<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن  الهوية والأصالة خلق كالحدائق

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

 

 الهوية والأصالة خلق كالحدائق

 

 

 

 حمزة الحسن

 

قرأت ما يشبه الاعلان قبل ايام يقول صانعه اوكاتبه مخاطبا جهة مجهولة إنكم مصممون على العودة الى "اصولكم" في نوع من التهكم والقدح والمعارة ويبدو ان كاتب الرسالة او الاشهار او الاعلان لم يدقق جيدا بل لم يدقق نهائيا في شكل ومحتوى العبارة او الرسالة التي قالت عنه اكثر مما قالت عن غيره لأننا لا نعرف من هم هؤلاء الذين عادوا الى اصولهم، كما أن صاحب القول يكشف دون وعي عن ازدواجية معروفة لدى بعض المثقفين وهي "الكتابة" عن العدالة والانسان والحرية والثورة والديمقراطية كتجريد صرف من الاسم والحالة الاجتماعية واللون والعرق والمرض والمال والمكانة وغير ذلك من منطقة تفكير مجلوبة من الخارج ومن ثقافة قرائية اخرى للاستهلاك المحلي، وبين " الكلام" الشخصي المتخلف نتاج الوعي الفردي والتاريخي والبيئة والوعي الذاتي المختل، لأن مقولات الكتابة الخارجية لم تصبح جزءاً من النسيج الداخلي والوعي العضوي والنفسي والبنية الاخلاقية العميقة وتُنسى حالا لأنها طلاء وليست بنية جوهرية، لذلك تطفح في لحظات التردي والارتباك الثقافة الأخرى أو الذات الحقيقية الهرمة بمقاييسها ومعاييرها المحرضة والمصادِرة والزاجرة والقامعة وتحتل صدارة الوعي الخاص وتكتسح المشهد كله.

 

هذا الصنف من المثقفين يقرأ رسائل مشفرة في ابسط الافعال عفوية وبراءة لأن العفوية تتقاطع تماماً مع بنية معطوبة ويرى اشباحاً في حقول أزهار المساء لأن المنظار الداخلي مشوه وعاطل والرؤية الذاتية للاشياء والعالم معتمة وفي العتمة كل القطط والحقائق والحقول والوجوه رمادية، وهي ميزة معروفة للمثقف "الثورجي" الذي اختبرناه طويلاً والذي صار يحلم اليوم في ان يكون كاتبا في صحيفة شيخ خليجي( العدو الطبقي الرجعي المتخلف السابق) أو سائس خيوله في الأقل، أو حدائقي في منزله أو في قناته التلفزيونية لكي يستريح من وجع الجماهير والسجون والاشتراكية وأيام المزبّن والالتزام الشكلي الذي لم يحصل منه سوى الصداع والندم والافلاس، فانقلب في عدمية شرسة من ثوري كلمات وحانات وثورات مرتجلة الى بائع وتاجر قضايا جديدة وحسب  وهج السوق ـ حين يتم الحديث عن الاصالة بهذا المستوى، فالمقصود أولا وأخير هو الجاه والمركز المالي والطبقي وليست الاصالة العلمية والمعرفية والفكرية والثقافية وهي " أصالة" التاجر أمام دفاتره العتيقة والسياسي المهزوم أمام صور الالبوم القديم وأيام العز وليست اصالة العالم والمثقف والحكيم والناسك.

 

لا ندري اذا كان يجب الحديث عن الاصول والاعراق والتمايزات، فلماذا تكون العودة الى الاصول مثلمة وان البقاء خارجها حداثة كما ليس من الواضح ما هو الفعل الذي جعل صاحبنا يضع هذه الزجاجة في البحر مع هذا الاشهار: "مصممون على العودة الى اصولكم" وبصرف النظر عن الحماقة المستشرية في الاعلان، فإن الحماقة تصنع احداثا ملهمة، والروائي والمفكر امبرتو ايكو وضع كتابا في الحماقة اسمه" كيفية السفر مع سلمون" بل في الحماقة والاشمئزاز وكل ما نتركه ونهمله ولا ندخله في حقل التفكير رغم القيمة الداخلية واحيانا قوة الفتك التي يخلفها هذا المهمل والمنسي وغير المفكر فيه.

