<%@ Language=JavaScript %> الغياب من قتل سمير هامش، ولماذا قتلوه؟؟

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

 

الغياب

 

من قتل سمير هامش، ولماذا قتلوه؟؟

 

أحمد الناصري

 

 سمير هامش، الصديق الاستثنائي، الذي كان  أنيقاً في الحياة  والحضور والثقافة والسينما والتطلع والوعي والعلاقات الإنسانية العميقة، لكنه كان فقيراً بل معدماً في العيش واللباس والمظهر. وكان يصنع وينثر الفرح على وجوه وعيون الأصدقاء، دونما كلل أو توقف، وهو حجر الزاوية في مجموعتنا الثقافية الصغيرة وعطرها الأخاذ. لذلك كان علينا أن ندافع عنه بدون توقف، وأن نتمسك به بكل الوسائل، حتى النهاية، لأننا بذلك ندافع عن الفرح وعن الحياة بمعانيها الجميلة والواسعة، ونقف ضد الحزن والخسارة التي لا تعوض. وكان عليه أن لا يتنازل عن حقه الطبيعي في الوجود والبقاء، لكنه خسر معركة البقاء والوجود الذاتي. وكان على الحرب العدوانية أن لا تقتله، وأن لا تضمه الى سجلاتها الطويلة. لكن الكارثة وقعت، وغاب عنا فجأة ومن دون توقع، في ظروف قاهرة وعصيبة، شملت آلاف الشباب المجند، في دورة من دورات الحرب الطاحنة والمنسية، حتى في أيام اشتعالها، وتركنا نتخبط ونضيع في متاهات العمر حتى هذه اللحظة. الى سمير الذي ضاع منا دون سبب حقيقي، والذي نحاول أن نستعيده، وأن يبقى بيننا، بطرق أخرى.. الى سمير في حضوره المستمر وألقه وغيابه المشع.

 في حضرة هذا الغياب القاسي، أتذكره وأناجيه وأكتب عنه، باعتبار إن الغياب تجسيد مكثف ومباشر، لكنه مقلوب ومعاكس، لحالة الحضور الطبيعية، وهو في نفس الوقت، انقطاع وانقلاب غير عادي عليه، رغم وجود رابط وعلاقة التحول، عبر اللحظة المتحولة ذاتها. أن الغياب المشع هو حضور بمعنى خاص ومعين، أو هو حضور متوقف بحالة وصيغة الماضي، أو ما يمكن اعتباره جزء أو شيء من الحضور السابق. عندئذ، تصبح صورة وهيئة الغائب وهيبته أوضح وأعمق من سمات الحاضر ومشهده العادي المتكرر وغير الملفت، باعتبار أن الغائب قد تكرس بطريقة استثنائية خارقة، وأنسحب نحو الوحدة والبعاد والفقدان، وهو لم يكن يريد أو يرغب في المغادرة، ولم يقل رأيه في هذا الإقصاء والمصير النهائي الرهيب، لأنه (خياراً) إجباريا وضدياً في الأصل. وكذلك فإن الغائب ممنوع من الكلام، وهو لم يقل كل ما عنده، بأن أخفى ما تبقى لديه في طبقات الغياب وغموضه المطلق والمجهول، وتحول الى حالة تجريدية، بعيدة ومشوشة، أي صورة لشيء غائب، أو شيء متوقف ومبعد بطريقة قسرية قاسية.

بالنسبة لي، فأن صدى الغائب وبقاياه ورائحته وأثره الدائر والمتردد في أرواحنا ومن حولنا، هو كبقايا الكونترباص (تلك حكاية العلاقة بالموسيقى) وصداه ظله الهائل، في مسرح الحياة، أو قاعة العزف، أو ردهات وممرات مكان مؤثث وأنيق، تعرض لزلزال عنيف ومفاجئ، فأنهار وتحطم وهجر للتو، وسط الغيبوبة والذهول والحيرة.. والغائب كالكونترباص، يرن وينوح ويرن بحضور طاغ ومبالغ فيه، من أجل استمرار وعودة أخرى لا تتحقق مادياً، وربما تتحقق بأشكال أخرى، حيث أنه يجرح ويربك ويدين صمت وسكون الكون، الداخلي والخارجي، الذي هو صمته المطبق في الأصل، من خلال الدخول في حالة الوجود الميتافيزيقي، وحالة ما بعد اليأس.

هل كان سمير يستشعر ويدرك بأن عمره قصير وعابر، وهو مهدد بالغياب والموت القادم في ملفات وطبقات الحرب القادمة، لذلك كان يسخر من كل شيء، ولا يكترث بشيء، وقد أطلق ومارس هذا الكم من العبث في زمنه الضيق والقصير، كطريقة لممارسة الحياة والوجود، والتصرف بالوقت الضيق والمتبقي كما يريد؟؟ وهل دفع وضخ هذا الكم الهائل من الفرح والضحك لمواجهة الموت والحزن القادم بين ثنايا الأيام التالية؟؟ أنها أسئلة وجودية وإشكالية وتعويضية كبيرة. لكن الأجوبة ضاعت وفقدت قيمتها الحقيقية، بضياع سمير نفسه، الذي تركنا نبحث ونلهث وراء الأجوبة دون جدوى ونتيجة. وهذه هي العلاقة الأكيدة المتبقية لنا، ولا أقول الوحيدة بسمير. فمن الذي أوقف القصة وأنهى الحكاية بضربة طائشة؟؟ ومن الذي منع أقدام سمير من الاستمرار في السير الهادئ الوئيد على طرقات المدينة ودروب التاريخ الطويلة والممتعة والمجهولة؟؟ 

سمير هامش، الصديق الذي غاب بطريقة مفجعة وصادمة، لم يأخذ معه من هذه الحياة الخاطفة والعابرة أي شيء، غير، جسده الضئيل، والشظية القاتلة، وبذلة الحرب ودخانها ورعبها، وقرص القتيل، وماء الغسيل الأخير، ورائحة الكافور المشعة، وبهاء وخيبة الميت، وشبح الوحشة والوحدة، وأطياف الحياة المتلاشية، ورائحة الماضي، ووجه القتيل المحايد، ودموعه اليابسة. وترك كل شيء، موزع ومبعثر، بين غرفته (غرفتنا) الشهيرة، وشارع الحبوبي، ومقاهي الناصرية الفقيرة، وساتر الحرب، ومشارف المقبرة، وذكريات معهد الفنون الجميلة. فقد ترك، غرفته الرطبة والفقيرة وذاكرته وظله اليومي على رصيف شارع الحبوبي، وترك أم ملتاعة، وأصدقاء مذهولين. وترك نكاته وكاميرته وأحلامه وآلامه وأشياءه البسيطة وأوراقه ومشاريع لم تنجز وعلاقات عاطفية متناثرة وغبار مائدته وكأسه الأخير ورائحته المشعة الباقية.

 سمير ترك أسمه وكاميرته وبقاياه وأثره تحت ظلال كونترباص المدينة، في عنوانه السابق (ناصية في باب من بيوت شارع الحبوبي) بهدوء بليغ. وأبقى لنا الخيبة واللوعة والمرارة والانتظار، وغاب في منعطف وتحولات حرب سخيفة، كان يرفضها ويكرهها ويسخر منها، لأنها ليست حربه. وهي حرب سخيفة ومشبوهة، بكل أسبابها وأغراضها ومراحلها وأدواتها وتفاصيلها الوحشية المرعبة، وبمن يحركها ويديرها، (كان من بين أسبابها واستمرارها دوافع شخصية ضيقة). حرب أحرقت الأخضر، وأبقت لنا الرماد والسخام، وقتلت سمير هامش من دون سبب أو حاجة، لأن الحرب كان يمكن لها أن تتوقف أو تستمر أو تنتحر، من دون أن تقتل و تشطب سمير، الجندي الفاشل عسكرياً، غير المدرب وغير المسلح وغير الموافق على حرب ليست له، دفع إليها دفعاً، بنزوة وقرار مجنون وخائب!!

لا توجد علاقة ايجابية وطبيعية بين فتحة الكاميرا (العدسة) التي كان سمير يحلم بحملها واستعمالها، وبين فوهة البندقية والمدفع وراجمة الصواريخ، أي ما بين عين وروح وجسد الإنسان وبين السلاح كأداة تدمير وقتل. لكن العلاقة الوحيدة تتم من خلال تثبيت وتسجيل الكاميرا لجرائم وكوارث البنادق والمدافع والطائرات والحروب الرجعية على شريط الفيلم. وهذا ما حصل في فيتنام وفلسطين والعراق، ومناطق كثيرة دارت فيها حروب طاحنة، سجلتها عدسات ذكية وجريئة. وهكذا صار لدينا تاريخيين، تاريخ ما قبل الكاميرا وتاريخ ما بعد الكاميرا، أي التاريخ المصور والموثق، وقد قامت الكاميرا بدور تكميلي هام لمهمة الكتابة والتدوين الخارقتين، وأصبحنا في زمن التسجيل والنقل المباشر والسريع بالكاميرا. وفي كل الأحوال، فسمير لم يرسل الى جبهات الحرب والخطوط الأمامية، كمراسل أو مصور حربي، إنما سيق كمقاتل عادي، يواجه مصير القتل المؤكد. من جهة أخرى، فإن الدكتاتورية المتخلفة، التي تمارس الاستبداد، وتشعل الحروب، تكره الثقافة والإبداع بجميع أشكالهما، وهي تتعارض معهما بالضرورة، من خلال سلب وإلغاء الحرية، وفرض وتعميم الاستبداد والقمع والقسوة. والثقافة والإبداع بحاجة الى هواء نقي وحرية واسعة، بل مطلقة، كشرط أساسي من شروط الإبداع. والثقافة تحاول مساعدة وبنيان الإنسان، والدكتاتورية والحرب تسعيان لسحقه وتصفيته وهزيمته. وهنا بالضبط  يكمن جوهر الخلاف والصراع، وهنا أيضاً، تتكون وتتوفر بداية ومفاتيح الحل لمشاكلنا الكثيرة والمعقدة!!

كانت الدكتاتورية المتخلفة في بلادنا، كتكرار قاس ومبالغ فيه لتجارب محلية وعالمية عديدة، قد رصدت وعرفت تطلعاتنا ونوايانا الفكرية والثقافية الجديدة، وعلاقتنا بالمستقبل، لذلك طاردتنا في شوارع المدينة والبلاد، ولاحقت وبعثرت أحلامنا الصغيرة والجميلة، من دون أن تتمكن من قتلها. كنا معصوبي الأعين، ندور في معتقلات رهيبة، تدق عظامنا وتسحق أجسادنا هراوات وأحذية الجلادين الثقيلة، بينما سحقت الحرب المتبقين منا، بين قتيل ونازح وناج بالصدفة. لقد أتت الدكتاتورية بمشروعها الرهيب مند البداية، ونحن لم ندرك ولم نشخص ذلك الخطر الداهم في الوقت المناسب، رغم بداياته ومؤشراته الكثيرة الواضحة. لذلك تمكنت الدكتاتورية (بسهولة) من فرض نمطاً جاهلاً وخاسراً، قاد البلاد الى الجحيم المستعر، وأنتهي الى ما أنتهي أليه، ولذلك أيضاً كانت خسائرنا باهظة ورهيبة. فقد انطلقت لوثة الحرب، والحرب (مثل كل الحروب) المجنونة، تقوم على أساس الخديعة والخطيئة واللوثة، المغطاة بالأناشيد والبيانات والاستعراضات والكلام الفارغ المتطاير من أشداق المذيعين، بأوداجهم المنتفخة، فمن منا لا يتذكر ذلك المشهد البائس والممل. تلك الحرب البشعة والطويلة، أخذت منا، كل شيء جميل ونادر، ولم تترك لنا، غير الموت والدمار والهباء. ومن هناك، من تلك اللحظة المشؤومة، بدء السير الحثيث نحو الهاوية والجحيم الراهن. لقد أخذت الحرب سمير بإصرار بالغ ومسبق، ومن دون أي مبرر يذكر، وثلمت أشياءنا العزيزة والغالية، وكسرت آنية الزهر، وأحرقت غضن أخضر من شجرة الصداقة الوارفة، وانتزعت شذرة وقطعة نادرة من بنيان حياتنا. فقد هدمت وقطعت درب الصداقة الجميل، بأن قتلت سمير هامش، وحطمت كاميرته، وسحقت أحلامه ووجوده. ذلك الإنسان الرقيق والبسيط، الواضح كقطرة ماء، والنقي كقطرة خمر معتق.

غاب سمير هامش، بينما كونترباص المدينة، باق وثابت في الظل، يطلق موسيقاه وأنينه وعزفه في مراسم الحياة، عن الأحلام المقتولة، وعن محاولات الأمل والمستقبل، وعن الضوء في نهاية النفق، رغم كل مراثي الخراب والفقدان والفجيعة الدائرة الى الآن. ترافق الكونترباص في مناحاته كمنجات وناي من قصب الهور المعبأ والناقع بالماء والطين والهواء منذ دهور.

لا زلت أدور في شوارع المدن الغريبة، أمضغ مرارة الغربة ليل نهار، تطاردني لعنة الناصرية وخيباتها، أحمل في داخلي أسماء وذكريات وأحلام. فقد حملت صور وأسماء سمير وجميع الأصدقاء، ودرت بها بين الزنازين الموحشة والخطيرة، وعبرت بها الجبال والشعاب والبلدان والمدن الجميلة والباردة. وكان الأصدقاء ندمائي وجلاسي وذاكرتي وطاقتي في الغربة الطويلة. فكم حكيت للأصدقاء والرفاق الجدد وللمدن الجديدة عنهم؟؟ وكم حزنت وكم ضحكت وكم بكيت في غيابهم وبدونهم؟؟ وكم حاورت وحكيت عن الذكريات والتجربة والنواقص والأخطاء القاتلة، وعن الخائن الذليل والخيانة الجبانة التي تعرضت لها، وعن احتفاء البعض بالخيانة، ضمن أصول الأخلاق الجديدة؟؟ وكم تمنيت أن يأتي سمير هامش الى لايبزك أو برلين ليدرس في معاهد السينما العالية، ويتحول الى مخرج لامع ومعروف، أو يدرس الكوميديا أو الفلسفة والتاريخ، أو أي شيء يرغب فيه، ليعيش كما يريد، بحرية وهدوء وسلام. وماذا لو جاءت مجموعة معهد الفنون الجميلة، لتدرس أو تقدم عروضها وأعمالها المسرحية والسينمائية والتشكيلية في برلين ولاهاي ولندن وباريس؟؟ وبالمناسبة، فقد وقف شرطي بائس ومجهول، من الأمن العام الفاشي، كان ينبش أسنانه المنخورة بعود ثقاب (كما أخبرني سمير)، ضد حقه وطموحه الطبيعي في السفر الى يوغسلافيا لإكمال دراسته العليا في السينما، على حسابه الخاص، وأبلغه بطريقة متعجرفة، بأنه ممنوع من السفر، ووضع حداً لطموحه ومستقبله، ثم لتقوم الحرب الملعونة بعد سنين وتقتل سمير. أنه القتل العمد.

هناك سؤال طبيعي سيظل مطروحاً على الجميع، رغم سذاجته وربما خطأه أو عدم جدواه الآن. لماذا لم يتركوننا نعيش ونتنقل بين غرفة سمير هامش الكائنة في شارع الحبوبي، وكواليس مسرح ثانوية الجمهورية البسيط، وصالة بهو البلدية الأنيقة، ومقهى (أبو حنان)، ونادي المعلمين، وشارع النهر وكازينو القيسي، وعربات بيع المازة، ومتنزه المدينة، وبيوت حي الإسكان الفقيرة، وشارع عشرين، والمكتبة العامة. نتبادل الكتب والكاسيتات، ونقرأ طرفة بن العبد والمتنبي والمعري والتوحيدي ومحيي الدين بن عربي والحلاج وجلال الدين الرومي والجواهري والسياب والبياتي وسعدي يوسف ورامبو وبوشكين ولوركا، ونطرح الأسئلة الإشكالية، ونؤمن بالمنهج النقدي والديالكتيك والجدل العقلي، وندرس التاريخ، ونقرأ سيره الحقيقية والملفقة والناقصة، ونهتم بعلم الاجتماع، ونقدم العقل النقدي، ونتابع التثقيف الحزبي والأيدلوجي، ونبحث عن الحداثة وما بعدها، ونحلم بنساء جميلات بلون القمح، ونضحك ونشاكس ونعبث قليلاً أو كثيراً، ونسافر الى مدن وأماكن غريبة، ونعشق الكادح الوطني فهد، صاحب الحلم والتأسيس، والمغامر جيفارا، ونتابع التوسير، ونستمتع بأصوات وأغاني داخل حسن وطالب القره غولي وحسين نعمة وأم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز والشيخ إمام ونجاة الصغيرة وفايزه أحمد ووحيدة خليل ومارسيل خليفة وصباح، ونستمع الى ما تيسر من الموسيقى الكلاسيكية الراقية، ونتذوق الفن التشكيلي ونهتم بالنقد؟؟ فهذه هي كل عدتنا وأشياءنا وأسرارنا ومداراتنا المتواضعة، التي جرى الهجوم عليها وتدميرها. فلماذا لم يدعونا نمارس عاداتنا الطبيعية الساذجة؟؟ وما هي خطيئتنا أو خطورتنا كي نطرد ونطارد ونقتل بهذه القسوة وبهذه الشراسة؟؟ وما هو مصير وموقف العناصر التي طاردت وضربت سمير ورفاقه، والتي مارست ونفذت تلك السياسة الخرقاء ضدنا؟؟ وما هو مصير ونهاية مشروعها السري والعام؟؟ والى أين أوصل البلاد والناس؟؟ أين هي سلالات الحرس القومي الفاشي؟؟ وأين هي عناصر معهد الأمن القومي، الذي أسسه وأشرف عليه صدام شخصياً؟؟ أين هي العصابات الرخيصة التي كانت تجوب وتدور في الشوارع والمقاهي، تخرب وتسمم ليالي مدينة الناصرية وتحول أيامها الى جحيم؟؟ وأين هم كتاب النظام من المداحين، أصحاب المطولات المقرفة والوشايات والتقارير القاتلة؟؟ لماذا لم يقاموا الاحتلال؟؟ لماذا لم يعتذروا بشكل حقيقي عن خطاياهم وجرائمهم، كموقف أخلاقي وأدبي وقانوني؟؟ هل تحولوا الى توابين ومتعاونين مع الاحتلال؟؟ أم انخرطوا ودخلوا في الفضائيات والصحف الجديدة، أو في فرق الموت الطائفية، وفق لعبة الباب الدوار الرخيصة والسهلة؟؟ بينما انتقلنا نحن من رفض ومقاومة الفاشية المتخلفة، الى رفض ومقاومة الاحتلال البغيض، وفق سليقة ورؤية وطنية بديهية، لا تخطأ ولا تتأخر ولا تتردد في دفاعها وانحيازها للناس والوطن والمستقبل. هل تورطنا بالوعي الوطني والإنساني الحقيقيين؟؟ وهل عوقبنا بتلك القسوة لهذا السبب الكبير؟؟ وهل تورطنا بالموقف الوطني في الأصل، وكنا ندافع عن سراب؟؟ هل يمكن تأجيل أو تقطيع وتجزئة المواقف والقضايا الوطنية؟؟ وهل سؤال الوطنية قابل للمراجعة والتبديل والأخذ والرد، بهذه الطريقة وبهذه السهولة، حسب متطلبات عصر (السوق)، وأن نتجادل ونختلف على حالة ومصير وطن أو أوطان ترزح تحت الاحتلال العسكري المباشر؟؟ هل تسمح الثقافة الحقيقية بذلك، حتى لو تسائلنا لاحقاً حول ماهية ومفهوم الثقافة الحقيقية؟؟ كيف يتسنى لمجتمع (أو أجزاء منه( أن (يتنازل أو يخرب) أو يسمح بتخريب آثاره وثقافته وتراثه؟؟ هل نحن في بلاد شفوية، تنسى بسرعة، لان ذاكرتها قصيرة وسطحية وربما معطوبة ومشوهة؟؟ أين هي بقايا وأثار وجوه وأرواح ملايين الضحايا الذين سقطوا في بلادنا؟؟ بل ما هو مصير الوطن؟؟ إنها أسئلة مهمة من أسئلة كثيرة تحت ظلال الوطن. 

في ذكرى سمير، أطل على مشهد حياتنا وسنواتنا الضائعة والمهدورة، بسبب الاستبداد الذي تحول الى احتلال، وأراقب الغائبين والعابرين، وأحصي خسائرنا الباهظة، وأراقب طوابير الضحايا والشهداء والقتلى والجرحى والمعوقين والأسرى والمفقودين والسجناء والمطاردين والمنفيين والمهاجرين، وكل ضحايا الفاشية والاستبداد والحروب والحصار والاحتلال والإرهاب والعنف والتخلف والجوع والرصاص، وأراقب نساء بلادي وهن مجللات بالسواد يندبن الضحايا وسط الكارثة، وأطرح الأسئلة الحائرة، لماذا حصل كل ذلك؟؟ ولماذا سالت كل هذه الدماء الثمينة والطاهرة؟؟ ولماذا حلت بنا كل هذه الأهوال والآلام الطويلة والمرعبة؟؟ وهل كان لنا أن نمنع وقوع الكارثة؟؟ ومتى نقطع درب الآلام الى الضفة الأخرى، وتنتهي هذه الفصول السوداء الطويلة والمتكررة؟؟ ومتى يحل السلام والحرية والأمان والرفاه والعدل الاجتماعي، وتكون حياة الناس طبيعية وسليمة؟؟ أعرف أن الرحلة طويلة وقاسية بل مرعبة، وهي تحتاج الى صبر لا ينتهي، والى أدوات غير اعتيادية للاستمرار والبقاء.

 كان سمير ودوداً وصديقاً للجميع، وهو طيب وواضح كطفل، حيث لم يدخل في خلافات ومشاحنات ثقافية أو سياسية أو شخصية، ولم يكن يكترث بأكبر النظريات والأطروحات، وكان يقبل كل شيء، أو يسخر من كل شيء، بنفس الطريقة النقدية اللاذعة، وهو يمتلك قدرة عالية لاستيعاب كل شيء بسهولة. وسمير كان بسيطاً ومباشراً وغير متطلب، يعيش على الكفاف ويكتفي بالقليل القليل من كل شيء، كأنه زاهد يسعى أو ينتظر الموت في منعطف قادم. فهو مثل طائر صغير، تكفيه حبة زيتون واحدة، وكسرة خبر يابسة، وسيجاره، لتديم حياته وتسد رمقه وتوصله الى الليل، حيث مائدته اليومية الأثيرة والفقيرة أيضاً. ليبدأ موجة جديدة وصاخبة من النكات والضحك والعبث والتعليقات السريعة والتمرد اللطيف، ويجد نفسه عند الصباح في مكان ما.

سمير ذاك الكائن الساخر والمتمرد، الكائن الحالم والمحب للحياة والناس، انتقمت منه حرب مجنونة، فقتلته بقرار مسبق، لكن من دون سبب، مما عمق فجيعتنا وخسارتنا فيه. فماذا لو عاد سمير إلينا مع جميع القتلى والضحايا، في معجزة لا تتحقق، لكنها الصلة الوحيدة بالحضور المفقود والانتظار المفتوح!! لكن الحقيقة القاسية تقول، إن سمير لم يعد بيننا، ولن يعود ألينا، فقد اختطفته حرب سخيفة ذات عام مر وقاس. بم كان يفكر سمير في لحظة القتل؟؟ هل أطلق آخر نكتة في حياته عن سخافة الحرب وعدوانيتها؟؟ هل تذكر أمه وأصدقاءه وغرفته العجيبة وشارع الحبوبي؟؟ بم كان يحلم لحظة اقتراب الشظية؟؟ هل مر عليه طيف وصورة الصبية الجميلة، التي حلم بأن يربيها على يديه، حسبما كان يتوهم، ومن طرف واحد؟؟

 يا سمير، لقد خسرتك الحياة، بأن تنازلت وتخلت عنك، في التباس وخطأ من أخطائها الفادحة والمتكررة. وأية هدية قدمتها الحرب للحزن والكآبة، بأن منعتك من ممارسة مهنة الفرح. فكم من الضحك والفرح والتمرد والجمال قد خسرك وخسرناه وضاع منا بغيابك؟؟ وكم من الحزن والحسرة والكمد داهم وجثم على قلب الأم المنكوبة؟؟ وكم أفتقدك الأصدقاء؟؟ وكم سأل عنك الناس والشارع؟؟ وكم من الحزن يكفيك ليعادل حزنك؟؟ وكم من الدمع يكفي لغسل جرحك ووجهك الحزين والقتيل؟؟ وكم من الزهور والشموع والقناديل تكفي لتعطر وتضيء قبرك المعتم والموحش، أيها الصديق والفقيد والبعيد؟؟ لقد خسرتك المدينة والثقافة، وخسرك الفن والأدب. أنك تعرف كم نحبك؟؟ فيا لخسارتنا فيك، ويا حسرتنا عليك وعلى شبابك المهدور بالمجان. يا سمير سنتذكرك ونكتب عنك ونحزن عليك كل العمر. صحيح إن خسائرنا كبيرة وفادحة ومتعددة ولا تحصى، لكنك من بين أكبر خسائرنا.

من جديد جاءنا عام 2011 بسرعة، كعادة السنين الدارجة، لكن من دون سمير أيضا (كم كان يعشق الأعوام الجديدة، وينتشي ويحتفل بقدومها وتحولاتها على طريقته الخاصة). بينما أظل أعود وأتذكر لحظات وأيام عام 75، باعتباره عامنا الخاص بامتياز، وعام مجموعتنا، البعيد والغامض، وكان عام الوهم الكبير أيضاً، لأنه عام الجريمة (بالنسبة لي على الأقل)، الذي وضعت ونفذت فيه خطط الخراب والتدمير الشاملين. في العام الجديد، كما في كل الأعوام اليابسة على بوابة المقبرة، أرى سمير يطل علينا من مقصورته النائية والأخيرة، من قبره الموحش، من مستقر أخير لم يذهب أليه طواعيةً، يمسح طبقات الحزن عن عينيه، ويلوح لنا بيديه الميتتين، ويطلق آخر نكاته اللاذعة، ويحرضنا على الضحك، ويسخر من الحرب والموت والتشوه، ويحن الى صوت أمه وللناصرية (الناصرية المدينة أعطتنا كل شيء وأغلى شيء، وأثارت كل هذا الصخب والانفعال والأسئلة في أرواحنا وعقولنا، وزودتنا بطاقة الإبداع والتمرد والجنون. فماذا أعطينا للناصرية؟؟ لا أدري) ولرائحة الفرات وعطر النخيل الجليل ولغرفته وللنساء والخمرة وللسينما وللأصدقاء، ويهمس لنا ويدعونا للتمسك بالحياة البسيطة والنقية، رغم درجات الطوفان والخراب المريعين.

يا سمير.. لذكراك وبقاياك ويومياتك وجودك الأبدي بيننا ورائحتك النبيلة العطرة، نهديك وردة الصداقة والذكرى، وكتاب الغياب.. لن نبحر بعيداً عنك، ولن نغادر مرفأ وغرفة الصداقة، ولا سرادق العزاء والانتظار والحزن، ستبقى في الذاكرة الصداقية المشتعلة والمتجددة بطاقة الحنين، ستبقى في حروفنا المتوهجة، أيها الصديق القتيل.

لازلنا ننتظرك تحت شجرة المعجزة، وسوف لن نغادر المكان.

عن جميع الأصدقاء يكتب لك صديقك أحمد

 

هامش عن الهامش

 

مرة كتبت عن العزيز سمير (الحياة في مدينة الناصرية قادتني إلى صداقة خاصة مع صديق نادر أسمه سمير هامش، هل سمعتهم بهكذا اسم؟؟ وهل تكرر في مكان آخر؟؟ وهو أسم عجيب وغريب وصادم في الوهلة الأولى، خاصة بالنسبة للناس الشعبيين الذين يتعذر عليهم لفظه، حيث كانت تسميه أحدى أمهات أصدقاءنا (مهامش)، والاسم بلا معنى حقيقي يرتبط بسمير أو بأبيه هامش، لكنها الأسماء والمصادفات ولحظة الاختيار التي قد تعني أو لا تعني شيئاً ما لاحقاً.

في المعاجم الهامش ( هَامِشٌ - ج: هَوَامِشُ. [هـ م ش]. (فا. من هَمَشَ). 1."عَلَى هَامِشِ الدَّفْتَرِ" : عَلَى حَاشِيَتِهِ. 2."يَعِيشُ عَلَى هَامِشِ الْمُجْتَمَعِ" : خَارِجَ سِيَاقِ الْمُجْتَمَعِ. 3. "تَرَكَهُ عَلَى الْهَامِشِ" : عَلَى الْجَانِبِ. 4. "عَلَى هَامِشِ الْحَدَثِ" : بِمُنَاسَبَة. 5."عَلَى هَامِشِ الْأَخْبَارِ" : تَعْلِيقاً عَلَى مَا وَرَدَ فِيهَا )، و(هَامَشَ يُهَامِشُ مُهَامَشَةً :- ـه في الشيء: عاجله فيه؛ هامش الملاكم خصمه بضربة أخيرة ). وسمير هامش من النوع الأول، وليس من النوع الثاني، الذي يعني : هامش يهامش مهامشة. فهو لم يهامش أحد على الإطلاق، وقد قتل سمير في واحدة من الحروب الضروس العبثية التي دارت على أرضنا الوطنية وفي التخوم، وهي ليست حربه في جميع الأحوال، وهو لم يعبر هامشه الوجودي ومصيره قط.

 

2- بطاقة العام الجديد

 

الى عائلتي وأصدقائي وكل الناس

جاءنا العام الجديد، على عادة الأعوام التي تأتي في مواقيتها ومواعيدها، حسب دورتها الكونية (الثابتة) والمتكررة.. في هذا العام الجديد، كما في كل الأعوام، نعيش ونتنفس ونحلم ونحزن ونتأمل ونرقص ونبكي ونضحك ونتبادل الهدايا. في العام الجديد، سنبقى نتمسك بأمل ما، ونتطلع الى مستقبل أفضل.. يطل علينا عام 2011، والناس والوطن لم يزلا داخل النفق الطويل، وتحت الرماد والأنقاض، مع استمرار النزيف، وسط الذهول والخيبة والخسارة، مع الإصرار على الاستمرار والرفض والبقاء.

ندخل العام الجديد، والوطن لم يزل خارج السياق، بسبب زلزال الاحتلال والإرهاب وحقبة التخلف. لكن الأمل موجود وقائم، رغم طبقات العتمة. والأمل مرتبط بإرادة الحياة وبالمستقبل، رغم تشاؤم العقل أيضاً، بسبب ما يقوله الواقع، وبسبب ما جرى وما يجري، وأن الوطن لم يصل بعد الى السكة وجادة الصواب، حيث أن الدرب لم يزل طويلاً.

الإنسان كائن صلب ورائع ومبدع، رغم هشاشته وضعفه الإنساني البالغ، من خلال ما يتعرض له من استغلال وتشويه متناه. لكن الإنسان يتوالد ويستمر مع الزمن، كما تتوالد وتستمر الأعوام.

ليكن عام 2011 عاماً لاستمرار التمسك بالأمل.. عاماً لتحقيق الأمل المؤجل، في الخروج من المتاهة، ومن النفق الطويل.

وردة العام والمودة للجميع.

وكأسك يا وطن.

 

أحمد الناصري

Alnassery3@hotmail.com

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

 

مقالة للكاتب أحمد الناصري

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال