<%@ Language=JavaScript %>  حمزة الحسن ذاهب أفضح هذا العالم لله

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

 

ذاهب أفضح هذا العالم لله

 

كاريكاتير قيس عبد الله

 

حمزة الحسن

 

ـ "إني ذاهب أفضح هذا العالم لله "

الراهب ياناروس، رواية" الإخوة الأعداء" كازنتزاكي.

 

عندما كان السيد ابراهيم الجعفري يلقي كلمته في مؤتمر أو لقاء أو ندوة أو فرجة اربيل أو أرابيل ( الآلهة الأربعة) خفت أن ينهض هذا الرجل ويمزق ثيابه علنا أمام العالم أو يكسر قدح الماء أو قارورته أو يعض شخصا ما في مكان ما أو أن الرجل سيشرع في البكاء كطفل ضائع في غابة وحوش خاصة اذا كانت هذه الغابة عراقية والوحوش من نوع خاص، أو كراهب أو صوفي أو مثقف أعزل وجد نفسه في حانة طرب ومهرجان للتعري أو حاج قدم توا من رحلة حج لكنه تاه على ساحل للعراة.

 

ماذا يفعل الجعفري مع هؤلاء ومن ورط هذا الرجل في هذه المصيبة وكيف سيخرج منها اذا كان الخروج سهلا كالدخول وكيف سيعيش اذا قدر له أن يعيش في هذه الحانة والساحل والسوق وهل سيقرر بنفسه الخروج اذا كان يستطيع ذلك بعد أن أُغلقت الباب على السجناء ووُضعت الاسلاك الشائكة وانتهى الحفل وتشابهت الوجوه والمواقف وتلوث الجميع في هذا الحفل الوحشي؟

 

مشكلة السيد الجعفري هي مشكلة أداة ولغة وطريقة لأن هذا الرجل القادم من سراديب وأنفاق العمل السري، من قلب العتمة الى الأضواء، من وضوح الوكر الى غموض الأضواء الكاشفة، من الحلم الى الدولة، من الثورة الى الشركة والبازار والخيبة، من المخبأ الى العدسة، من الأمل الى سقوط الأمل، من المشروع الى المجزرة، هذا الرجل يتوجع علنا وينوح علنا ويموت علنا لاسباب كثيرة قد نتفق أو لا نتفق معه على بعضها، لكننا لا نختلف مع حقه في الخيبة والرجاء والصدمة والتوجع.

 

من تابع الجعفري وهو يتكلم وانتقل ببصره الى الحضور، حضور المؤتمر، ربما يكون قد لاحظ أن بعضهم كان على وشك الضحك ومن ضبط ضحكه لم يضبط الابتسامات الساخرة أو نظرات الاستغراب لأن خطاب الرجل لم يكن موجها للحضور ـ الغائب، وهو كان يبحث عن شخص أو جدار أو طرف فلم يعثر كما لو انه يغني في مقبرة أو ينشج في سوق أو بورصة أو يرفع كتابا مقدسا في مواجهة بطاقة مصرفية أوكشيخ عجوز بين أطراف متحاربة وهو يصرخ في وضوح النصل وعري الدمع وخشية الحكمة من الطيش والذل وموت الضمير.

 

لم يكن الحضور يصغي أكثر مما كان يستنكر هذه الجرأة والخروج عن قواعد البروتوكول( قالها السيد شاويس ضاحكا بصراحة لمصادرة الموقف) فلا الجعفري كان يتكلم معهم ولا هم كانوا يصغون له، بل كان ينعي كبوم غسق على خرائب وجثث وحرائق في حفل طقسي معد للهزل والفرجة والتوزيع ـ توزيع الاسلاب أو ما تبقى منها: في" طبخة أربيل" جرى التأسيس لحكومة ضعيفة بصلاحيات موزعة ومراكز قوى مختلفة متعادية ومتناقضة تمنع في المستقبل تمرير قرارات سيادية وهذا هو هدف الاحتلال النهائي من دوامة ومتاهة الأشهر الماضية.

 

مشكلة الجعفري كما قلنا هي مشكلة أداة ولغة وطريقة لأن هذا الرجل يؤمن بالمعنى الحرفي ان البلاغة والفصاحة قادرة على حل المعضلات وتحفيز الضمائر وتذكير الحضور بالمسؤولية القانونية والاخلاقية والوطنية والدينية والتاريخية إزاء الناس ولكنه ينسى( لماذا ينسى؟) ان الفصاحة والبلاغة قد تنفع في محراب أو جامع أو مسجد أو كنيسة أو جامعة وليست في مجمع للأبالسة: لا ندري كيف نسي الرجل، وهو موشك على الاغماء والهياج والغضب والسقوط من فوق الكرسي( لو سقط هل سيصل الى الأرض بعد شهور؟) ان ترويض التماسيح ليست مشكلة لغوية أو قضية فصاحة وعقل التماسيح وضمائرها في الانياب وليست في المحراب وترويض خيول برية أهون من ترويض هؤلاء، كما ان تعليم هذه النخبة من الرجال المتقدمين في السن والتجربة والسياسة والحيل وتذكيرهم بمفاهيم المسؤولية والضمير والواجب والشراكة والاخوة والاحساس بالألم أمر يشابه تعليم الفيلة العزف على البيانو ووعظ الذئب بالرفق بالخراف لأن ثقافة الذئب في أنيابه وليست فصاحة الجعفري سوى صراخ واقع في شرك أو فخ.

 

كنت أشعر أن الرجل يدرك هذه المهمة تماما ويدرك عجز الفصاحة في مواجهة القوة والغطرسة والشراهة، ويعرف جيدا أن مخالب النمر ليست ثقافة بل طبيعة وكان على وعي، تلك اللحظات، بطبيعة ردود الفعل السرية والصمت الذي تغير من صمت الاصغاء الى صمت الاستهجان الفاقد للاحترام، لكنه قرر أن يلعب اللعبة ذاتها وبشروطه هو: قرر أن يعاقب وينتقم لأن الرحمة والشفقة والرأفة هي انتقام الطفل والكبير، وأن يعرّي لكن من يعري والحضور عراة؟ يفضح؟ ومن يفضح؟ هؤلاء على قول شاعر عربي هم من أسس نادي العراة ومن أسس نادي الفضيحة. يكشف؟ ماذا يكشف؟ والدم المسفوك في الشوارع يطاردهم في الدنيا والآخرة. يحاصر؟ نعم. كان قد قرر أن يحاصرهم أمام الناس رغم كونهم محاصرين داخل جلودهم.

 

كم شعرت ان الرجل على وشك أن يحطم شيئاً لكن ماذا يحطم والبلد حطام والحضور حطام؟ ومع ذلك كان هذا هو الشعور المسيطر في أن شيئا تحطم تلك اللحظات أو بقايا مزق من ثياب قد طارت وان الرجل نجح في كلام ليس مع الكراسي بل مع الناس والتاريخ وانه كان لا ينصح بل يتبرأ ليس أمام شهود الزور بل أمام المستقبل والله والابدية.

 

لا أعتقد ان الجعفري يصلح لهذه المهمة ولا أعرف من وضع هذا الرجل في هذا الموقف المهين ولا أعرف ماذا يفعل مع هؤلاء؟ كانت القاعة تبدو محطة قطار موحشة وكان هو ضائعاً في الحشد: نحن عشاق التشابه والتطابق لا يعجبنا الجعفري ولا العجب العجاب ولا غيره لأننا نقيس المواقف بالمسطرة والساطور والعقائد والخانات والبطاقات المحجوزة والحدود الصلابة البليدة والنسق والحقد والرغبة والأهواء. كان أقرب الى راهب نيكوس كازنتزاكي ياناروس في رواية "الإخوة الأعداء" حيث كان هذا الراهب يصرخ خلال الحرب الأهلية بين الإخوة الأعداء( المحبة، المحبة) وحين لم يجد آذاناً صاغية في دوامة القتل والثأر والوحشية وجنون الحقد، صرخ غاضبا في وجه السماء: "إني ذاهب أفضح هذا العالم لله".

 

كان الجعفري يتيماً في ذلك السوق والحفل والساحل والغابة ـ ليس يتم الدم ولا السلالة بل يتم النوع والفصيلة. كان مثل كل يتامى النوع والوعي والضمير قد وجد نفسه في مأزق التلويث العام وليس أمامه سوى اعلان البراءة ولكن هذا لا يكفي: لو انه بعد الخطاب خرج من القاعة الى البيت، ونفض يديه من هذه المأدبة الوحشية، وذهب يفضح هؤلاء الى الله، فسيكون كأمير نجيب غادر الحفل قبل توزيع وليمة الدم والأسلاب المسروقة ـ لكن ماذا نفعل اذا كان الله نفسه قد أراد لهؤلاء الفضيحة؟

hamzaalhassan@hotmail.no

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

 

مقالات الكاتب والروائي

حمزة الحسن

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال