<%@ Language=JavaScript %>  حمزة الحسن لكي لا تكون المشانق بديلاً عن الحقائق

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

لكي لا تكون المشانق بديلاً عن الحقائق 

 

حمزة الحسن

 

بين وقت وآخر تُطرح قضية اعدام جديدة لمسؤول في النظام السابق وينحصر الجدل السياسي في ثنائية عراقية شهيرة قديمة ومتجددة: هل يستحق او لا يستحق الاعدام؟ كما لو ان القتل، في التقليد السياسي العراقي، هو حلاّل قضايا النهج والسلطة والحرية، أو اننا نتحاور في مسلخ، مع ان الأمر لا يتجاوز نزعة انتقام تبرقع ببراقع سياسية وغيرها، والدليل على ذلك ان القتل على خلفيات كثيرة صار تقليدا معروفا منذ الاحتلال وحتى اليوم، والذين قُتلوا "على جلودهم" وبعضهم من ضحايا كل الانظمة السياسية يصرخون بالدليل على هذه الجريمة.

 

منذ سقوط الملكية وحتى اليوم عاشت اجيال عراقية تجربة وضع الحاكم ومن معه أو المتآمر، حسب التفسير المعروف، على حائط او فوق منصة شنق، لكن التاريخ السياسي الدموي، كما تأكد، لم توقفه رشقة رصاص ولا حبال الشنق التي صارت في مرحلة من المراحل نشيداً جماهيرياً يطالب بالحبال ضد المتآمر وقوى الثورة المضادة والخونة وغيرهم الذين يتناسلون في كل مرحلة ويعاد تفسيرهم وتسميتهم في كل حقبة بصياغة مختلفة في تبادل غريب للأدوار.

 

كثيرون كانوا يتصورون خلال فترة الاحتلال الأولى، بدوافع ومشاعر واسباب مختلفة ومتناقضة، ان تكون هناك محاكم نهج علنية تكشف للشعب العراقي صاحب القضية طرق واساليب الحكم وأسراره خارج المحاكم القضائية عن طريق فتح حوارات مع مسسؤولي النظام السابق في مناخ سوي وآدمي وديمقراطي صافي النية لغرض الكشف عن الحقائق، أولا، وثانيا، من أجل الدرس والعبرة والتاريخ، وثالثا، هناك جانب تربوي اخلاقي وتعليمي في الأمر أمام أجيال عاشت في ظروف وحشية سوداء في منتهى القسوة والاذلال والتعتيم، لكن نوايا الاحتلال واهدافه كانت في مكان آخر حين شكّل قبل الاحتلال وفي الخارج لجنة قضائية مدربة تدريبا سياسيا على محاكمة" جنائية" لقادة النظام وكان من أولى المحظورات التي دُربت عليها تلك اللجان تجنب الخوض في قضايا سياسية نهائيا ولم يجرؤ القضاة على تجاوز الأمر سوى القاضي الذي حاول، متردداً، أن يوحي للرئيس السابق في القفص بأنه لم يكن دكتاتوراً لأن الناس تصنع الدكتاتور، فطُرد، حالاً، لأنه عبر المحظور الذي سيقود بدوره الى فتح حصن الاسرار والدهاليز والشركاء وهم كثر هنا وهناك.

 

أغرب من ذلك كان قادة النظام السابق يحاولون تحويل المحاكمات الى محاكمات سياسية، وهو أمر صحيح بصرف النظر عن الغايات، لكن المحاولة تقمع في كل مرة مما أعطى انطباعات بأن المحكمة خائفة أو غير عادلة أو متواطئة في اخفاء حقائق عن الشعب مع ان الذنب لا يقع على المحكمة بالدرجة الأولى ولكن على الاسس والغايات والمشرعين لهذه المحكمة الذين أرادوا لها أن تكون بعيدة كل البعد في كونها محاكم نهج وعقلية وادارة دولة الى محاكم اذلال وتجريح واخزاء وتضييع وقت وفرص وحقائق وقنابل دخان للالهاء والمشاغلة في أوقات امنية واقتصادية صعبة وفي لحظات تململ جماهيري على تدهور الأوضاع.

 

ليس هناك ما يستوجب الخوف من محاكم نهج فكرية علنية بين قادة النظام السابق ونخبة وطنية من الخبراء والمثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي بل وحتى شرائح من الجمهور العام في مناخ آمن وفي نطاق محدد ومفتوح، وكان يمكن من خلال ذلك معرفة الكثير عن طرق ادارة الدولة والسلطة، وليس المقصود الكثير من الأسرار بل المقصود العقلية التي تدار فيها السلطة، وكان يمكن ان يكون ذلك مهماً جداً لمعرفة تتجاوز التاريخ والوثيقة الى معرفة كيف يمكن أن تدار الدولة والسلطة اليوم بالمقارنة والاستنتاج لكي لا يتكرر التاريخ، ولكي تُسحب المبادرة من حيطان الرصاص وقاعات الشنق الى قاعات النهج والحوار الفكري ومحاكم الأداء والعقلية والتصور والذهنية، كما ان محاكم النهج تمنح فرصة ثمينة للقانون والرأي العام والأجيال الفتية كتمارين على العدالة واحترام الكرامة الانسانية ومن ناحية الانصاف وتجنب وضع الجميع في ورطة واحدة أو في جريمة واحدة.

 

إن عقلية اذلال المتهم لا تصدر ابداً من فرد يؤمن بالحرية والعدالة والديمقراطية، ولا يمكن أن يكون المرء مؤمنا بالحرية وفي الوقت نفسه عديم الحساسية وجبانا( الشراسة جبن مغطى) أمام الكرامة الانسانية، ولا يمكن أن يكون وطنياً ومتهتكاً وخليعاً ومستهتراً لأن الوطنية تتغذى من النبل ومن الشهامة ومن السمو والشجاعة وأناقة الروح، خاصة لمن يطرح نفسه كمشروع مستقبل ومحتج على الظلم، ولا يمكن أن يكون عادلاً وشرساً لأن الشراسة والكلبية  والافتراسية والنهش اعراض مرض السلطة والدكتاتورية والغلمنة السياسية، على الرغم من أن هذه الاعراض، الشراسة والغلمنة والكلبية والسلطوية ونعرة الاستئساد الذكورية وغيرها من الرذائل، تُفسر، في تقاليد السياسة العراقية، على انها من مستلزمات القوة والفحولة والسيطرة ومن صفات( الرجل القوي) وهو الغرام المستمر في الخيال الشعبي العام بناء على أساطير التاريخ والثقافة وغياب البدائل وليس المؤسسة القوية.

 

إن دكتاتوريات أمريكا اللاتينية، مثلا، التي تتهاوى اليوم واحدة بعد الأخرى، لم تسقطها الاحزاب السياسية بما في ذلك المسلحة، بل أسقطها الروائيون والمثقفون والفنانون والكتاب حين قام هؤلاء وبجهود مضنية وشاقة ومبدعة على مدى عقود بتفكيك الالية الداخلية للدكتاتورية واعادة صياغة السلطة في الخيال العام وكان الثمن باهظا: ان الروائي البرازيلي جورج أمادو والروائي الارجنتيني أرنستو سابتا والروائي البيروفي ماريا يوسا والغواتمالي ميغل انخيل اوسترياس والكولومبي ماركيز والمكسيكي كارلوس فوينتيس، وبابلو نيرودا وازابيل الليندي من تشيلي والشاعر والراهب أرنستو كردينال النيكاراغوي وغيرهم  قد حفروا قبر الدكتاتوريات وشركات النهب وفضحوا الطبيعة الوحشية لتحالف السلطة والمال والتخلف والصمت ومن خلال أعمال تجاوزت المكان المحلي لتصبح قضايا محورية عالمية في الوعي العام وفي الضمير الانساني، ومع مرور الوقت لم تجد الانظمة الدكتاتورية البيئة والحاضنة والمناخ والثقافة والتقاليد السياسية ملائمة لسلطة طاغية. 

 

في الاتحاد السوفيتي كان الروائي إيليا إرنبورغ من الذين قاموا بمحاكمة نهج المرحلة الستالينية في روايته الشهيرة(ذوبان الثلوج،1956) التي صادق عليها المؤتمر الخامس والعشرون للحزب، وكذلك الروائي بوريس باسترناك من خلال روايته(الدكتور زيفاكو) التي فُسرت من قبل سلطة الحزب الثقافية والحزبية على انها عمل ضد الثورة والطبقة والتاريخ وتم طرد باسترناك من عضوية اتحاد الكتاب بعد فوزه بجائزة نوبل لأنه رفض ان يكون بببغاءً في قفص كما قال أحد الكتاب، ثم حملة تشهير عاصفة جعلت باسترناك يرحل الى الريف وحيداً في عزلة تامة ويموت ويدفن من قبل عدد من ريفيي المنطقة الذين تبادل معهم الحب والامل والصداقة والعزلة وقد حملوا معهم مسجلة مع شريط موسيقى جنائزية للموسيقار باخ، تحت المطر، وشاهدة رخامية كُتب عليها بناءً على وصيته هذه العبارة:( الحياة ليست نزهة في حديقة) وهو مقطع من قصيدة له.

 

كنا نأمل من النخبة المثقفة العراقية أن تقوم بالدور نفسه كالنخب العالمية في مراحل تسبق المنعطف أو تأتي بعده (النخبة الاسبانية، مثلا، في مرحلة فرانكو، النخبة البرتغالية في مرحلة سالازار، الألمانية في نهاية النازية، اليونانية بعد الانقلاب الدكتاتوري... الخ)من خلال محاكم نهج فكرية وادبية تصفي الحاضنة والوسط والرحم لولادة الدكتاتورية، ولكن ظهر ان شرائح كبيرة من هذه النخبة ليس عندها اعتراضات جوهرية قابلة للتدوين غير اللعن والفتك والشتم، وهو في الجوهر والعمق خطاب سلطوي بلا مشروع، وان كل ما كان يقال عن مشاريع ثقافية مضادة تحت الارض لم تكن كما تدل تجربة السنوات السبع الاخيرة أكثر من احتجاجات عرضية عابرة لم ترتفع الى مستوى محاكم نهج كبرى مؤسسية مما ترك المجال واسعا للنخب السياسية في تولي الامور وتصفية حساباتها باستعمال الألم العام والمظالم الحقيقية كشعارات جديدة للسيطرة.

 

ان محاكم النهج ليست محاكم حبال ورصاص ومن يملك كمية من الحبال والرصاص سيكون عنده الوقت الكافي للاستعمال والاهداف كثيرة ومتغيرة ومتجددة ولن يكون محتاجا لصناعة عدو أو الانشغال بتعريفه لأنه حاضر دائما ولكن ذلك لن يحدث قطيعة بنيوية مع الماضي الدكتاتوري بل بالعكس سيشحن الذاكرة والخيال العام بقوة الانتقام وتكرار النموذج لأن الاجيال العراقية المتعاقبة حتى اليوم لم تجد نموذج محاكم غير نزعة التصفية الجسدية عند نهاية كل سلطة في حين تظل العقلية وهي المحرك الرئيس للدكتاتورية تتغذى من موروث الكراهية والثأر وعقدة السيطرة والتحكم وذهنية الحيازة وثقافة القصاص وليست المراجعة.

 

نحن مع محاكم جنايات في كل وقت بل كنا سنطالب بها ولكن ليس على حساب محاكم النهج ولا يمكن أن تكون بديلا عنها لأن تلك الجرائم ارتكبت باسم السياسة وباسم ايديولوجيات مستمرة وتحت عناوين فكرية وعقائد،كما اليوم، وباسم قناعات وانظمة تفكير. بعض تلك العقائد والافكار والقناعات المتجذرة لا تعود الى هذا القرن ولا الى قرنين بل الى أزمنة قديمة لا يطالها الرصاص ولا الحبال بل محاكم نهج تنفتح على السلطة والموروث والمجتمع الأبوي المنتج المستمر للدكتاتورية من خلال عقلية الخضوع والخشوع والرهبة والاستسلام الكلي بذرائع الطاعة المحرفة، مع ان مفهوم "الطاعة" نفسه مشروط في الأديان بالحق وحين لا يكون كذلك يصبح العصيان واجباً مقدساً، بل تكون الطاعة بلا حق نوعاً من الكفر ـ ليس هذا الموقف جديداً اذ طالبنا به مبكراً قبل الحرب وتكرر بعد الاحتلال في كتابنا:" الامبراطور الحافي: أوهام القبض على الدكتاتور. فصل: محاكم نهج، 2005".

 

ليس سؤال النخبة الثقافية والفكرية والعلمية الان من الذين قتل أكثر أو سرق أكثر أو ظلم أكثر لأن هذه حسابات عطارين وأجراء وجباة ضرائب لأن الأصل هو المبدأ وليس الكم، وهذا الواقع المريض والمشوه صار يتكرس كل يوم حين تم ضخ نخبة مصنَّعة نفعية الى سوق التداول الثقافي والاعلامي والسحب من الشوارع الخلفية ومن مخزون النفايات الثقافية ومن حثالات الحانات لكي تتم  عملية خلط الاوراق ويتداخل النشيج بالجعير ويرتفع صوت العربات الفارغة على الينابيع في منظومة بلبلة مرتبة ومعدة ومهيكلة، وتكون النتيجة هيمنة غرائز القتل وهتافات السحل والابادة بالاسلوب القديم نفسه وللاسباب نفسها ولم تتغير سوى بعض ملامح الجلاد المغروز في البيئة والتاريخ والعقائد والعرف والخيال والذاكرة والواقع وغياب القطيعة المعرفية ـ نستثني من ذلك النخبة الباسلة الاعلامية الحقيقية الاصيلة التي قدمت في سبع سنوات أكبر عدد من شهداء الكلمة والرأي في العالم.

 

ان الاندفاع الأهوج لشرائح معروفة من أهل القلم كجزء محرض في حملة الاصطفاف والاحتراب الأهلي، وتحولهم الى مهووسي عقاب وقتل وضغينة وتمييز عرقي وديني ومذهبي وسياسي، وغالبية هؤلاء من المرضى والمأجورين والمهتوكين والمعتوهين الذين تمتليء بهم مصحات العالم العقلية لكنهم يضيعون في مشهد الجنون العام، هو جزء مركزي من مناخ الجريمة المستمرة: هؤلاء لا يقلون بشاعة وخطورة عن اشباههم القتلة وقاطعي الرؤوس لو امتلكوا الوسيلة والفرصة من دون حاجة الى ذريعة.

 

إن التساهل " التواطؤ الصامت" مع هؤلاء الذين يعيثون فسادا وتخريبا وجريمة كل يوم بحجة الاحتقار أو الاهمال أو الكبرياء الخاص وغير ذلك من الذرائع الواهية هو نوع من صب الزيت على النار لادامة الحريق ، لأننا من واقع التجربة الملموسة رأينا كيف يتصرف أصحاب "الكبرياء" الخاص والاستنكاف من ملاحظات عادية ووجهات نظر فكرية أو سياسية تخصهم وحدهم حين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها حتى لو كان الحوار يدور في أمكنة ضيقة وخارج المنابر.

 

ليس هذا هو الدافع لترك هؤلاء يشاركون في ادامة الحريق والمجزرة وبناء المسلخ بل هو الجبن والخوف من المواجهة إن لم تكن رغبة عميقة في التكسب من الدم العام الذي صار مصدر رزق وحساباً مفتوحاً لمرتزقة من كل الاصناف في بلد مفتوح للجميع كأفخاذ الأرامل المغتصبات، كأبواب المباغي، كالحدود، كالسجون، كالأفق الدامي، المخابرات الأجنبية، الجيوش، الأسلحة، السموم، البضائع الفاسدة، الكوابيس: وطن مفتوح كقمصان اليتامى في الشوارع.

 

hamzaalhassan@hotmail.no

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

 

من مقالات الكاتب والروائي

حمزة الحسن

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال