<%@ Language=JavaScript %> د. عدنان عويّد الانزياح الثقافي

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

 

الانزياح الثقافي

 

 

د. عدنان عويّد

 

     ما أرمي إليه هنا في مسألة الثقافة أو مضمونها, لا يعني الثقافة بمفهومها الشامل, على اعتبارها مجموع المعطيات المادية والروحية, بما فيها  الرؤى الفكرية والمهارات والقيم الداخلية النشطة التي تشكل أساس التجربة اليومية الفردية والجماعية للناس الذين يعيشون هذه التجربة بأنفسهم. وإنما أعني بها الرؤى الفكرية التنويرية العقلانيّة التي تمثل في مجملها مجموعة الأنساق المعرفية ذات الطابع الإنساني من أدب وفن وفلسفة..الخ.

    هذه الأنساق المعرفية التي شكلت وتشكل في بعض مراحل تاريخ المجتمعات عتلات أو حوامل نهضوية عندما تكون هذه المجتمعات في حالات من التخلف, أو التحول نحو مرحلة أكثر تقدماً, كما هو الحال لدى الشعب الفرنسي مثلاً قبل قيام الثورة الفرنسية, عندما لعبت أفكار التنوير التي طرحها كل من روسو, ومنتسكيو, وفولتير, وغيرهم ممن ساهم في إنتاج وتسويق هذه الأفكار, دوراً كبيراً في تعبئة الجماهير للقيام بالثورة ضد النظام الاستبدادي ممثلاً في النظام الملكي القائم, وسلطتي الكنيسة والنبلاء. وكذا الحال في ألمانيا عندما أسست أفكار "هيجل" على سبيل المثال المنطلقات النظرية لمفهوم الدولة, والسير على هديها في توحيد ألمانيا وإقامة دولتها العتيدة. وهذا ما وجدناه أيضاً في تاريخنا العربي عندما أسست أفكار الأفغاني, والكوكبي, وعبده, وبطرس البستاني, وإبراهيم اليازجي, وشبلي اشميل , وفرح أنطون وغيرهم من كتاب ومفكرين عرب لمنطلقات تقدمية نهضوية سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية, ضد الواقع الفاسد آنذاك, ودعت إلى تجاوزه, من خلال مقاومة المستعمر وقيمه الثقافية والحضارية . هذا مع إيماننا بطبيعة الحال, بأن أفكار منظري الثورة الفرنسية, لم تكن العامل الأول والرئيس وراء قيام الثورة الفرنسية بشكل مباشر, على اعتبار أن هذه الأفكار التنويرية الثورية, جاءت نتيجة لتحولات عميقة في جملة الظروف الموضوعية والذاتية حدثت في فرنسا قبل قيام الثورة الفرنسية بكثير, ممثلة, بالثورة الصناعية والعلمية والاقتصادية من جهة, وبالتحولات الاجتماعية, ممثلة بنشوء طبقتي البرجوازية والعمالية اللتين راحتا تبحثان عن موقع لهما في الحياة الاقتصادية والسياسية من جهة ثانية. وبالتالي فإن أفكار منظري التنوير لم تكن في الحقيقة إلا جزءاً من هذه التحولات, غير أنها بفعل حواملها الاجتماعية والظروف التي سمحت بإنتاجها وتحويلها إلى قوة مادية, أو عتلة نهضوية, ساعدت على أن تلعب تلك الأفكار دوراً كبيراً في توعية الجماهير ومعرفة مصلحتها, وبالتالي دفعها إلى الثورة.

     وكذا الحال ينطبق على أفكار هيجل حول الدولة, وأفكار المنورين الألمان الذين تأثروا بأفكار الثورة الفرنسية وعملوا على تسويقها في ألمانية آنذاك. فبالرغم من أهمية هذه الرؤى الفكرية, وبخاصة رؤية هيجل حول الدولة, لم تستطع هذه الأفكار لوحدها أن تخلق دولة ألمانية الموحدة لولا توفر الظروف التي أوجدت بسمارك ومن سانده لتحقيق هذا حلم .

     وهذه المسألة تنطبق أيضاَ على أفكار عصر التنوير العربي في القرن التاسع عشر, مع فارق, أن هذه الأفكار التنويرية التي حملها المتنورون العرب, من حرية وعدالة ومساواة, وتنمية اجتماعية وسياسية وثقافية.. الخ. جاءت في معظمها مستوردة من الغرب المتطور من جهة, رغم أنها كانت وصفات حقيقية لتجاوز الواقع العربي المتخلف جداً, إلا أنها لم تستطع أن تتفاعل مع الواقع العربي المتخلف بكل مستوياته, فظل هذا الفكر(نغلاً) أو غريباً بكل معاني الغربة عن الواقع العربي الذي طرح فيه, كونه لم يجد مقومات تطبيقه أو إنتاجه عملياً. ومن جهة ثانية وأمام خضوع البلاد العربية للاستعمار, وانتشار الجهل وأمية الحرف في الساحة العربية آنذاك, ظل هذا الفكر محصوراً في محيط حوامله الاجتماعية من النخب المثقفة والمتعلمة التي درست في الغرب وتأثرت فيه, وبالتالي لم يكن لهذا الفكر حتى ذاك الدور التعبوي للجماهير الذي لعبه الفكر التنويري في دول أوربا, بل كثيراً ما استخدمه المستعمر من اجل زيادة تفتيت اللحمة الوطنية داخل البلاد, كما جرى في مصر عندما اشتغل الانكليز على وتر الديمقراطية .

     أمام هذه المعطيات نستطيع الوقوف قليلاً للنظر في مفهوم الانزياح الثقافي وكيفية تجليه على الساحة العربية, على اعتبار أن تلك الحالة الثقافية التي لم تعد فيها الثقافة في نسقها المراد هنا, تشكل تلك العتلة أو الحامل النهضوي الذي يعمل على تطوير المجتمع وتنميته من خلال منتجيه وحوامله الاجتماعية. مضافاً إلى ذلك, عملية الاغتيال التي تتم في تاريخنا المعاصر, لآلاف المواهب والإبداعات القادرة على خلق مناخات تنموية للمجتمع على كافة مستوياته, بسبب وضع القرار الثقافي غالباً في يد غير يد أصحابها, ولا يشترك في صنعه منتج الثقافة ومستهلكها الحقيقيان.

ما هي أبرز العوامل التي ساهمت وتساهم في تحقيق الانزياح الثقافي على الساحة العربية ؟ :  

  أولاً الدولة الكليانيّة:

     في دول العالم الثالث عموماً ووطننا العربي على وجه الخصوص, لم يأت تشكل الدولة في مؤسساتها وآلية عملها, وبالتالي طبيعة علاقاتها مع المجتمع, نتيجة لتحولات تاريخية عميقة أصابت الوجود ألاجتماعي بكل مكوناته المادية والفكرية معاً, وبشكل خاص الوجود السياسي منه, الأمر الذي ترك خللاً واضح المعالم حتى هذا التاريخ في طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع من جهة, وبين الدولة والمشروع الثقافي التنويري بحوامله الاجتماعية من جهة ثانية, حيث تجلى هذا الخلل هنا واضحاً في انزياح الثقافة التنويرية ومثقفها العضوي عن دورهما في تحقيق التنمية, أو المساهمة في رسم ملامحها في دول العالم الثالث, وفسح المجال واسعاً أمام أشكال أخرى من الثقافة, مثل ثقافة المجتمع الاستهلاكي, أو الثقافة السلطوية بكل ما تحمله الكلمة من دلالة, إضافة إلى أشكال أخرى من المثقفين, مثل مثقف السلطة, الذي غالباً ما يلتقي في الدولة الكليانيّة مع المثقف المهاتر, والمثقف الانتهازي.

     إن كل هذه النماذج من الثقافة وحواملها, تساهم في خلق مشروع الانزياح الثقافي في الدولة الكليانيّة أو الشموليّة, على اعتبار أن ما ينتج  ويستهلك من ثقافة هنا, لا يصب في خدمة المجتمع وتطويره وتنميته, بقدر ما يصب في خدمة القوى الحاكمة لهذه الدولة بكل مرجعياتها التقليدية من عشيرة أو قبيلة أو طائفة أو قوى عسكرية حاكمة, مع الحامل الاجتماعي الموالي لهذه المرجعيات, والمنتج لهذه الثقافة والمسوق لها معاً, بغية الحفاظ على بنية هذه الدولة المتخلفة, واستمرارها تاريخياً.

 

ثانياً: سيادة وسيطرة الفكر الأصولي والامتثالي :

     في معظم مجتمعاتنا العربية, التي لم يزل الوجود الاجتماعي في قوى وعلاقات إنتاجه المتخلفة, محافظاً على قسم كبير من هذا التخلف, حيث لم نزال نستخدم الكثير من أدوات الزراعة التي استخدمها أجدادنا قبل التاريخ, ويأتي على رأس هذه الأدوات  المحراث ذو السكة الحديدية الذي يجره الحيوان, إضافة إلى حالات التخلف المزري في مجال الصناعة والتكنولوجيا العلمية, وتدني مخصصات البحث المتعلقة بها, يرافق ذلك غياب واضح لأسس المجتمع المدني ودولة المؤسسة, وما يرافقها من تفكير تنويري قادر على التعامل مع معطيات العصر بعقلانية, بدلاً من الفكر الأصولي ولامتثالي الذي لم يزل يعاد إنتاجه في مضمار ساحة التخلف العربي البنيوي, وبالتالي سيطرته على الساحة الاجتماعية والثقافية, بل والتعليمية أيضا, حيث نجد الكثير من جامعاتنا تزخر بحملة هذا الفكر الذي تحول إلى سيوف مسلطة على رقاب كل كاتب أو مفكر عقلاني حتى ولو كان إسلامي التوجه, كما جرى للراحل " حامد أبو زيد" وغيره الكثير من قبل ومن بعد.

      نقول: أمام هذا التخلف البنيوي الذي لم يزل يعيد إنتاج الفكر الأصولي ولامتثالي والخرافي والأسطوري, وفاعليته النشطة أيضاً, ساهم هذا الفكر في تحقيق فعل الانزياح الثقافي للفكر التنويري والعقلاني النقدي بالضرورة عن الساحة الاجتماعية والثقافية, وأفقد هذا الفكر دوره الفاعل في تنمية المجتمع وتقدمه, تاركاً المجال واسعاً للفكر الآخر ينشط بحرية لجر المجتمع دائماً إلى الوراء تحت ذريعة العودة إلى الأصول أو النبع الصافي, بحثاً عن الفردوس المفقود.

 

ثالثاً: التأثير السلبي لأفكار ما بعد الحداثة:

     مع تحقق عملية تركز الرأسمال في أوربا بشكل عام, وأمريكا على وجه الخصوص, وتحوله إلى رأسمال مالي, وبالتالي التحامه بالدولة وتحوله إلى رأسمال احتكاري, آخذاً بدوره تحويل الدولة التي التحم بها إلى دولة رأسمالية احتكارية, راحت تمثلها في تاريخنا المعاصر الولايات المتحدة الأمريكية, بما تحمل من مشاريع قهرية لشعوب العالم, يأتي في مقدمتها تشكيل ما سمي بالنظام العالمي الجديد, والعمل على إعادة هيكلت العالم ( السوق العالمية) وفقاً لمصالحها. فأمام هذه التحولات البنيوية للنظام الرأسمالي, رحنا نلمس انغلاقاً لتاريخ الأفكار, وولوج مرحلة ما بعد الحداثة, التي راحت مقولة (أدر جيداً أرصدتك) تفرض نفسها على كافة مستويات هذه المرحلة, وبخاصة القيمية منها ممثلة بالفن والأدب والفلسفة والأخلاق..الخ

     إن معطيات ما بعد الحداثة في شقها ألقيمي هنا, لم تعد في مضمار هذا النظام أكثر من جملة من السيرورات التراكمية التي يشدّ بعضها بعضاً, والتي دخلت عملياً كما يقول "ماكس فيبر" في مضمار (بناء تحديث الموارد وتحويلها إلى رؤوس أموال, عبر تنمية القوى الإنتاجية, وزيادة العمل...وعلمنة القيم الأخلاقية.) .( راجع القول الفلسفي للحداثة, "هبرماس", ترجمة فاطمة ألجيوشي, وزارة الثقافة, دمشق, 1995 , ص9).

     إن قراءة أولية لأفكار " ماكس فيبر", تشير لنا وبكل وضوح, إلى أن هناك حالات انزياح قد تمت لمسألة القيم الايجابية, ويأتي في مقدمتها النسق الثقافي موضوع بحثنا هنا, وذلك من خلال السعي إلى فصل المسائل القيمّة ومنها الثقافية, عن أصولها أو جذورها من جهة, ثم تحويلها إلى نماذج لسيرورات تطور بشكل حيادي, وقطع صلتها بكل ما هو عقلاني, حيث لم تعد الثقافة بصفتها عمليات تفعيل لتنمية المجتمع وتطوره, أي بوصفها التاريخ الموضوعي للبنى العقلانية, بقدر ما أصبحت مورداً للدخول ( كم مليون دولار حقق هذا الفلم, وكم مليون دولار تساوي هذه اللوحة, وكم مليون دولار حقق هذا الكتاب.. الخ ).

     وهذا ما يدفعنا للقول أيضاً: إن الثقافة في معطياتها المابعد حداثوية, قد قضت على مقدمات التنوير, وأصبحت نتائج التحول في القيم التي أشرنا إليها وحدها تستمر في التأثير, وبالتالي هذا ما أدى بالمجتمع هنا أن يتحرر من إحدى العتلات الأساسية المحركة لتطوره الايجابي, وهي "الثقافة".

      إن الثقافة في هذا السياق, تحولت إلى أسلوب عمل يساعد على تحريك القوانين الوظيفية لاقتصاد الدولة, وللتنمية والعلم, وخلق قيم اجتماعية وأخلاقية وسياسية جديدة كالتي أشار إليها "ماكس فيبر", تخدم مصالح قادة النظام العالمي الجديد. أي إلى أداة لخلق قيم ونظام لا يطالهما التأثير, تتكئ على عقل أداتي في التفكير والممارسة, كل ما يراد منه هو إدارة الأرصدة بشكل جيد.                            

      إن نمذجة الثقافة في المجتمع الغربي والأمريكي في الصيغة التي تقدمنا بها أعلاه, دفعت بعلم أو دون علم, بعض الكتاب والمفكرين العرب لتسويقها في ساحتنا الثقافية, الأمر الذي زاد من حدّة وسعة الانزياح الثقافي في وطننا العربي, وبالتالي المساهمة أكثر في تعميم التخلف وتجذيره.  

               

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

 

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال