهي احدى قصص المؤلف جمعة اللامي القصيرة المهلكة :
مهلكة للمؤلف لأنها أوشكت أن تطيح برأسه نتيجة خطأ في التفسير( خطأ؟) لأن
السلطة لا تريد أي تفسير خارج تفسيرها لكل شيء( في الواقع كان تفسيرها
يتعلق بالجنس)، وهي مهلكة لي لأنها صارت طقسا من طقوس الهروب من الثلج
الليلي والمكان الضاج بالصمت والأشجار والعمل المستمر، كما انها مهلكة
لجاري أيضا الذي لا يخطر في باله معرفة ان أشجار السرو التي أرفض تشذيبها
توفر فرصة آمنة للصعود المتخيل عبر السلالم الى غرفة الآنسة .م. كجزء من
طقوس الصعود والمتعة والتخيل، ولست مسؤولا عن الأشجار كما عن الغرفة ولا عن
عري الآنسة ولا عن لوحاتها الجدارية وعالمها الحار والباهر. إن على جاري
تحرير السجين من الأسر، وتحرير الآنسة من الألم العضوي، ألم الرغبة، وتحرير
السجناء ايضا من أشياء كثيرة، وتحرير الحكاية نفسها من القالب، وتحريري من
المنفى، قبل أن اقبل بحل قضية أشجار السرو.
قد لا ترى الانسة صورتها في المرآة. من يدري قد تراها وإلا
لماذا وضعتها في ذلك المكان المطل على جسدها وهو يتعرى في الغرفة؟ حين دخل
الليل الغرفة، لم تشعر هي بهذا الدخول:(كانت منشغلة بامرار وشاح حريري أحمر
بين فخذيها) ومنهمكة في طقوسها الخاصة من دون أن تعير اهتماما لشيء خارج
الغرفة وهي غرفة عادية من الخارج، يقول المؤلف، الذي دقق في زواياها من
الخارج ومن الداخل لكنها من الداخل تبدو غريبة في كل شيء وفي صورها خاصة:(
صورة نمر صغير ينزو على أمه ـ لوحة انسان برأس كلب يحتضن دمية كبيرة على
هيئة فتاة في العشرين منطرحة على وجهها وتئن تحت ثقل الانسان الذي برأس
كلب) هناك لوحة جدارية على جدار الغرفة كانت السبب في رفض تجديد الطلاء
القديم من قبل الآنسة واللوحة تعكس:(فتاة منطرحة على وجهها قرب جدول صغير،
وعنكبوت كبير الحجم يقعي على ظهرها ويمد أحد خراطيمه في ثديها الأيسر) وغير
ذلك من الرموز الايروسية. لكن كل هذه البراقع هي محاولة للتخفي من الوضوح
كما أفعل هنا في هذا النص الذي لا أعرف، عكس لعبة السلالم، الى اين يتجه
ومتى ينتهي؟
كانت فتاة الجدارية تعاني من ألم لكنه ليس الألم العادي
الناتج عن جرح أو مرض بل ألم الرغبة وهو أقرب ما يكون الى ألم الآنسة.م.
التي أخذت في تلك اللحظة:( بالذات بصك ركبتيها بقوة وتسحب الوشاح الحريري
من بين فخذيها ببطء): الليل في الغرفة يتكلم مع الفتاة التي اطلقت زفرة
عميقة وتنفست بارتياح، العنكبوت يراقبها بانبهار، النمر الصغير يحرك يديه
الاماميتين خلف ظهر امه، الآنسة تسأل الليل اذا كان يرغب في أن يتكلم:( عن
اي شيء؟ سأل) عن أي شيء، المهم أن نتحدث. قال:( قبل ساعات كنت حاضراً مع
الناس فشاهدت الملايين يموتون بشكل غريب) قبل أن يرى بول أوستر الناس
يموتون في الشوارع في" رجل في الظلام".
روى لها، أي الليل، كيف شاهد شخصا يقتل شقيقه بفأس ويضع
رأسه في الفرن وكيف أخذته الشرطة وهو يدخن سيجارته بهدوء ووصف شكله ولم يكن
غريبا على الآنسة التي استمرت تمارس لعبتها كل يوم: تحت تلك القصة يوجد هذا
التاريخ:" سجن الحلة المركزي ـ حزيران، 1967" وهذا التاريخ أو المناص ليس
خارج النص بل هو عتبته كالعنوان والاهداء والغلاف والتعريف... الخ، وقد
يختزل المناص التاريخ والمكان والحكاية أو يتجاوزها في نوع من النظر عبر
الحيطان، حيطان السجن، أو حيطان الواقع: أن تتخيل عالماً مضاداً لعالمك من
داخل سجن، لا يتعلق الأمر بقوة الخيال فحسب بل بقوة الايمان على أي شكل
تجسد: الخيال بلا ايمان بانتصار الحياة نوع من اليأس المستعرض، والسرد
المبدع نوع من الشرف وهو شكل من الأخلاق والنبالة.
ما الذي جعل جاري ينزعج من كثافة أشجار السرو اذا كانت
الآنسة نفسها لم تنزعج من دخول الليل الى غرفتها ومشاركتها طقوس الوجع
الانثوي البدائي؟ بل لماذا لم ينزعج المؤلف نفسه من ألم الكتابة من داخل
سجن مسور ومحصن ومحاط بالابراج وفضل بناء غرفة من فضاء مفتوح خاصة بفتاة في
حين يعيش هو نفسه مع مجموعة سجناء في مكان قد يكون ضيقاً؟ ليس ضيقا بمعنى
الابعاد بل بمعنى الوقت ولكن ماذا لو نقلنا اثاث غرفة الانسة .م. الى غرفة
أخرى من غرف المؤلف وهي( الغرفة ـ قصة قصيرة، 1972) غرفة صغيرة:( تعج بأناس
صغار بحجم الدبوس).
أتذكر انني كنت شاباً يافعاً حين قرأت تلك القصة قبل النشر
بورق أنيق مصقول بخط المؤلف لكنني نسيت، تحت مشاعر تخيل متضاربة، ربما بسبب
عدم الفهم يوم كنت أتصور ان عدم الفهم يعني الغباء أو الجهل وليس نوعا من
الادراك غير الواضح وغير المحتاج الى تفسير، أقول وضعت خطاً تحت جملة ما،
الأمر الذي أغضب المؤلف الذي استدار الى النافذة: خلف النافذة خلاء مهجور
كان ملعبا للاطفال وهو المكان الوحيد المناسب لهم وقد رفض المؤلف طرد هؤلاء
الأطفال، رغم الضجة، لأنهم اذالم يجدوا مكانا للعب، فسيذهبون الى المقاهي
والحانات والأمكنة الأخرى المشبوهة الكثيرة المجاورة للمكان: حتى اليوم حين
اضع خطاً أو أشطب جملة لي، اتذكر تلك اللحظة، وهو تبجيل انقرض مع اشياء
كثيرة.
كان المكان أو ملعب الاطفال المرتجل مجاوراً لكنيسة، ومركز
شرطة، ومبغى سري، ومنظمة حزب، ودار نشر للمطبوعات المدرسية وربما غيرها،
وحمام نسائي يكون مزدحما بعد منتصف الليل والفجر على نحو خاص بعاهرات
المنطقة العائدات الى البيوت. عند التدقيق في تلك الأمكنة نجد انها جميعا
مؤسسات قمع ما عدا الحمام: اذكر أن كاتباً صديقاً يستأجر غرفة في الحي نفسه
يتسلسل كل فجر الى الحمّام وكانت فكرة العثور على ثقب في الجدار قد تحولت
عنده الى فكرة تسلطية آسرة، وحين عجز تماما عن العثور على ذلك الثقب( كانت
حرب تشرين / اكتوبر 1973 قد أندلعت) اقترحت عليه ثقباً متخيلاً. بحلق في
وجهي من الفكرة قائلا:( لكن كيف نسيت ذلك؟) قلت: (لأنك مداهم بالرغبة كجندي
يبحث عن بندقيته وهي بين رجليه أو على كتفه خلال مداهمة) فرد قائلا
بذهول:(بين رجليَّ وليست على كتفي) وضحكنا ببراءة أطفال.
كنا نتسلل معا: هو الى ثقب متخيل في الحمام، وانا أصعد الى
غرفة الآنسة .م. عبر سلم متخيل في السرير قبل النوم. الغريب في الأمر ورغم
مرور أكثر من خمس وثلاثين سنة على ذلك التلصص لكنني ما زلت أستعمل السلم
نفسه بعد أن أجريت بعض التعديلات الحسية والملموسة على الغرفة: طليت الجدار
وازلت الجدارية المرعبة وطردت العنكبوت، بل طردت المؤلف نفسه من الغرفة
أيضا، ومسرحت السرير كما أرغب، ولم يعد هناك أي اثر للنمر الصغير، وصار
عالم الغرفة أقرب ما يكون الى المكان الواقعي، وبدلت الأثاث وغيرت بعضها
وكسرت المرآة لأنها تعكس أوضاعا خاصة وأسدلت الستائر على الليل.
لكن ماذا تبقى من غرفة الآنسة؟ هل أفرغتها من الأثاث أم من
المحتوى وهي أصلا غرفة شبه فارغة الا من الرموز المشاركة في الفعل؟ لكن
الأثاث محتوى أيضا ويعكس طبيعة وشخصية النزيل الجديد أو المتلصص الحقيقي أو
المتخيل، واذا كان المؤلف قد أثث تلك الغرفة وهو في السجن يوم كان أقصى
رهان لديه على سجارتين أجنبيتين أو قنينة خمر:( إن وجدتُ فعلا من يستحق
الرهان كما يقول في قصة: الغرفة) فواقع الحال مختلف عندي، بل فكرت عدة مرات
في الخروج مع الآنسة في نزهات طويلة مرتجلة لأنها لم تتحرك في تلك الحكاية
خارج السرير كما لو كانت سجينة الرغبة كما هو حال المؤلف سجين الجدران.
كلما تسللت الى تلك الغرفة أجد أن المؤلف ترك تلك الآنسة
منطرحة عارية منهكة مستنزفة في حين خرج هو من السجن( حقا، خرج؟) بل خرج من
البلد وترك عالم الغرفة بلا اصلاح ولا تجديد وظل العنكبوت على حاله بعينيه
المحمرتين، والنمر الصغير في توثبه للصعود، والليل في دخوله الغرفة عبر
النافذة، وفتاة الجدارية منطرحة على وجهها على حافة جدول ماء صغير بدا
جافاً كوجه الانسة التي إستنزفتها طقوس الرغبة المستمرة طول تلك العقود مع
ان الرغبة لا حاضر لها أو مستقبل لأنها ما ان تتحق حتى تصبح ماضيا وهذا هو
لغزها الأبدي.
في واحدة من الليالي سمعت طرقا على جدران غرفة الطابق
العلوي بعد منتصف الليل وكان بلا شك من جاري المستاء ولكن لم يكن السبب
واضحا لأن هذا يحدث لأول مرة وكنت في تلك اللحظة قد وضعت السلم على جدار
غرفة الآنسة وانا في السرير قبل النوم، كالعادة، وفعلت ذلك من دون ضجة ولم
اسمع بسقوط شيء أو غير ذلك ولكني تجاهلت الأمر في منتصف الصعود، وقررت هذه
المرة تغيير بعض المشاهد التي تركها المؤلف على حالها وذهب الى غرف أخرى:
لكني لم اقم بذلك الا بعد أن توقف الطرق على الجدار وخشيت أن يكون هذا
الجار يعاني تلك اللحظة من نوبة مرضية ويحتاج الى مساعدة أو انه، هو الآخر،
يتسلق على سلالم أخرى، حقيقية أو متخيلة، على نافذة غرفة أخرى، في ليل آخر
لا يشبه هذا الليل رغم شراكتنا الليل والمكان وأشجار السرو والحيطان
والمدخل والشارع والبلد والجنسية وعلب النفايات وصناديق البريد المتجاورة
وسماع الموسيقى الزاعقة في النهار من شابة في الطابق الثاني حين تسكر تخرج،
في الصيف، الى الشرفة، عارية، تماما.
كثيرا ما فكرت في استبدالها للاقامة في غرفة الآنسة.م. بعد
أن صارت مملة ومضجرة بل ميتة، لكن الشكل العام لهذه الشابة لا يصلح لذلك
السرير الغريب لأن مكانها المناسب حديقة مطلة على برية واسعة من حقول
الحنطة في صيفها الاخير كحقول كلود مونيه أو فان غوغ أو شرفة على ساحل بحري
مفتوح على النهار والغسق، لأن الآنسة.م. تشكل وحدة عضوية في بناء الغرفة
وهي ليست غرفة عادية ـ لا أدري لماذا هذا الاصرار على تكرار المؤلف على
عبارة( ليست عادية) اذا كان الأخ قد قتل أخاه وشواه في الفرن ووقف على
الجدار مدخنا سيجارته بهدوء حتى جاءت الشرطة؟ لا أعرف من أين جاءت الشرطة؟
ولكن من أين يمكن أن تأتي؟
الغرفة الأخرى(قصة: الغرفة، 1972 ) مطلة على الجنوب. جنوب
المؤلف أم جنوب المكان؟ كل الأمكنة جنوب كما لو ان الأبعاد الاخرى تلاشت.
هناك خيول تخب في الشوارع في الظلام لكن أحدا لا يرى، ولا شك، يقول المؤلف،
ان هذه المدينة عمياء كما لو كانت تعد نفسها لمسرح دمار( الدمار الذي سيكتب
عنه بول أوستر "رجل في الظلام" بعد عدة عقود من رؤيا حفيد الدرويش). كان
يشاهد الخيول عبر النافذة قادمة من الجنوب ويصرخ: (خيول، خيول) لكن أحداً
لم يفطن الى ذلك حتى الأم في المطبخ.
هذه الغرفة المغلقة من كل الجوانب عدا الجنوب أقرب ما تكون
في احتفاليتها الى:("غرفة سمير القنطار" ـ مقال للكاتب في 18/2/2006) رغم
ان الغرفة الأخيرة أوسع وأرحب وأكثر بهجة ولا توجد فيها تلك القتامة
الرمادية. قصة (الغرفة) تختلف عن غرفة الآنسة.م. في الشكل: الناس هنا صغار
بحجم الدبوس، يرقصون في الليل، الملكة تنزع ثيابها أثناء الرقص، ومرة كان
ينظر نحو الجنوب، أيضا، في اتجاه النهر( النهر الوحيد في المدينة) حين مد
يده تحت الفراش:(الملكة الصغيرة ترقد بهدوء) وتذكر انه دعاها البارحة لتقص
عليه عن الزمن القديم وانه نام بعد أن:(لمستُ صوتها، وسمعتُ شعرها) قلبَ
وظيفة الحواس. قد لا يكون الأمر كذلك. ليس غريبا أن يشم الانسان رائحة
الصبر أو يسمع مرور الوقت أو يلمس باصابعه صوت الريح: رامبو مارس ذلك
بعفوية.
هذه الغرفة تبدو مسلية وممتعة كما يقول هو لأن الليل حكايات
وأقاصيص وموسيقى وملكة تتعرى ملتصقة بصدره ويشعر بأنه:(أسعد حالاً من الناس
الذين في الخارج) خاصة حين ينظر، وقت الأصيل، نحو الجنوب، أيضا. المدينة من
الخارج مكتظة بالالات والبنايات والسيارات والرافعات الخ أما الليل في
الداخل:( فهو غرفتي واصدقائي الصغار والخيول) لكن قبل ثلاثة أيام هرب منه
جواد يشبهه، جواد ابيض على جبهته غرة سوداء(في قصة "اليشن" الجواد أسود على
جبهته غرة بيضاء: يهتدي بسناها المسافرون في ليل البرد والحالوب، يقول) لكن
جواد الحكاية يختلف كما تختلف الغرف والأوضاع والقوانين والقراءات وعلى قول
الرسام ماتيس:" ما قيمة أن نقوم بتقليد ما تنتجه الطبيعة كل لحظة
وبافراط؟".
الملكة الصغيرة أخبرته يوما إن ذلك الجواد الهارب هو:(ابن
احدى الملكات السابقات من عائلتها) وهو يأتي الى نافذته كل ليل لكي يكفر عن
خطئه وانه نادم. تقول الملكة الصغيرة. واضافت:(انه منفي قابل بنفيه بعد نفي
عائلته له) لكنه لم يفهم معنى هذا الكلام مثلما لم يفهم جاري انني منفي
وعلاقتي بالاشجار علاقة تمسك وتشبث ومصير كما هي علاقة تخيّل، وكما قام
صاحبي باختراع ثقب متخيل في الحمّام، وقمت انا باختراع سلم تلصص على غرفة
وسرير الآنسة، قام هو باختراع تلك الخيول الراكضة في الليل، لكن هل اخترع
عماء المدينة؟ الجنوب؟ النهر؟ الموتى في الشوارع؟
كان طفلا يحمله والده على كتفيه ويرى القمر قريبا وحين يسأل
يقول الأب إن القمر معلق بخيط طويل يمسك به طفل، فيقول إنه هو هذا الطفل
وهذا القمر ينتظره هو لا غيره، وفي الليل يرى الخيول تطوف في المدينة لكن
الأب يضربه على قفاه ويزجره:( كف عن هذا الكلام فلستَ بيوسف). في المدرسة
قيل له إن عليك ان تنسى اسمك واعطوه رقما، لكنهم بعد سنوات طردوه من
المدرسة لأنه لم يقم للمدير كبقية التلاميذ، ووضعوه في الغرفة في البيت بما
يشبه الحجز ودخل الأب بعصا غليظة لكنه فتح النافذة الجنوبية:(بعنف وأطل
منها رأس جواد أبيض بغرة سوداء على جبهته) لكنه لا يعرف ماذا حلّ به بعد
ذلك لأنه لم يستطع النهوض من السرير، والاسفنجة على الرأس تبدلت ـ ربما
بسبب الحمى ـ وظل يسمع الأب يتحدث للأم عنه بخجل وهو غير مبال بشيء ولا
بمكان غير الجنوب:(حيث قطعان الخيول تدخل المدينة عبر الرابية التي تواجه
النافذة) وتحدثه الملكة الصغيرة:( عن زمن قادم، زمن كله خيول وأناس صغار،
يرقصون دون ضجة، في غرف مثل غرفتي التي هي سلام). السلام نفسه الذي يتخيله
كل يوم أوغست بريل في (رجل في الظلام) بعد وقوع الكارثة بعدة عقود: ليس
سلام المقبرة.
عند هذا الحد، سمعت صوت التلفاز من داخل صالة المنزل يتحدث
عن موجة جديدة من القتل وعن جثث مرمية في الشوارع، فطلبت من داخل السرير،
بصوت خافت لا يكاد يُسمع، وسط سكون الليل، اخفاض الصوت، وفي الوقت نفسه
فتحت النافذة نحو الخلجان والجبال الغارقة في الضباب الرمادي وكانت أشجار
السرو تسبح في المطر والضوء المنعكس من مصابيح لا تُرى من النافذة. كان
عليّ، حسب الطقس التخيلي، سحب السلم من جدار غرفة الانسة، لكنني لم أتمكن
من تذكره أبداً، وتلك كانت المرة الأولى، وحاولت العودة الى(الغرفة) ورؤية
الخيول القادمة من الجنوب وهي تخب في الشوارع لكني لم أر شيئاً، وحين نزلت
لاطفاء التلفاز الصاخب، لم أجد أحدا في الصالة: كانوا جميعاً نائمين،
والشاشة مطفأة، وعتمة ناعمة تغمر المكان. نظرت عبر النافذة الى الشارع
الساكن المضاء بانوار هادئة ومضببة والخليج الرمادي ، تحت المطر. كانت هناك
باخرة تطلق صفيراً طويلاً يخترق الليل لا أعرف متى وكيف سينتهي كهذا النص.
ـ "الليل في غرفة الآنسة .م." قصة قصيرة، سجن الحلة
المركزي، حزيران 1967، وقصة قصيرة " الغرفة 1972".