 

هل الاصالة الثقافية او السياسية او الفكرية او الاجتماعية او الاخلاقية وراثة وتركة وملكية وعقار متوارث ام ان الاصالة الشخصية والادبية هي حالة خلق كالفن والادب والحب والامل والعمل والهوية؟ اذا كانت الاصالة ملكية منقولة كما يشير الاعلان السابق( وهو بالمناسبة نمط تفكير معروف ومسيطر) فلا حاجة للابداع الانساني بكل وجوهه لأن رصيد الاصالة جاهز ومتوفر ومعد سلفا وهو النمط القائم اليوم في السياسة وفي السلطة وفي المجتمع، والاصالة الجاهزة كقلادة ذهبية توضع على رقبة خنزير او كباقة ورد على مرتفع قمامة لأن الاصالة كالهوية الفردية ليست معطى ثابت الخواص بل تكتسب قيمتها في  البحث والجهد والمشقة والاكتشاف والفعل والارادة والاختراع ايضا، وهي ليست في الماضي الجاهز بل في الحاضر والفعل الخلاق وهي استمرارية وتراكم معرفي: هي اصالة برنادشو حين قال ردا على كلام لشخص بيروقراطي منفوخ أنَّبه على حضوره الحفل "لأنك بلا أصل" فرد عليه برنادشو:" شرف عائلتك انتهى بك وشرف عائلتي بدأ بي" وهي بلاغة الخلق في مواجهة سفاهة الوريث وبلادته، جدارة المبدع في مواجهة المتعكز والتنبل.

 

الحماقة ملهمة ايضا، بتعبير ميلان كونديرا، فليست الاحداث الكبرى هي التي تلهم العمل الفني والادبي والتاريخي ولكن الحماقة تحرك قوى وافعالا وتخلق أحداثا كبرى وعلى سبيل المثال كم عدد الملوك والامراء الذين خُنقوا في وسائد نومهم من قبل زوجات او عشيقات غاضبات غيورات؟ وكم عدد الرؤساء العراقيين الذين حكموا البلد بلا انتخاب ديمقراطي حقيقي ومع ذلك صنعت هذه الحماقة تاريخا من الدم والالم سيستمر ذكره لقرون قادمة؟ بل كم من الاعمال الادبية العالمية كتبت تحت تأثير مصادفات وحماقات واحداث عابرة؟ من لا يريد ان يصدق عليه قراءة الكتاب المثير والممتع:( كتابة الرواية من الحبكة الى الطباعة، لورانس بلوك) وغيره من كتب الصنعة والتخيل.

 

كم من حماقات مثلا غيرت وجه التاريخ ومنها حالة مروان بن محمد بن مروان الملقب بمروان الحمار آخر خلفاء بني امية حين انتبذ ركنا منعزلا في قلب معركة حامية الوطيس وهو قائد الجيش لكي يبول ومات فوقها بسهم مترصد؟ اذا كانت بولة مروان قد شكلت نهاية امبراطورية مع ان عوامل النخر والفساد والتآكل قائمة في صميم الدولة، فإن قميصاً ناقعاً بالدم قد شطر التاريخ الاسلامي حتى اليوم حين أستُعمل قميص الخليفة عثمان القتيل كذريعة في صراع السلطة كما يستعمل اليوم قميص رفيق الحريري. ماذا كان سيحدث لو قُبض على لينين قبل ليلة الثورة؟ ماذا لو اكتشف تروتسكي محاولة اغتياله مبكراً؟ وماذا لو ان سيارة مسرعة دهست الدكتاتور السابق قبل دقائق من الانقلاب أو أنه قُتل تلك الليلة في تقاطع نيران سكارى منتصف الليل؟

 

هل نمضي في رصد تاثير الحماقة على التاريخ ومن ينتج الاخر؟ ام نستمر في الكلام عن الاصالة المكتسبة والموروثة وهي الشكل الأكثر سخرية للحماقة؟ قال الامام علي صراحة "سأركبن بكم الاهوال" في خطاب الحكم الشهير وهي صراحة رجل عقيدة ومبادئ وليس رجل سياسة ولم يقل لهم سأفرش الطريق بالزهور عكس خطاب الحكم اليوم الواعد بالسمن والعسل والربيع المبكر أو خطاب الحماقة القائم على الاصالة المكتسبة المصرفية او الحزبية او العائلية او العقارية أو الكهنوتية المؤسسة على التراتبية والاسبقية وليس على الخلق والابداع: سمعت سيدة عراقية تتحدث في مقابلة عفوية قادمة من صندوق الاقتراع بالاصبع البنفسجي قائلة إنها صوتت لفلان الفلاني لأنها تعرف أمه الفاضلة وتسمع بجده وتعرفت في الزيارة على واحدة من أخواته وكلهن، تقول السيدة فرحة بهذا الاكتشاف الثمين، من حسب ونسب واصول والخ وهذه هي كل مؤهلات المرشح الموكول بتغيير التاريخ من وجهة نظر هذه الام التي اذا أعدت جيلاً على طريقتها، لأعدت فصيلة محسنة من بعران السياسة.

 

حين لا تكون الاصالة ـ كل أنواع الاصالة ـ خلقا وابداعا وجدارة ومشقة، تكون عبأ وتزويراً وانتحالاً. على ذكر الانتحال: اين نضع مثلا ظاهرة المنتحل العباسي خلف الاحمر و صاحبه حماد الراوية وهما بشهادة طه حسين من أشهر المنتحلين في تاريخ الادب العربي حيث نسبا قصائد منتحلة على لسان شعراء عرب كبار كانت من نظمهما وأحدثا ارباكاً في الشعر والتاريخ لم ينقطع حتى اليوم. لكن هل  انتحالاتهما خالية من الخلق فعلا؟ من يستطيع مثلا وضع لامية الشنفري كما فعل خلف الأحمر بكل تلك القوة والمتانة والرصانة اللغوية كما اعترف بنفسه للاصمعي لو لم يكن يملك قدرة بناء اصالة حية قائمة على اللغة وتاريخ الادب والنظم والحس والذوق وفي النهاية الاحتيال؟

 

كلما تذكرت تاريخ خلف الأحمر وانتحالاته الجميلة والمبدعة وحماقاته الخالقة، أتذكر حال المنتحلين في عالم اليوم وهم صورة تتجاوز الحماقة الى ما بعدها ولا نعرف ماذا     بعد الحماقة؟ اليوم وبدون موهبة خلف الاحمر اللغوية وقدرته الاسلوبية وثقافته الموسوعية في تاريخ الشعر العربي يستطيع اي منتحل أدبي لا يفرق بين حرف الالف ورقبة الناقة أن يقود قطيعا من المثقفين والادباء ويخلق ما يريد فيهم من انطباعات عن نفسه وعن الاخرين وعن اعماله الخرافية بل يجعل بعضهم يصدق( إما عن خواء المتلقي أو المضي مع الحماقة أو لغياب تقاليد نقدية رصينة) بكون هذا المنتحل أو ذاك هو فلتة الزمان والمكان لأن الحماقة البليدة تعمي البصر والبصيرة ولا تكون حماقة ملهمة كحماقة خلف الأحمر.

 

قد يكون ديستوفسكي سيد رصد هذا النوع من الافعال الانسانية الغادرة والخفية حين وضع في بال راسكولنيكوف شخصية "الجريمة والعقاب" ان قتل العجوز فعل لا قيمة له لأنها فقط عجوز والأهم هو المال وهي حماقة تأسست عليها أكبر جريمة متخيلة في التاريخ يتذكرها العالم بحرارة أقوى وبتفاصيل أوضح من جرائم حقيقية. إن رواية ميلان كونديرا( كائن لا تحتمل خفته) جاءت بعد غزو الاتحاد السوفيتي لبراغ في آب 1968 ، واذن ليست حماقات الافراد ملهمة وحماقات التاريخ فحسب بل ان الايديولوجيا التي تنسف كل اصالة ذاتية إلا اصالتها المشوهة والمفروضة تكون هي الاخرى ملهمة حين تبلغ ذروة الحماقة وذروة السخرية وذروة الوحشية.

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

 

مقالة للكاتب والروائي

حمزة الحسن

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال