إعادة إنتاج
"الحادثة" في السِّير الذاتية التقليدية من منظور نقدي تطبيقي
علاء اللامي *
تعريف الحادثة وجنس المقاربة : يقدم الناقد العراقي نصير عواد في
كتابه ( إعادة إنتاج الحادثة / دراسة تطبيقية في الكتابة السير
ذاتية / دار نينوى) مقاربة نظرية وتطبيقية على قدر كبير من الجدة
المفهومية، ومن التنوع في التقنيات المنهجية للمقاربة ذاتها، مما
يجعل عمله يتميز بميزات الانفتاح والبحث الجاد عن الأرضيات النظرية
الأكثر خصوصية، وبالتالي الأكثر ملائمة لميدان بحثه الخاص
بالكتابات السيروية ( المذكرات والسير الذاتية التقليدية )
ويجعله بالنتيجة أغزر فائدة في مسعاه للخروج بتأطير نظري واضح
المعالم والآليات المنهجية حتى وإن كانت تجريبية الطابع، وتجعله
أيضا متماسكا من حيث التكوينات الداخلية إلى حد معين. غير أن هذا
التقييم الأولى، على ما يوحي به ظاهريا من تقريرية وقطعية، لن يجعل
من السهل تماما البت بنوع الميدان أو الاختصاص الذي يتحرك في
أجوائه الكتاب، وسيترك المؤلف قارئه يتساءل - خصوصا في قسمه
التنظيري والذي يستغرق الثلث الأول منه تقريبا - إن كان ينتمي
للنقد المتخصص بروايات السيرة الذاتية الجديدة كجنس روائي، أم
للسيرة الذاتية التقليدية بوصفها تأريخا شخصيا، أم هو كتاب في
التاريخ و التأرخة العامة لا بل قد يجد المرء مندوحة لاعتباره
دراسة تحليلية وتطبيقية في مجال علم الاجتماع التاريخي.
يُعنى الكتاب كما يخبرنا المؤلف بالحادثة وتحديدا بنيتها، عناصرها،
أشكال ظهورها، أساليب استخدامها، و بما يوحي بتقديم مقاربة هي وسط
رجراج، أو حيز قلق بين فلسفة التاريخ والنقد الأدبي، والمؤلف
يقترب من البوح بهدف الكتاب الأول أو الأهم حين أن يلخص جانبا مهما
منه بمحاولة دراسة الحادثة لذاتها، منفصلة عن الأسباب والنتائج ،
عن الماضي والمستقبل، عن ثنائية الشكل والمضمون، غير إننا سنكون
على خطأ إن اعتقدنا بأنه سيقدم تنظيرا خاصا بالحادثة كفعل بشري
تاريخي من حيث هو فعل مكتف بذاته ولذاته، بما يقربه من الحركة
الفيزيقية البحتة لمخلوقات بشرية على الأرض. فهذا أمر أقرب إلى
المحال واقعا، دع عنك إنه غير ذي مغزى ولا جدوى منه علميا، بل
المقصود - كما نفهم من سياق التنظير و ممارسة التطبيق - هو محاولة
لتفادي إضعاف الخصوصية التي تسم الحادثة المنفردة وتصعيدها
إلى سماء التعميم الذي لا ينجو من التشبيح، فحتى الحوادث المعزولة
والمنعزلة – كما يستدرك المؤلف – والتي تتواطأ أطراف الصراع على
نسيانها لم تفنَ أو تُفْقَدْ كليا، وغالبا ما تتحول عند أبطالها
وضحاياها إلى جزء من المكون الثقافي.ومع ذلك، فالتعريف الجامع
المانع الذي يقدَم للحادثة باعتبارها " نحن " مع التقرير بأن( لها
قدرتها الخاصة والنسبية على التواصل والانقطاع وأن لها أسلوبها في
التشابه والاختلاف ولها حدودها الجغرافية والتاريخية ) وهي حين (
تُصنع بمعزل عن إرادتنا ستأخذ شكلها ومكانها حال وقوعها وحسب
الأدوار التي يلعبها الأفراد والمجموعات لتفتح بعد ذلك طريقا إلى
الثقافة العامة ووعيهم، تغتني بالإضافة والحذف وتعدد زوايا الرؤية
إليها .ص 15) تمنحنا فرصة مناسبة لتأمل المنطلقات النظرية
للمقاربة.
التأصيل النظري للمقاربة : تستغرق عملية التأصيل والتأسيس النظري
لموضوع الحادثة وإعادة إنتاجها في التاريخ والكتابات التاريخية -
كما قلنا - أكثر من ثلث صفحات الكتاب، تاركة ما تبقى منه لعملية
الدراسة التطبيقية لسبع نماذج من المؤلفات السيرية المختلفة نوعيا
من حيث كتابها ومتونها ومضامينها . وهي تقدم لنا، وتتقدم منا، عبر
نصوص مقنعة وذات حصيلة معرفية نقدية مفعمة بما يثير التساؤل ويرصن
عملية العرض والتحليل والاستنباط متوسلة في ذلك لغة بسيطة لا
ينقصها العمق والكثافة في مواضع تستدعي العمق والكثافة. ولعل أكثر
ما يلفت الانتباه، ويبشر بسياق جديد ومثمر في هذا الباب، و في هذه
المحاولة للتأصيل والتأثيل الأكاديمي، هو تلك الأمثلة التاريخية
التي يوردها عواد على سبيل التوضيح تارة والمحاججة تارة أخرى،
والتي تنتمي من حيث النوع إلى ما هو خارج المتناول عمدا، والمسكوت
عنه قصدا، في الدراسات ذات الطابع الأكاديمي " الرسمي"، فالمؤلف
لا يتحرج ، بل هو يستفز قارئه بأمثلة درج الجميع على السكوت عليها
و تناسيها بل وحتى المساهمة في "اغتيالها أدبيا" من خلال الصمت
عليها صمتا من الصعب تفسيره بغير الحجج الأيديولوجية والسياسية
البرغماتية أو من خلال – وهذا أفدح من الصمت ذاته – تشويهها
وتثليمها أو قصقصتها بما يخدم نوايا ومشاريع المقارِب والناقد وهي
سياسية ونفعية غالبا. فمن تعريج المؤلف على مثال حركة التمرد
الشيوعي المسلح في أهوار جنوب العراق - التي لم تجد من يتوقف عندها
غير الروائي السوري حيدر حيدر والذي اعتمد في كتابتها على تسجيلات
صوتية أجراها مع أحد أبطالها حين كان مقيما معه في جمهورية
الجزائر، تلك الرواية التي أثارت ضجة كبيرة قبل سنوات لأسباب ليست
من الأدب في شيء بل و رغم شحوبها الأدبي وارتباكها الداخلي، ونعني
رواية " وليمة لأعشاب البحر" - إلى الانتفاضة المسلحة في تموز
1963 التي قادتها مجموعة من العسكريين اليساريين الشبان والصغار من
حيث الرتبة بقيادة العريف الجنوبي حسن السريع وبعد أشهر قليلة على
انقلاب عسكري قام به عتاة اليمين القومي والطائفي العراقي - الشيعي
والسني معا – ضد الجمهورية العراقية الفتية، تلك الانتفاضة التي
دُرِجَ على تسميتها بانتفاضة معسكر الرشيد والتي شكلت فضيحة لجميع
القوى السياسية المتصارعة، وحتى لمن حسبت لصالحهم انتمائيا، والتي
يمكن وصفها بمحاولة عراقية "لاقتحام السماء بقبضات عارية "
باستعارة التشبيه الذي قاله ماركس عن ثورة كومونة باريس 18 آذار
1871، متوقفا عند تجربة "الأنصار الشيوعيين العراقيين " في إقليم
كردستان العراق في الثمانينات من القرن الماضي والتي شارك فيها
المؤلف مشاركة فعلية وخرج منها بجروح جسدية وأخرى غير جسدية. هذه
الأمثلة تمنح المقاربة النقدية لموضوع جدل الحادثة وتفاعلاتها
الاجتماعية وانعكاس تلك التفاعلات أدبيا وتاريخيا ( مع ضرورة
التذكير بالتفريق المهم بين التأريخ والتاريخ على اعتبار الأول –
التأريخ أو التتريخ كما يقترح المفكر العراقي الراحل هادي العلوي-
مخصوص بتسجيل إحداثات السيرورة التاريخية أي بتحويلها إلى النص
المحايث والمستغرق للحادثات المنتَجة والمعادة الإنتاج وباعتبار
الثاني – التاريخ - هو تلك السيرورة ذاتها في تجليها الفعلي
والزمكاني )، تمنحها نكهة نظرية متفردة وسمات منهجية سنتأكد من
فائدتها وإمكانية تثميرها حين ننتقل إلى القسم التطبيقي منها ولكن
بزيادة مهمة تتعلق باتساع التنويع الذي يقوم به المؤلف على أمثلة
أخرى لا تقل أهمية عن تلك التي أتينا على ثلاثة أمثلة منها قبل
هنيهة.
تمظهرات الحادثة : يبدو إن تجربة المؤلف الشخصية في الميدان
السياسي، قد أثرت بشكل مباشر، ليس على الجانب التطبيقي فحسب، بل
حتى على الجانب التأصيلي النظري فهو لا يكاد ينتهي من محايثةِ
حالةِ الحادثة " السياسية " هنا، حتى ينتقل إلى تشريح المثال
السياسي معبرا عنه بالفاعل الإنساني له شخصا كان أو جهة تضم مجموعة
أشخاص وقوى هناك. وهو، حتى حين يقوم باستدراج وتحليل الكتابة
الأدبية لرصد تمظهرات الحادثة التاريخية والمجتمعية فيها، إنما
يفعل ذلك من منظوره الخاص، وبحساب اقترابها أو ابتعادها عما هو
سياسي واجتماعي. وإذا كانت هذه السمة في منهجية المؤلف الخاصة
مفيدة في بعض الميادين، ولكنها قد لا تكون كذلك دائما، أو لنقل
إنها لن تكون بذات الفائدة في ميادين أخرى أكثر التصاقا بالأدب
منها بالشأن السياسي. إن المؤلف نفسه يهجس بهذه القناعة التي
نقولها هنا حين يكتب مثلا ( إن كثافة الأغراض التي تتكدس خلف قسم
من كتابات الأدب الشخصي ، أضعفت من إدراك المؤلف للقيمة الأدبية
لعمله والتي يدلنا تنوعها على أنها تشرب من مياه متشعبة في الفن
والتاريخ والأدب والجغرافية وتفاصيل الحياة اليومية المرتبطة
بحيثيات الحوادث . كتابات الأدب الشخصي وإن كانت مهمة للمجتمع
وللأجيال القادمة وخطابا يغني الحياة الفكرية والثقافية لكنها لم
تكن بأية حال أكثر أهمية عند المؤلف "السياسي مثلا/ الاستدراك
لعواد" من مواقفه المسيجة بالدم والخوف والسجون دفاعا عن مبادئه
الأيديولوجية ... هذا لا يعني أن حياة السياسي أو المثقف هي الأجدر
بالتدوين من الحيوات الأخرى ..ص 96 وما بعدها)
وإذا ما غضضنا الطرف عما سيثيره مصطلح " الأدب الشخصي " من
إشكالات مبررة، هي إلى الأدب أقرب منها إلى ميدان فلسفة التاريخ،
فإننا سنجد أن فكرة المؤلف العميقة، وربما غير المُقالة بمباشرة
أقوى، تذهب مباشرة إلى حيث تصبح الحادثة منطلقا لتفسير نفسها
اجتماعيا وتاريخيا ولكن بشروطٍ تمتُ بصلات إلى الذات الإنسانية
الفاعلة، أكثر مما تمت بصلات للشكل " الهيئة " الذي تجمدت فيه
كواقعة تاريخية في النثر التاريخي المألوف والعادي، وصولا إلى
تقديم فهم أفضل للسقف الأعلى الذي يبلغه المؤلف والشبيه بمحاولة
دمج الحدس بالمعنى الغائي للحادثة حين يقول ( إن ظهور الكتابة هو
الآخر يُعد حادثة مهمة في حياة المؤلف. ص97 ) ولن يمنعنا أي سبب من
تقرير أن المقصود بهذا الكلام هو الكتابة السيرذاتية التي ينجزها
أحد النماذج النوعية التي انتقاها المؤلف في القسم التطبيقي من
كتابه.
سبعة تطبيقات عملية : سبعة نماذج من الكتابات السيرذاتية البعيدة
عن بعضها من حيث المؤلف والزمان والمكان والهوية، اختارها نصير
عواد، مادةً لتطبيق تنظيراته التي سكنت القسم الخاص بالتأصيل
المعتمد، وتبدأ هذه التطبيقات بقراءة في كتاب رفعت السعيد " مجرد
ذكريات"، الذي لا يبدو أن المصادفة وحدها جعلته الكتاب الأول في
قائمة خيارات عواد لأسباب كثيرة، ويمكن ان نجد في العنوان الفرعي
ما يرشدنا إلى مغزاها فالعنوان يقول : رفعت السعيد : الذاكرة
الانتقائية وتهميش التفاصيل .كما نجد إشارة إلى ميله وانحيازه
البدئي للحادثة بوصفها الفعل الأول، من حيث هي، وبكل خصوصيتها
وانعزالها عن سوها وعن مواصفاتها المضافة والمكتسبة الأخرى، من
خلال استشهاده بمقولة جورج لوكاش التي قدم بها للفصل الخاص بمذكرات
رفعت السعيد والتي تقول ( إن كل ما حدث في التاريخ باق ، ولا شيء
يفقد.) والتي تشي بهاجس و خوف المؤلف من كل ما يؤدي إلى تضبيب
وتثليم وتوظيف الحوادث بما يخرج بها عن حالتها ودورها التاريخي
والاجتماعي، لينتقل المؤلف في الفصل التالي إلى قراءة مذكرات
إدوارد سعيد معتبرا إياها، وعن صواب لا ينكر لكنه أكثر ابتسارا
معرفيا مما يتمنى المرء، حكاية المكان في ذاكرة الفلسطينيين .وقد
توقف عواد عند تقنية التذكر والتوصيل التي يعتقد بأن سعيد اعتمدها
طريقا لبناء مذكراته ص 152 .
النموذج الثالث الذي اختاره عواد جاء من ميدان حياتي مختلف نوعيا
فهو مذكرات رجل دين معروف هو الشيخ يوسف القرضاوي المعنونة "
مذكرات ابن القرية والكُتّاب"والتي يرى المؤلف بأنها مثالا على
التقنيات المتناقضة التي يكتبها أشخاص تقليديون يبدأون أحيانا بوضع
المحرمات والمحاذير والقواعد والموانع لأنفسهم في بداية محاولتهم
الكتابية ليقوموا فيما بعد، وعلى امتداد النص السيري المنتج،
باختراقها وانتهاكها نصا وروحا. فالقرضاوي – مثلا وبحسب عواد -
يعلن عن (كرهه الحديث عن نفسه لأنه مهلكات ) ويقدمه كسبب وقف خلف
تردده شخصيا في كتابة مذكراته إلى جانب أسباب أخرى منها ضعف ذاكرته
كما يزعم، لكنه لا يتردد عن ( توثيقه لأنواع المديح الذي كاله له
الآخرون وبموقع الراوي العلمي والسياسي بين عليه القوم من الرؤساء
والملوك والعلماء وقادة الأحزاب وبقوة ذاكرته وقدرتها على إيراد
التفاصيل الصغيرة في رحلات ومواقف مضى عليها أكثر من نصف قرن
.ص174)
ينتقل عواد في المثال التطبيقي الثالث إلى قراءة مذكرات الأميرة
بديعة المعنونة " وريثة العروش" والتي لم تكتبها بنفسها بل أملتها
كما يبدو على أحد الكتبة المشتغلين بتحرير النصوص هو فائق الشيخ
علي، ولا يخفي عواد هدفه من هذا المثال، وهو تقديمه كنموذج على
سيرة مؤلف مغمور وليس من ذوي الأسماء الرنانة، وهو يقول ذلك
متساوقا مع معاني يستغرقها قول كوليدرج الذي يستشهد به ( إن أية
حياة مهما كانت تافهة ستكون ممتعة إن رويت بصدق ) وحتى إذا غضضنا
النظر عن واقع كون صاحبة السيرة الذاتية هنا أميرة منفية، تتكئ على
تجربة أسرتها الملكية الكبيرة والمأساوية، وليست كاتبة طابعة
مجهولة في دائرة حكومية لم يسمع بها الكثيرون، فإننا نضع العين
فعلا على نموذج في الكتابة السيرية يحاول النأي بنفسه عن الخطوط
العريضة التي تشترك فيها الكتابات التقليدية، وتميل إلى ما يشبه
الكتابات الخفيفة التي يدبجها الفنانون والمغامرون ذوو التجارب
البسيطة والشيقة والبعيدة عن المفصليات التاريخية والشعارات
الكبيرة التي نجدها في المثال التطبيقي الموالي والذي يخصصه عواد
لمذكرات الزعيم الشيوعي العراقي زكي خيري في مذكراته الموسومة "صدى
السنين في ذاكرة شيوعي عراقي مخضرم" والتي تغري بالوقوف عندها وقفة
أكثر إسهابا وتفصيلا لما تحويه من آراء وتحليلات تعيننا دون ريب
على تقصي المقاربة ككل وفي أهم منعطفاتها التقنية والمضمونية نظرا
لطابع النمذجة الواضح الذي تكتسيه هذه المذكرات وصاحبها وزمانها
ونوعها المجتمعي.
وفي تنويع لا يخلو من نباهة الاختيار وحصافته المنهجية يختار عواد
في المثال المقروء التالي مذكرات شاعر عراقي كان من القلة – في
ميدانها الإبداعي- التي بادرت إلى كتابة سيرتها الذاتية أو أشياء
منها وهو الشاعر صلاح نيازي في كتابه المعنون " غصن مطعم بشجرة
غريبة "، مقدما للقارئ مثالا مختلفا في الشكل كما في المضامين
للكتابة السيرية القادمة من بوابة المنفى المستمر والضاجة بذكريات
البلدة القصية " الناصرية" وما واشجته من ذكريات وصور صيغت بمياه
الشعر في حالتنا هذه للحادثة الإنسانية المنافحة باستمرار ضد
الانمحاء والتلاشي ولتكسب في النهاية ولادة أخرى معبرا عنها
بمصطلحات الناقد بإعادة الإنتاج المتكررة بشكل شبه حلزوني يرتكس
حينا ويصعد متقدما أحيانا أخرى في فضاء التاريخ والكتابة
التاريخية.
آخر مثال يقدمه المؤلف في كتابه هي مذكرات السياسي العراقي الراحل
توفيق السويدي الموسومة " نصف قرن من تأريخ العراق والقضية
العربية" ومع أن السويدي من أوائل من كتبوا في هذا الباب، ولكن ما
قدمه هنا يمكن أن يعتبر نسجا على منوال الآخرين من حيث التقنية
والعناوين والاهتمامات لمحاولات أخرى غير عراقية، يحاول المؤلف
التأكيد على أبرز الركائز التي قامت عليها مقاربته وهو رصد الحادثة
" ليس فقط من كونها حقيقة وبنية فوقية ، ساهم فيها الراوي أم لا ،
كذلك تأتي من قوتها بين صاحباتها وإن كانت عابرة أو محتدمة ، ومن
دورها في الترابط مع غيرها من الأحداث وفي تحديد العلاقات بين
البشر .ص260 )
يبقى أن نسجل، وبكثير من الاطمئنان، أن المقاربة التي قدمها نصير
عواد في كتابه هذا ، على ما فيها من تداخل ومساحات تحتاج إلى
المزيد من الإضاءة والترصين، تقترح من الأسئلة الخلاقة أكثر مما
تنسج من إجابات تزعم الكمال غير المرغوب أصلا من الناحية النقدية،
وهنا يكمن سرُّ جدتها وثرائها واحتماليتها وربما تحولها إلى مثابة
واعدة لمحاولات أخرى من النوع التنظيري النقدي في مجال نقد وتحليل
وتفكيك الكتابات السيرية وهو النوع الذي تفتقده المكتبة العراقية
والعربية بفداحة.
*
كاتب عراقي