<%@ Language=JavaScript %>  حمزة الحسن  التفكير بالقاموس الأمريكي: أخطر من الاقتلاع  وأبعد من النفي

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

 التفكير بالقاموس الأمريكي:

 

أخطر من الاقتلاع

 

 وأبعد من النفي

 

 

 حمزة الحسن 

 

منذ سبع سنوات تجري عملية تصنيع وتسليع وتسويق للعراقي، بالمعنى الحرفي لهذه المفاهيم ، وهذه العملية تدار عبر وسائل اعلام كثيرة بقصد ومن دون قصد، عن نية مسبقة أو عن جهل، ولكنها في كل الأحوال عملية منهجية مدروسة لخلق صورة نمطية رغبية متعمدة وكل صورة من هذه الصور المسلعة المشوهة تخفي صورة حقيقة مخفية.

 

كانت عملية التصنيع الاولى: هي تقديم العراقي للعالم عبر وسائل الاعلام المرئية بصورة اللص الذي يسرق، ضاحكا، متبجحا، متباهيا، أمام العدسات ـ خلف هذه الصورة كان يتستر اللص الحقيقي الأكبر والمخطط الأول للأحداث بما في ذلك الاحتلال. عملية التصنيع الثانية: هي تقديم العراقي الارهابي ـ خلف هذه الصورة تكمن الصورة الحقيقية للارهابي الحقيقي المتخفي وهو المحتل وأعوانه. الصورة الثالثة المزورة: هي تقديم العراقي على صورة المسؤول السياسي الطامع والطامح بالسلطة عديم الضمير والحس على حساب شعبه ـ خلف هذه الصورة تختفي الصورة الحقيقية لمناضلين عراقيين شرفاء ويتم اختزال الساسة بهذه الصورة المسوقة،أولا، وثانيا، تختفي خلف هذه الصورة المصنعة السلطة الحقيقية للبلد وهي سلطة مسلحة بكل أنواع السلاح والقواعد والعتاد والأفراد. الصورة الرابعة: هي تحصيل حاصل وتراكم الصور السابقة وهي الأكثر تزويرا وتقوم على هذه الحجج: بما ان هذا المواطن لص تاريخيا، وارهابي أو مشروع ارهابي اذا توفرت الاداة والوسيلة، وبما ان قادته وزعماء بلده غير حريصين على وطنهم كما يحرصون على مصالحهم لذلك فإن الانسحاب من بلد كهذا ضرورة اخلاقية وسياسية وحربية ـ خلف هذه الصورة المزيفة تختفي قواعد عسكرية بمواصفات كبرى وعالمية ومنظومات حربية وعتاد وجيش يكفي للسيطرة المسلحة والسياسية وفرض الهيمنة الاقتصادية وغيرها من اشكال الهيمنة.

 

لكن الأخطر من عملية تصنيع هذه الصور المزورة والملفقة والمشوهة عن العراقي هو تحولها الى سلعة، عراقياً، قبل أن تكون الصور النمطية الشائعة في الخيال الانساني العام، بل صار العراقي يتعامل مع العراقي الآخر المختلف وغير المتطابق وغير الشبيه على اساس هذه الصور وحدها، وبتعبير جارح وموخز صرنا ننظر الى انفسنا ليس على اساس الهوية والتاريخ القريب والبعيد والوطن والارض والدين والثقافة والتقاليد والاخلاق والأمل المشترك بل على اساس القاموس المصنع والصور المسلّعة عنا: صار العراقي يتكلم ليس بلغته ومعاييره ولكن بلغة القاموس المرئي واللغوي المصنّع وهو شكل من اشكال النفي والسيطرة وقد تمت هذه العملية على مدى سنوات من تسويق الصور والمفردات الغريبة على البيئة العراقية.

 

من كثرة التكرار وتعدد المصادر جرى خلق مفهوم المرايا المشوهة أو المقعرة التي لا تعكس كل الصورة بل الصورة المنتقاة والمشتهاة والمرغوبة، ويختفي من هذه الصور المزيفة كل شكل من اشكال الحياة السوية والجمال والأناقة والموسيقى والفن والعقل والحكمة والتدين الراقي والالتزام الرفيع والصفاء الانساني في صوره المعروفة لنتحول، كما في الصور النمطية المفبركة، الى لصوص وارهابيين وعديمي الضمائر وفاقدي الاحساس بالمسؤولية وتعيش نخبتنا الحاكمة في مكان ساحر وخلاب واسطوري في بحر من الدموع وحيطان الدم والغبار والفجيعة.

 

ان تسليع وتصنيع وتصدير هذه الصور الى الداخل العراقي هو تصدير لقاموس مرئي يقول أكثر مما يقول القاموس اللغوي المألوف، وهو الأكثر خطورة من تصنيع وتصدير هذه الصور الى الخارج لأن هذا الخارج يعطي الانسحاب الشكلي أو المظهري طابعا اخلاقيا بل يمنح الحرب صورة الفشل في التمدين واالتحضر والعقلنة وهي صورة اخرى مزيفة وليست حربا استعمارية من اجل مصالح باتت معروفة في العالم. ماذا نفعل مع لصوص وارهابيين وعديمي الضمير؟ هذا هو لسان حال الصورة الملفقة المصنعة عن العراقي وهي صور مختزلة منتقاة بل تم العمل على صنعها، واقعا ورمزا، ومنظمات وقوى ومؤسسات، حسب برنامج مسبق وجاهز وخطير.

 

ان صنع صورة مغايرة للعراقي غير التي عرفها عن نفسه وعن محيطه وبيئته تعني أكثر من الاغتراب وأبعد من النفي وأسوأ من التهجير وأرعب من الطرد أو القتل لأن هذا يعني مسخ الهوية الوطنية أولا، وثانيا، جعل العراقي لا ينظر الى ذاته من خلال مرآته بل من خلال مرآة عالمية اعلامية يراها كل يوم عبر وسائل اعلام متنافرة التوجهات والمرامي والسياسات والمقاصد وبالتالي يجد نفسه كل يوم امام سؤال الزعزعة: هل من المعقول انه لا يرى كل هذه البشاعة في نفسه وفي محيطه؟هل تكذب كل هذه الوسائل الاعلامية المتناقضة الاهداف؟ وبعد الاسئلة تأتي عملية زعزعة ما تبقى من يقين في الهوية والآدمية والوجود والمعنى والديمقراطية والكرامة الانسانية، وبعد الزعزعة تأتي لعبة داخلية نفسية هي تدمير ما تبقى من يقين بجدوى الاصلاح ومعنى السياسة مما يعني التسليم النهائي ان لم يكن الاستسلام واليأس والعجز والشللية والموت الداخلي مقابل حياة أخرى في القواعد وفي المؤسسات المصنعة الكثيرة.

 

عملية التدمير شاملة ومنهجية وهي تتجاوز الداخل الانساني لكي تصيب المكان العراقي: تصف الكاتبة نرمين المفتى قبل أيام على موقعها في الفيس بوك كيف انها تمشي في شوارع مكسوة باعلانات تحمل اسماء اجنبية، شركات، وبضائع، وصوراً، وغير ذلك لدرجة تعذر عليها التعرف على المكان الأصلي. اذا كان الأمر قد وصل الى هذا الحد مع كاتبة مثقفة وواعية بألاعيب تغييب المكان والمعنى والهوية، فكيف هو حال المواطن العادي البسيط الذاهل بين الأمن والحاجات والمخاوف والغارق هو نفسه بين اعلانات وصور واسماء واخبار وافلام تتحدث عنه بصورة مسلعة مصنعة ملفقة بدهاء واحترافية؟

 

ما لا يرى خلف مشاهد الموت والدماء هو الأخطر وهو عملية صناعة وطن بديل للعراقيين غير وطنهم الأصلي لكي يصبحوا غرباء ومنفيين فوق ارضهم لأن حضور الأرض هو حضور سيادة وليست علاقة ـ حضور استلاب أو نفي واغتراب: عملية طرد العراقي من وطنه ليست نفيه الى الخارج فحسب عبر التهجير والقتل والرعب وضياع الأمل، بل طرده من هويته ومن ذاكرته وخلق المجتمع الافتراضي أو الواقع ـ المجتمع الوهمي الذي ضاعت فيه الكاتبة نرمين المفتي كما ضعنا نحن جميعا فيه بوسائل مختلفة، لأن تشويه وتبشيع وتخريب الأمكنة وتحويلها الى انقاض أو على صور أخرى غير مألوفة يعني افراغ الانسان من الذاكرة وتحويل هذه الى حطام وصفر ومن نقطة الصفر، من الفراغ والوحشة والخوف، يعاد بناء هذا الانسان حسب المقاييس المطلوبة، وهو الهدف الرئيس من عملية" الصدمة" حيث لا يمكن بناء الانسان كما يراد ويخطط له الا بعد افراغه من محتواه وتحويله، كالامكنة، الى انقاض، ونقل الواقع الى مستوى الميثولوجيا ـ تلك هي الفوضى الخلاقة.

 

ان خلق الوطن الوهمي الافتراضي المصنّع يتطلّب ان يمشي الانسان في شوارع لا يعرفها أولم يعد يعرفها ولا صلة بينه وبينها وحدائق مزالة أو مخربة خارج الذاكرة ومحلات وأمكنة مزالة لا تمارس الذاكرة دورها في الاستعادة والمتعة والتذكر والصياغة والتمسك: انها أبشع من النفي وأخطر من الاقتلاع. النفي المكاني يعني غياب المكان في الواقع لكنه حاضر في الذاكرة، والاقتلاع يعني نسف المكان في الواقع. لكن ما يجري اليوم على أرض العراق هو نسف المكان في الواقع والذاكرة ونفي الانسان عن ذاته وهويته وتاريخه بخلق صور نمطية مريضة وملفقة ودفعه للتعامل معها بالتكرار والصلابة وغياب البدائل والجمود واليأس على انها الصورة الحقيقية الغائبة عنه كل تلك العصور وكُشفت له أخيرا تحت أحداث عاصفة: هذا هو الوهم المبرمج والمصنّع والمسلّع.

 

ان نظرة عابرة على كثير مما يكتب ويقال اليوم ويمارس لا يخرج عن هذه الصور النمطية المصنعة الا في النادر واي خروج عن هذه الصور والكلام أو الكتابة أو العمل نحو الأمكنة المشرقة في الماضي والحاضر وهي كثيرة ومتوفرة، واي محاولة للتفكير خارج (القفص) أو ( القاموس المرئي أو اللغوي) والتفكير من مناطق مختلفة خارج سيطرة القاموس المقطّر تقطيرا منهجياً بهدوء وسرية على مدى سنوات حتى تحول الى وعاء لغوي واطار فكري نفكر من خلاله وفيه وليس من خلال وعينا الذاتي المستقل، مثل هذه المحاولات إما ستكون وحيدة ومعزولة لأنها كمن يغني في مقبرة أو ستواجه بشبكة مصدات وموانع وعراقيل وحواجز محلية ودوي وتشويش لكي لا أحد يسمع أحداً بصوته الحقيقي ولا أحد يرى أحداً بصورته الحقيقية كما لو اننا مصادرون صوتا وصورةً وهذه العملية تكلّف بها كلاب محلية للتسويق والتقبل وهي كلاب مسعورة معدة وجاهزة للعمل بأجر أو بدون أجر لأن التشفي والانتقام والتنفيس عن الوضاعة صارت أجراً: هذه مقتضيات مصادرة السلطة والثروة والحرية والأمل ـ نحن نتكلم بالقاموس الامريكي الاحتلالي بوعي أو بدون وعي، ونناقش قضايانا به ومن خلال مفرداته، ونفكر في حياتنا من خلاله، لذلك نصل في كل مرة وأمام ابسط المشكلات الى طرق مسدود لأن القاموس نفسه مغلق، وهذا محو للذاكرة واللغة والهوية: هذا هو الاحتلال الأخطر.

 

ليست صورتنا الحقيقية اليوم هي صورة لصوص وليست صورة ارهابيين أو مسؤولين عديمي الضمير، بل صورة الشعب العريق والمقاوم عبر العصور والجميل والراقي والأبي والذكي والواثق، وعلى هذا الجانب الملغي والمحذوف والمختفي ينبغي التركيز، لأن الاحتلال ليس جنودا واسلحة فحسب، إنما هو عبارة عن مسرح واسع يعاد فيه تحويل وصناعة وتحوير وقلب الواقع الحقيقي الى مستوى النفي والالغاء ومعه الهوية والذاكرة وبعدها تسهل عملية السيطرة من الخارج لأن الداخل الانساني لم يعد يحتوي سوى الخواء والشك والفراغ: فراغ ووحشة الأمكنة ، وفراغ ووحشة الوعي، وفراغ ووحشة الطريق، وفراغ ووحشة اللغة والصورة والكلام والزمان.

 

 

حسب نظرية الواقع البديل الوهمي المصنع، صارت عملية افراغ العراقي تسمى امتلاءاً بالديمقراطية، ونفيه عن ذاته تسمى تحرراً، وطرده من التاريخ تسمى مراجعةً، بل صار قتله في اي وقت يسمى خطأ أو سهواً أو اشتباهاً: حين لا يعود العراقي يرى كل يوم غير تلك الصور المشوهة والمصنعة والمبرمجة عن نفسه وعن محيطه وعن تاريخه وقادته، تكون لعبة طرد العراقي، كل أنواع الطرد النفسي والمكاني والاخلاقي والاقتصادي والسياسي والتاريخي، قد تحققت، وسنكون غرباء نمشي على أرض لا نعرفها ولكنها تعرفنا كما يتعرف الرحم على جنين ميت.

 

hamzaalhassan@hotmail.no

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

 

مقالات الكاتب والروائي

حمزة الحسن

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال