شيء من الذاكرة
عن الراديو والإذاعة العراقية وصناعة الذائقة الفنية والأدبية
أحمد الناصري
الراديو، الجهاز العائلي الساحر والغامض، بزاويته الأثيرة ومكانه الأليف والمرتفع وشبه الثابت لسنوات طويلة، كان الجهاز الترفيهي السهل والوحيد تقريباً في مرحلة هامة من ثقافتنا السمعية، وهو اكتشاف كبير وحلقة هامة في سلسلة الاكتشافات العلمية الكبرى في عالم الصوتيات والمرئيات من الأجهزة الكهربائية والالكترونية الحديثة، التي تكرست في القرن العشرين، من التلفون والتلغراف والأسطوانة وجهاز التسجيل ثم التلفزيون والفيديو وصولاً الى المنظومة السمعية والبصرية المتطورة الحالية، والتي يمكن جمعها من خلال الكومبيوتر.
يشغلني هذا الموضوع الجميل من زمن بعيد، حيث ساهم الراديو وعبر موجات الأثير في تكوين ذائقتي الفنية والسمعية وشيء من الوعي الثقافي والسياسي، من خلال الراديو والإذاعة العراقية، منذ الطفولة الأولى في البيت ومع جميع أفراد العائلة، بما يقدم من البرامج الراقية والمتنوعة، التي تشرف عليها لجان متخصصة الى جانب فنانين ومثقفين معروفين وكبار ولجنة رائعة لتنسيق البرامج.
من خلال الراديو استمعت وحفظت أجمل الأغاني العراقية والعربية، وتعرفت على أصوات محمد الكبنجي ويوسف عمر والجميل ناظم الغزالي، كما حفظت الأغاني الريفية الجميلة بأصوات داخل حسن وحضيري أبو عزيز وناصر حكيم ومسعود العمارتلي وعبد الصاحب شراد وجواد وادي وعبد الجبار الدراجي الذي كان ينتقل في الغناء بين المدينة والريف، وقبلهم خضير حسن الذي استمعت أليه في متابعة وشغف خاصين، وأصوات النساء القوية والجميلة، صديقة الملاية وعفيفة اسكندر وسليمة مراد ووحيدة خليل وزهور حسين وأحلام وهبي ثم مائدة نزهت وبنات الريف، وبعدها صعود جيل السبعينات وموجة الشعراء والملحنين والمطربين الكبار، حيث عشنا مع أصوات حسين نعمة وفاضل عواد وياس خضر وسعدون جابر وفؤاد سالم ثم رياض أحمد وحميد منصور وسعدي الحلي وكمال محمد وأنوار عبد الوهاب وسيتا هوكبيان ومي أكرم، ومع الملحنين الرائعين، طالب القره غولي وكوكب حمزة ومحمد جواد أموري ومحسن فرحان والمبدع جعفر الخفاف، والشعراء المبدعين الكبار، يقف في مقدمتهم وعلى رأسهم الشاعر الكبير والجميل مظفر النواب، وقصائده الشعبية العميقة والخالدة، وسلسلة الأسماء الذهبية التي طرزت ساحة الشعر الشعبي والغنائي، طارق ياسين وزامل سعيد فتاح وناظم السماوي وزهير الدجيلي وكاظم إسماعيل الكاطع وجبار الغزي وعريان سيد خلف وأبو سرحان وكاظم الركابي ورياض النعماني وكامل سواري والعشرات غيرهم، كما قدمت الإذاعة كبار الموسيقيين من أمثال جميل بشير ومنير بشير وسلمان شكر وسالم حسين وروحي الخماش وحسن الشكرجي ونصير شمة.
كان برنامج الإذاعة العراقية يفتتح فجراً بتغريد عذب وطويل لبلبل عراقي، ثم تلاوة من القرآن الكريم، بقراءات عراقية أو مصرية جميلة وشهيرة، وهي تصدح في البيوت والأسواق ومطاعم الكباب والمقاهي، مختلط مع أصوات لمقرأين جلهم من العُمي، في سوق القماش وقيصرية الناصرية، بعدها تبدأ البرامج والأغاني الصباحية المصرية والعراقية، وظلت تلازمني الى الآن أغنية (يا حلو صبح يا حلو طل..) لمحمد قنديل وكلمات محمود الليثي، ثم فقرة يومية ثابتة لأغاني فيروز، بعدها يبدأ البرنامج الاعتيادي الطويل والمنوع والممتع. بينما كانت أم كلثوم تغني كل يوم لمدة ساعة في الظهيرة العراقية، عندما يأوي الناس الى بيوتهم للقيلولة هرباُ من القيظ، وقد شاركها لاحقاً محمد عبد الوهاب، بالإضافة الى حفلات أسبوعية شهيرة لأم كلثوم. وكان من بين برامج الأغاني المعروفة أيضاً، برنامج ما يطلبه المستمعون اليومي، وهو برنامج منوع وجميل. وهناك حصة كبيرة للغناء العربي الذي نستمع فيه يومياً الى أغاني عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وكارم محمود ومحمد رشدي ووديع الصافي ونصري شمس الدين وفايزه أحمد ونجاة الصغيرة وليلى مراد وشادية وصباح.
من البرامج التي تابعتها طويلاً وأتذكرها الى الآن برنامج (من حياتي) والذي كان عبارة عن قصص حقيقية يرسلها المستمعون ويجري أعدادها على شكل تمثيلية إذاعية أسبوعية (راديو الواقع) يقدمها الفنان القدير إبراهيم الهنداوي وإخراج شكري العقيدي، كذلك تابعت لاحقاً برنامج توثيقي رائع هو (أصوات لا تنسى) من أعداد وتقديم ثامر عبد الحسن، الذي سجل فيه سيرة وخصائص كل مطرب ريفي والألوان التي أداها، وبرنامج (من الذاكرة) للإذاعي الرائع والقدير سعاد الهرمزي، والذي طالما حكى به عن محمد عبد الوهاب الذي يعشقه.
كان هناك قسم التمثيليات الإذاعية الجميلة، وبرامج الأطفال والرياضة والشعر والأدب والقصة القصيرة والنقد والمقابلات الإذاعية وقراءة الصحف، وبرامج منوعة أخرى حول الجغرافية والتاريخ والعلوم والصحة والشخصيات المختلفة والكتب الجديدة والمهرجانات والنشاطات الثقافية.
في الشتاء ولياليه الطويلة، ومع العوز والشح، في بيوت الفقراء والمدقعين، حيث المسرات نادرة، كان الراديو الأنيس المجاني الوحيد، الذي لا يكل ولا يمل، يبث أغاني أم كلثوم والأغاني العراقية والعربية. وفي ليالي الصيف العراقي الجميل وسكونه الأخاذ وسطوحه المرشوشة بماء القلل والمشربيات ورائحة الرقي المبرد، تحت سماء خفيضة ونجوم كثيفة ولامعة، كانت الأغاني شيء لا بد منه، أو يمكن أن تسمعها من سطوح الجيران، وربما تتداخل الأصوات، فيأتيك أكثر من صوت في وقت واحد، لفايزه أحمد وداخل حسن وصوت حي مثلاً.
في الجبال القصية، الجبال البعيدة والمكتفية بعزلتها الإجبارية الباذخة، لم تكن لدينا من وسيلة للاتصال بالعالم الخارجي وسماع الأخبار والتطورات السياسية وللترفيه البسيط غير الراديو الصغير الذي يعمل بالبطاريات، حيث لا توجد كهرباء مطلقاً. وقد رافقنا الراديو منذ الطلقة الأولى والبيان العسكري الأول الى الطلقة الأخيرة والبيان العسكري الأخير الذي أعلن توقف الحرب الملعونة في يوم 88.8.8،عندما توقف القتال الدامي والشرس في حرب منسية وغرضية طويلة، امتدت لثمان سنوات، راح ضحيتها ملايين القتلى والجرحى والأسرى والمفقودين، وحرقت الأخضر واليابس. وكنا ننشد الى الراديو ليل نهار أيام الحملات والهجمات الإيرانية الكبيرة والمتلاحقة على القواطع والجبهات الحربية، بينما كانت البيانات والتصريحات العسكرية تختلط مع الأناشيد والأغاني الحربية التي تدق على مدار الساعة والأيام والشهور حتى تضطر لحفظها لكثرة تكرارها الدائم. وكنا نتابع أيضاً إذاعة لندن وإذاعة مونت كارلو من الصباح ثم فترة الظهيرة والليل، ونسمع الأخبار والتقارير والمقابلات والتحليلات، التي تفيدنا الى حد معين في تكوين رأي جديد وخاص بنا وتقديرنا للوضع العسكري والسياسي على الجبهات وفي بلادنا. بينما نحاول أن نخفف من ثقل وتفاصيل أخبار الحرب وعزلتنا المطبقة، فنستمع يومياً في الصباح الى فيروز، والى أم كلثوم عند الظهيرة من إذاعة الأمارات العربية، والى ساعة مع فيروز من إذاعة الكويت كل يوم أربعاء وهي تغني أحياناً أغنية(يا جبل البعيد خلفك حبايبنه... يزهون مثل العيد وهمك متعبنه) كما تابعنا في الجبل البرنامج الجميل (من الذاكرة)، ومن إذاعة لندن كنت أستمع الى برنامج (قول على قول) الذي يقدمه الأديب الموسوعي والإذاعي الفلسطيني الكبير حسن الكرمي والذي يستهله بعبارته الشهيرة (من القائل وما المناسبة)، وهو يتحدث عن بيت شعر وشاعر والمناسبة التي قيل فيها البيت، وكم سحرني صوت الإذاعية اللامعة سلوى الجراح الفلسطينية المولد والعراقية التكوين، وبرامجها الشهيرة، لكل سؤال جواب، وندوة المستمعين، والواحة، وموزائيك، ولا زلت احتفظ الى الآن بجهاز راديو متطور نوع (ناشونال) من تلك الفترة، لا يزال بحالة جيدة.
تراجع الراديو وعالمه البهي، وفتح المجال واسعاً وعريضاً أمام الاكتشافات الصوتية والبصرية الخارقة والكثيرة، وهي توفر الصورة والصوت بلمسة خفيفة، بغض النظر عن نوعية المادة المقدمة، لكن مكانة الراديو وأصوات بعض المذيعين ورنينه، ستبقى عصية على النسيان بالنسبة لأجيال وفر لها ذلك الجهاز الساحر والبسيط الكلمة الطيبة والمتعة الجميلة وساهم في تكوين ذائقتها الفنية والسمعية.
* الأسماء والبرامج المذكورة هي عينات أساسية لمن كان يعمل ويساهم في برامج الإذاعة الكثيرة، ولما يبث من برامج أثارت اهتمامي، وهي ليست كل الأسماء والبرامج طبعاً، وهذا فوق طاقة هذه المادة التذكارية من مستمع، فقد كانت هناك أقسام وفرق وأسماء كثيرة جداً أسست ومرت بالإذاعة.
أحمد الناصري
تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم
جميع الحقوق محفوظة © 2009 صوت اليسار العراقي
الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا |
|
---|
مقالات مختارة |
صوت اليسار العراقي تصدرها مجموعة من الكتاب العراقيين webmaster@saotaliassar.org للمراسلة |
---|