<%@ Language=JavaScript %>  حمزة الحسن عكَّازة السلطة: تلقفوها تلقف الكرة

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

عكَّازة السلطة: تلقفوها تلقف الكرة

 

حمزة الحسن

 

كيف مرّ حدث ترشيح السيد القاضي حسين الموسوي لرئاسة الجمهورية أو ما تسمى كذلك في الدفاتر المدرسية والسجلات الرسمية، بهذه السهولة، ومرق من بين الاحداث مروق الضوء من غربال؟ قد يكون السبب في ان العراقي من كثرة العجائب والغرائب قد تكوّنت عنده واقية صدمات والغاز وأعاصير ومنعطفات من كل الأنواع تمنع تسرب الدهشة والتأمل وصار مستعداً لهضم الزجاج والحجر لأن الدهشة تزول بعد زوال البراءة ومنطق الحوادث وعفوية الاشياء.

 

ليس هناك من شك في كون السيد القاضي أراد كما هو واضح في نص أو خطاب التعريف الذي القاه من المنصة(في حين كان النص الحقيقي لخطاب التنصيب تلك اللحظات جاهزاً في جيب السيد الطالباني) أن يكسر احتكار المناصب السيادية كما قال وأن يحرض أو يحفز في محاولة وصفها جدية للقضاء على عقلية المحاصصة، ولكن الخطاب أو النص الراقد في جيب الطالباني، تلك اللحظات، كان يكذب خطاب القاضي بل يسخر منه، وهو دليل فكاهي على مقولة معروفة في الفكر المعرفي الحديث على ان خطاب السلطة يحتجب ويتوارى خلف اقنعة ومؤسسات وأفعال ولكن لم يخطر ببال خطاب المعرفة الحداثي القول في كونه يتوارى داخل جيوب لأن الحداثة اليوم تجاوزت هذه الرذائل الفجة في السياسة وفي غيرها.

 

السيد القاضي عضو محكمة تمييز الجنايات العليا اراد من خلال  نص ـ خطاب الترشيح أن يتحدث عن ثلاثة أزمنة عراقية وأن يقترح مشروعا لتغيير ثلاثة أزمنة أيضا لكن فاجأه السيد أسامة النجيفي( الشهيد الحي)حين طلب منه الاختصار بل الاقتصار على البطاقة الشخصية(لضيق الوقت) لأن السيد النجيفي يعرف والجمهور الحاضر والمتفرج أيضا يعرف ان ترشيح القاضي لمنصب الرئاسة كتنصيب حاخام يهودي لموقع ديني في النجف أو التبشير للبوذية في كربلاء.

 

 إن الفرجة( مجتمع الفرجة:كتاب للمفكر الفرنسي جي ديبور) مكتملة والجميع سواء الحضور في القاعة أو على الشاشات كانوا شركاء في حفل وهم حقيقي لأن الصورة الحديثة التي تنقلها وسائل الاعلام لا تشترط أن تعكس "الحقيقة" كما هي بل تعكس "الواقع" الذي يقدم على انه الحقيقة: بمعنى أدق، حسب مجتمع الفرجة، تصبح الصورة وليست الحقيقة هي الهدف وتتلاشى الاخلاق والقداسة ويتحول الوهم الى حضور مفروض وصلب وواقع مشرّع له في قانون ومؤسسات وقوى.

 

سواء داخل وخارج القاعة كان الجمهور المتفرج يعرف ان محاولة القاضي في الفوز بمنصب الرئيس كمحاولة أعمى القفز بالمظلات لكن الاجماع العام من المتفرجين هو الحوار الداخلي غير المصرح به: هذا الحوار الداخلي كان يقول عكس الصورة التي تحاول أن تنتج وهم الديمقراطية دون مراعاة الجانب التربوي والاخلاقي والتعليمي لجيل من العراقيين الشباب والاطفال يشاهدون ما يفترض انه ممارسة ديمقراطية حقيقية وهي في واقع الحال صورة مسرحية متفق عليها سلفا، وهذا الجانب التربوي المدمر هو الأخطر في هذه اللعبة لأنه ترحيل لمعنى السياسة المشوه الى أجيال جديدة على انها فن الحيلة والشطارة والكذب والبلف.

 

لم يتسع الوقت للسيد القاضي المرشح لشرح برنامجه ولكن الوقت يتسع للاخرين بل لثمانية شهور من الدم والعذاب والترقب لأن وقت القاضي ليس هو نفسه وقت الحضور: السيد الموسوي سواء كان صافي النية وأراد فعلاً كسر الحاجز وتعميق مشهد المهزلة بمبادرة شخصية منه أو بالايحاء كديكور متمم للفرجة كان، في الحالتين، قد جعل المشهد السياسي في غاية الفكاهة وهذه ليست السخرية بل المفارقة: المفارقة في كون القاضي المرشح يخطب( أمام حائط؟) في برلمان يعرف جميع أفراده ان هناك صفقة سياسية منتهية لمنصب الرئاسة وان السيد القاضي الموسوي رمى نفسه في بحيرة تماسيح أو في أفضل الاحوال في مشهد هزلي لأن نوايا القاضي الشريفة في كسر الاحتكار السياسي والطائفي والعرقي والخ التي تبدو جدية بالنسبة له هي مسخرة من وجهة نظر الحضور، والأكثر غرابة هي كذلك من وجهة نظر المتفرجين خارج القاعة أو غالبيتهم بكلام أدق، مما يعني أن مشهد الفرجة ذاك فاض عن مساحة المكان الى أمكنة أخرى بل أزمنة قادمة حين ستنظر اجيال قادمة سويِّة وحية غير معطوبة ومعافاة الى ما نراه نحن" عاديا" و" طبيعياً" على انه فاجع ومخجل ومذل.

 

بدون خطاب القاضي ـ المشهد الضدي ـ لم يكن من الممكن أن يكون خطاب الطالباني المعد والجاهز سلفا بهذا الوضوح أمام أجيال وأزمنة عراقية اليوم والى الأبد: هذه واحدة أخرى من بركات السيد الموسوي الذي يقتضي التقليد الديمقراطي الحقيقي عند عرض النتائج أن يتبادل التهاني مع المرشح الفائز ولكن هذا لم يحصل كما لو ان دور الموسوي قد انتهى وان دور الفائز، وهو الدور الوحيد، سوف يبدأ، بل ابعد من ذلك كانت هناك مشاعر سلبية عبر عنها السيد فؤاد معصومة حين قال إن الموسوي لم يقدم طلبا للترشيح من خلال البرلمان، كما لو ان كل ما قام به هذا البرلمان يمشي حسب القانون الذي، رغم ظروف تكوينه المعروفة، قد خُرق تماماً لأن منصب الرئاسة جاء عبر صيغ سياسية وليست قانونية حتى في اطار قانون مشرّع تحت هيمنة الاحتلال.

 

في مجتمع الفرجة الاستعراضي، بتعبير الفيلسوف الالماني بوريس جرويس" كل شخص يود أن يصير بطلا. الجميع فنانون. مع هذا تنشأ مشكلة: من المتفرج؟ إن كل هؤلاء المولعين بأن يعرضوا انفسهم، بأن يخلقوا استعراضاً، إنما يعتمدون على فرضية متخيلة: إن ثمة أحدا هناك". في مجتمع الفرجة، حسب جي ديبور، الحقيقي هو الوهم، الحقيقي هو الصورة وليس الاصل، التمثيل يصبح هو الواقع الوحيد، المهم هو الشيء الواضح وليست الحقائق المخفية، الواضح هو الحقيقي وهو الواقع، وحين تتعارض القداسة والحقيقة واليقين مع الصورة المرئية والكلمات المقروءة المركبة والملفقة، يكون الانتصار للوهم والإكذوبة المصنعة ويتلاشى اي أثر للحقيقة والكرامة الانسانية: هذه التفاصيل يعرفها أي دعي ومحتال يمكن أن يقود قطيعاً من المثقفين الى أهداف لا يعرفها غيره في استسلام طوعي عن كل استقلالية عقلية والتجربة اليومية مليئة بالأمثلة.

 

 هذا النوع من المجتمعات لا يحتاج الى الايمان بل الى التصديق: الايمان حوار مع الذات وقلق ومشقة وحين تلغى هذه يلغى الايمان، ويتساوى في ذلك التصديق باعلان عن فاعلية مكنسة كهربائية أو غسالة أو فرشة أسنان أو التصديق بخطاب أو عرض سياسي أو مشهد أو اكذوبة أو مشروع. التصديق لا يحتاج الى تضحية بل يُحرر منها لأنه مفرغ من الإيمان بل الى استهلاك ومتعة المرئي أو المسموع أو الشهي، ولا علاقة للضمير أو الشرف بالموضوع بل بالربح أو النصر حتى لو كان قائما على الخداع، كما سيكتب كتاب الفرجة فيما بعد بأن ذلك المشهد كان" نصراً للديمقراطية". علينا ألا نأخذ كلمة "نصر" هنا كما هي بل المقصود هو" الاتقان" والتمسرح لأن قاموس الفرجة هو قاموس سوق.

 

في عالمنا العراقي لا نحتاج الى وسائل اعلام عصرية متطورة لكي تحوِّل الانسان الى متفرج مستلب تعرض عليه وقائع مركبة ومدبرة ومختزلة، بل يستطيع أي دجال ومشعوذ ودعيّ أن يقوم بهذا الدور، خاصة وان هذا النوع من سلب الارادة يقوم على غياب أو شلل عقلي في طرح السؤال، لأن من مستلزمات تسليم الذات للآخرين غياب السؤال، ولا قيمة للحقيقة والصدق والشرف في الموضوع: يصبح الاتقان والاخراج الخادع للحدث هو الشرف والذكاء، تصبح الحيلة المنظمة هي الحقيقة، القيمة في الاقناع القائم على الخداع وليست في البحث، ومادام هذا الخداع يُعرض في نسق وصور ويُعزز بالشهود المختارين، فيسصبح التشكيك به نوعاً من الجنون والانحراف بل الجهل.

 

في المشهد الافتتاحي لجلسة البرلمان ظهر للجمهور المتفرج داخل وخارج القاعة، ان السيد الموسوي هو الشخص الوحيد غير الطبيعي( انقلاب المعايير في زمن الفوضى) وليس من المعقول ان تكون كل هذه الشخصيات المسؤولة والأضواء والزهور والقوانين والكلمات عن الوطن والاستقرار والحرية والعدالة والاخوة والتنمية والكراسي والجدران والشعارات والاحذية والديمقراطية والشوارب وغيرها من صنع الخيال او غير واقعية، وبدا السيد القاضي الموسوي كمخلوق فضائي واقع في فخ، أوكمتسلل الى مسرحية مكتملة النص والشخصيات والأدوار.

 

كرجل قانون وقف السيد الموسوي بكل تهذيب متعكزاً على سلطة القانون وشرح برنامجه بوضوح وعدد مؤهلاته في حين لم يتزحزح المرشح الآخر من مكانه إلا لالقاء خطاب السلطة متكئاً على عكازة السلطة لأن خطاب السلطة لا يحتاج الى جماهير، لأنه خطاب اكراه وفرض وصفقة واملاء، ولكنه يحتاج الى متفرجين و"النصر" فيه ليس نتيجة معاناة ومشقة وممارسة بل صفقة وقوة في غياب تام للجمهور لكن في حضور تام للمتفرجين وهذا أوضح مثال على احتقار الجمهور: حضور الجمهور حضور فاعلية وشراكة وحضور المتفرجين من مستلزمات الاستعراض والفرجة والديكور.

 

رغم الدور العابر الذي أداه القاضي على المسرح لكنه اثار سؤالاً كان مقرراً ألا يطرح: أليس من حق العراقي المستوفي للشروط الوطنية والمهنية والنزاهة أن يرشح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية في نظام يدعي الديمقراطية؟ أم ان هذا المنصب لا يحتاج الى جماهير مشاركة بل الى متفرجين من الصعب عليهم، في مجتمع الفرجة المركّب والاستعراضي، التفريق بين القاضي وبين الجاني، بين عكازة القانون أو عكازة السلطة؟

hamzaalhassan@hotmail.no

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

 

مقالات الكاتب والروائي

حمزة الحسن

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال