<%@ Language=JavaScript %> د.عدنان عويّد المثقف العربي بين شهوة السلطة وقِيَمْ الآيديولوجيا
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

 

المثقف العربي

 

 بين شهوة السلطة وقِيَمْ الآيديولوجيا

 

 

د.عدنان عويّد

 

     كثيرة هي الدراسات التي تناولت موضوعة المثقف وعلاقاته بالسلطة, أو المجتمع , وكثيرة هي أيضاً الدراسات التي تناولت مفهوم المثقف, أو مفهوم السلطة, وعبر الشروحات والتنظيرات والدراسات التي تناولت هذه المفاهيم, تعددت الآراء والرؤى, الأمر الذي ترك الباحث أو المهتم في هذه الموضوعات يجد نفسه أمام إشكالية حقيقية بالنسبة لتحديد تعريف كاف وواف لأي مفهوم من هذه المفاهيم, مع إيماننا طبعاً بنسبية المفاهيم, وأن التعريف يعني في المحصلة الجمود  كما يقول هيجل.

     يبدو أن إشكالية موقف السلطة والمثقف من بعضهما عبر التاريخ تركت لدى المهتمين بهمومهما من جهة, وهموم المجتمع من جهة أخرى, هاجساً غير عادي في البحث والتنظير معاً عن طبيعة هذه العلاقة, ودلالاتها ودورها في التأثير على تفعيل دور المثقف والسلطة من أجل تطوير المجتمع وتنميته. وهذا الهاجس ذاته هو من دفعني أيضاً لتناول هذه الموضوعة الإشكالية, والنظر في مفهومهم كل من المثقف والسلطة والأيديولوجيا, وطبيعة العلاقة بينها.

في المفهوم :

     أولاً : من هو المثقف؟: هل هو الباحث والمفكر في الشؤون السياسية والاجتماعية  والفكر المجرد عموماً؟, أم هو الأديب والفنان بكل ما تحمل المفردتان من دلالات؟, أم هو الأستاذ الأكاديمي المتخصص في أحد العلوم الإنسانية أو العلمية؟, أم هو كل هؤلاء انطلاقاً من موقعه الاجتماعي والسياسي  والوظيفي.

     يقول غرامشي في مفهوم المثقف قياساً لما جئنا عليه هنا: إن مفهوم المثقف أوسع من ذلك بكثير, فالمثقف عنده هو كل إنسان يمتلك رؤية معينة تجاه المحيط الذي يعيش أو ينشط فيه, لأن الثقافة في عرفه ليست مهنة, ولا معياراً يقسم المثقفين إلى طبقات وظيفية. وهذا التعريف برأيي صائباً من الناحيتين المنهجية والوظيفية معاً, علماً أن هناك الكثير من المفكرين والمنظرين ممن يلتقي مع هذا الفهم الذي تقدم به غرامشي للمثقف.

     عموماً نستطيع القول في هذا الاتجاه : إن المثقف من الناحيتين المنهجية والوظيفية هو من امتلك وعياً اجتماعياً وسياسياً ومهارات إبداعية خلاقة, وقدرة على توظيفها في المجتمع وقضاياه كافة تحليلاً وبناءً, وذلك وفقاً لمصالح قوى اجتماعية محددة. وهذا بالتالي ما يدفع إلى نمذجة المثقف قيمياً من الناحية  النظرية والعملية, ما بين مثقف سلبي, يمثله المثقف الانتهازي والوصولي والمتعصب والمهاتر, وكل من يقف ضد مصالح المجتمع, وآخر إيجابي يمثله أنموذج المثقف العضوي, الملتزم بتنمية المجتمع وتطويره.   

     ثانياً : ما هي السلطة : أيضاً تعددت الآراء والمواقف الفكرية حول مفهوم أو تعريف السلطة, بيد أن جل ما جاء حول هذا المفهوم كان يشير إلى أنها - أي السلطة - هي الدولة أو الحكومة, أو هي القوة المنتمية إلى  النظام الرسمي الدولاني المؤسساتي, ممثلة  بالقوى الحاكمة, التي تستطيع أن تهيمن على حياة ومقدرات الشعب, وتفرض الجزاءات بسلبها وإيجابها على أفراده, عبر مؤسساتها التنفيذية والقضائية والتشريعية .. الخ . أو بتعبير آخر: هي وسيلة مادية أو معنوية تمتلك في جوهرها قوة إخضاع للفرد والمجتمع سلباً أم إيجاباً, وفقاً لرغبة ومصالح منتجها وحاملها الاجتماعي, انطلاقاً من الفرد مروراً بالطبقة وصولاً إلى المجتمع ككل.

     ووفقاً لهذا المعطى, نجد للدولة سلطتها, وللمجتمع سلطته وللطبقة سلطتها, وللفرد سلطته. فسلطة الدولة تتجلى في أيديولوجيتها وفي قوانينها وأنظمتها وشخص الحاكم والطبقة التي يمثلها, ففي المجتمع مثلاً تتجلى في تقاليده وأعرافه, وكذلك في سلطة عشيرته وقبيلته وطائفته, كما تتجلى السلطة في قوة ومكانة شيخ العشيرة والقبيلة والطائفة, وفي الثقافة تتجلى السلطة في إبداعات الفنان والأديب والفيلسوف, وفي الصحافة والإعلام, وفي ما يسوّق لهذه القوى الاجتماعية أو تلك من مشاريع فكرية أو أيديولوجية ..الخ .

     ثالثاً : ما هي الآيديولوجيا ؟ : شأن الآيديولوجيا شأن المثقف والسلطة, حيث اختلف حول تعريفها الكتاب والسياسيون والمفكرون منهجاً ووظيفة أيضاً, - والسبب الرئيس في هذا الاختلاف, بالرغم من وجود أسباب كثيرة تصب في هذا الاتجاه -, يعود إلى ارتباط الآيديولوجيا بالسياسة, حيث أن كل سياسة وكل سلطة برأيي تضمنت أيديولوجيا, أو صادرت عليها صراحة أو ضمناً, كما أن كل أيديولوجيا تتضمن نظرة في المجال السياسي, تستهدف في النهاية الوصول إلى السلطة لتطبيق نظريتها في أضعف الإيمان. راجع كتابنا الآيديولوجيا والوعي المطابق- دار التكوين – دمشق  2006- ص19)

      لذلك فإن طبيعة الصراع السياسي الذي دار خلال الحرب الباردة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي هو صراع أيديولوجي, أو بتعبير آخر, هو صراع أيديولوجي بين النظامين, تجلى في المحصلة صراعاً  سياسياً يحمل في جوهره مصالح مادية, أي صراع مصالح  طبقية. وهذا الأمر ذاته ينطبق الآن على مسألة صراع الحضارات الذي روج وسوق له ومارسه عملياً قادة النظام العالمي الجديد, وهم طغمة الرأسمال الاحتكاري العالمي. فصراع الحضارات في جوهره صراع مصالح , تجلى عملياً كصراع سياسي , في الوقت الذي نظر له أيديولوجياً كصراع بين ثقافتين أو أكثر.   

     أما أوجه الاختلاف في التفسير أو التنظير للآيديولوجيا,  فأراها تتجلى في موقفين أساسيين, لهما حواملهما الاجتماعية ومفكروها, ممثلة بحكومات وأحزاب سياسية, ومؤسسات فكرية تعمل لمصالح قوى طبقية محددة .. الخ .

     الموقف الأول: هناك من أعاب الآيديولوجيا واعتبرها شكلاً من أشكال الوعي الزائف غير المنطبق على الواقع أو المسامت له, وهذا ما أكد عليه العروي مثلاً كأحد المتبنين لهذا الاتجاه, في كتابه, (مفهم الآيديولوجيا) حيث يقول : ( ليست الآيديولوجيا هي الفكرة المجردة أو العقيدة, وإنما هي الفكر غير المطابق للواقع),( راجع كتابنا - المصدر السابق ص35)   وبالتالي فهي في وظيفتها بناءً على هذا الرأي, ستعمل في الغالب على شد الكتل الاجتماعية نحو الأسطورة والوهم أكثر من شدها نحو الواقع والعقلانية. وهذا الموقف نجده أيضاً عند "منهايم وهيدجر". ( للاستزادة في ذلك راجع المصدر نفسه ص32 وما بعد)

     الموقف الثاني: وهو موقف من أشاد بها واعتبرها وعياً عقلانياً, كما هو الحال عند ألتوسير الذي عبر عنها بقوله : ( إن الآيديولوجيا تحول الفرد إلى ذات, أي تحوله من كائن غفل, أو رقم مجهول ضمن جماعة, إلى فرد واع بذاته, معتز بانتمائه للجماعة, ومنها لتقبل قيمها واختياراتها وأهدافها, أي في النهاية إلى ذوات تعتقد بأنها حرة وواعية وفريدة وفعالة وأساسية في الجماعة. ) ( راجع المرجع السابق ص52 ). هذا الموقف الايجابي ذاته نجده عند  "جورج لوكاش", أيضاً حيث يقول عنها : ( الآيديولوجيا هي تصور للعالم,هي بمثابة عقيدة تحفز لا على النظر, بل على العمل .. إنها ركيزة نظام اجتماعي وسياسي لأن المجتمع والدولة لا يقومان فقط على العنف, بل يقومان أيضاً على الآيديولوجيا.). ( المرجع السابق- ص46)  

     أما أهم ما يميز هذا الاتجاه أو الموقف الايجابي من الآيديولوجيا منهجياً ووظيفياً برأيي, هو التأكيد على أهمية مسألة الآيديولوجيا, من حيث كونها فكرة كبرى أنتجها الواقع المعيوش بحوامل اجتماعية, أرادت التعبير من خلال هذه الفكرة الكبرى ذاتها, عن مصالحها ومصالح الكتل الاجتماعية المؤمنة أو المرتبطة بها, مع إيمان هذه الحوامل بأن هذه الفكرة غير ثابتة أو مطلقة, طالما هي مرتبطة بالواقع الذي ساهم في إنتاجها وتحديد مكوناتها في فترة تاريخية محددة. وبالتالي فهي وفق هذا المعطى قابلة للتطور والتبدل بناءً على تطور وتبدل الواقع ذاته, ثم تبدل طبيعة المصالح والأهداف المتعلقة بحواملها, وبهذا تكون الآيديولوجيا قد تحولت من فكرة كبرى تعمل في حالة جمودها إلى ليّ عنق الواقع كي ينسجم معها دائماً, إلى (وعي مطابق) ينسجم مع الواقع ويعمل دائماً على تجديد نفسه بما ينسجم وحركة وتطور هذا الواقع, دون التخلي هنا عن الأهداف العريضة أو الإستراتيجية التي تتطلب فترات زمنية طويلة لتحقيقها, والتي تشكل – أي الأهداف العريضة – الملاط الذي يشد الكتلة الاجتماعية دائما للإيمان بهذه الآيديولوجيا والنضال من أجل تطبيقها على الواقع.

     بعد هذا العرض التحليلي لمفهوم كل من المثقف والسلطة الآيديولوجيا الذي تقدمنا به أعلاه, وبعد تأكيدنا على أن كل سلطة تتضمن في النتيجة أيديولوجيا أو تصادر عليها, وبالتالي كل آيديولوجيا تحمل في مضمونها مشروعاً سياسياً, نعود للنظر في مسألة أو موضوعة المثقف والآيديولوجيا, طرفي معادلة عنوان بحثنا .

     حتى لا ندخل في متاهات السلطة وطبيعتها في عالمنا الثالث بشكل عام,  ومنه وطننا العربي بشكل خاص, وقد تجرنا العاطفة هنا للدخول في النمذجة التي ستدفعنا لتوصيف الحكومات العربية والقول: إن هذا النظام العربي ليبرالي, وذاك ملكي دستوري, أو ملكي كلياني, أو إن هذا النظام جمهوري دستوري ذو سمة ليبرالية, وذلك جمهوري دستوري ذو نزعة شمولية ..الخ, - نقول حتى لا ندخل في هذه المتاهات -, فإن إلقاء نظرة عامة على طبيعة الأنظمة العربية بالرغم من نسبية التفاوت بينها في مسألتي (اللبرلة , أو الشمولة)  , إلا أنها جميعها عند المحك العملي, والتعرض مثلاً لأدنا هزة داخلية,(كما يجري الآن على الساحة العربية), تظهر على حقيقتها دولةً محكومة بعوامل تخلفها الاجتماعي والاقتصادي والسياسية والثقافي. دولة محكومة بأيديولوجيا العشيرة والقبيلة والطائفة والعسكرة, بالرغم من الجهد العالي الذي يحاول بعض الحكام العرب بذله عبر الإعلام الرسمي لدولهم (وهم قلة) من أجل تغطية مرجعيات هذه الآيديولوجيا/ السياسة التقليدية الخربة, والتي لم تزل تحفر وتستوطن عمقاً في تلافيف عقول وقلوب أبناء الشعب العربي, والتي يأتي أيضاً طموح مشروع حملتها هو الوصول إلى السلطة أكثر من بناء الدولة, الأمر الذي يدفع دائماً حملتها من القوى المسيطرة على الحكم أن تشدّد من قبضتها على السلطة خوفاً على نفسها أولاً أكثر من خوفها على مشروع الدولة ذاتها, لأن نتيجة تغيير السلطة ستنعكس سلباً على من هم في السلطة من قبل البديل, بسبب عقلية الثأر والانتقام, (عقلية الداحس والغبراء ) التي لم تزل تمارس نشاطها بأشكال مختلفة , بدءً من التصفية الجسدية للحاكم والمحكوم معاً, مروراً بإعطاء امتيازات السلطة الثقافية والتعليمية والإدارية العسكرية, وأخيراً تسييد مبدأ الثقة على مبدأ الكفاءة في منح هذه الامتيازات لأي كان من البيت الحاكم أو من خارجه من الموالين له. يضاف إلى ذلك, غالباً ما يغلب على قرارات الدولة وحتى في المسائل الإستراتيجية, عوامل التكتيك والتسويات المرحلية من أجل الحفاظ على السلطة, أكثر من العوامل الإستراتيجية والتأسيسية حفاظاً على مستقبل الدولة والمجتمع.

       وهذا في الحقيقة كله ساهم ويساهم دائماً في عرقلة مسيرة الدولة وإضعاف أو تغييب عمل مؤسساتها بشكل واعي ومنظم, مثلما يساهم في الإساءة أكثر للمشروع الأيديولوجي أو السياسي الذي تتبناه هذه القوى الحاكمة في هذه الدول ويكشف عوراته التدميرية للدولة والمجتمع .

      أمام كل هذه المعطيات, تأتي أيضاً مسألة إشكالية المثقف وتعقيداتها في بنية هذه الدولة. وربما الأسئلة التي سنطرحها على أنفسنا أدناه تشير أو تدل على عمق الإشكالية ذاتها:

     1- هل كل مثقف يعمل مع السلطة الحاكمة, في إعلامها ومؤسساتها الثقافية بحكم عمله الوظيفي الرسمي الذي تفرضه شهادته العلمي ومهاراته ولقمة عيشه, هو مثقف سلطة بمفهومها السلبي؟. أي هو مثقف انتهازي ووصولي ؟.

     2- هل كل مثقف من خارج السلطة, ويعمل على تحليل بنية الدولة تحليلاً عقلانياً, ويشير إلى محطات تخلفها وسلبيات عمل حواملها الاجتماعية إيماناً منه بتقدم هذه الدولة والنهوض بها, هو مثقف معارض ويعمل على إسقاط الدولة والتآمر عليها مع الخارج؟ .

     3- هل كل مثقف يحمل أو يؤمن بآيديولوجيا تتفق مع سياسة الدولة, أو مخالفة لأيديولوجيتها, هو مثقف سلطة, أوهو معارضاً متآمراً إن كان مخالفاً؟ .

     أعتقد أن هذه الأسئلة حيوية ومشروعة, وتتطلب منا الإجابة عليها في الوقت نفسه.

     إن مسألة تحديد مَنِ من المثقفين يدخل في خانة التآمر والخيانة على بلده وشعبه, مسألة ليست بحاجة لكثير من العناء حتى ُتحدد, فكل من ينتج أو يتبنى ويسوق بوعي وإرادة قائمة على معرفة مسبقة فكراً معادياً لوطنه قد طرحه عدو بلده, أو يلتقي معه بهذا الشكل أو ذاك في الطرح فهو خائن ومتآمر, وبالتالي من البداهة أن نقول أيضاً في هذا الاتجاه: إن كل من يشجع المستعمر على احتلال بلده أو تجويد صورت المستعمر واعتباره منقذاً لوطنه فهو خائن ومتآمر. ثم أن كل من ينتج ويسوق لفكر يدعو إلى تفتيت اللحمة الوطنية والقومية, كأن يدعو إلى الطائفية والمذهبية أو العشائرية أو القبليّة, فهو أيضاً متآمر على وطنه. وكذلك كل من ينتج ويسوق لفكر أصولي جمودي أو امتثالي أو أسطوري أو تغريبي أو استبدادي يساهم في ظلم أفراد المجتمع وتجهيلهم وعدم السماح لتطور المجتمع والدولة, فهو خائن ومتآمر. وأخيراً أن كل مثقف يعمل على محاربة الفكر التنويري والعقلاني ويبخس أي إنجاز تقدمي تفرضه ضرورات الحياة, كتحرير المرأة, وتشجيع الفن, ومحارب القيم والعادات والتقاليد البالية.. الخ , فهو بالضرورة خائن ومتآمر على وطنه ودولته.

     هذه برأي هي سمات وخصائص المثقف المتآمر والخائن لوطنه وشعبه, وهناك مثقفون آخرون يدعون العلمانية والليبرالية والتقدمية والدين الحنيف من رجال دين مشايخ وفقهاء, قد يدخلون في هذه الخانة ولكن بدرجة أقل, وهم من يدخل تحت إسم المثقف الانتهازي والوصولي والمهاتر, الذين يهمهم مصالحهم الشخصية فقط, وغالباً ما يعمل هؤلاء تحت مظلة السلطة, وتقتصر وظيفتهم على تجويد صورتها من خلال مواقع عمل رسمية تكلفهم بها الدولة والسلطة الحاكمة من أجل هذه  الغاية, في الوقت الذي تعرف فيه أن معظم هؤلاء لا تجد عندهم من الناحية المنهجية والمعرفية أي موقف استراتيجي ثابت سوى التطبيل والتزمير لها. وبالتالي انطلاقاً من إيمان هؤلاء المثقفين أنفسهم أيضاً, بأن مسألة التعاطي مع الثقافة ليست أكثر من كونها وظيفة سلطوية, وهي لا تستقيم مع شرف الكلمة, وأن أكثر ما يطمحون إليه في ممارستها غواية مادية ووجاهة ورفاهية, مع معرفتهم المسبقة بأن ما يقومون به سيفاقم من مأساة الواقع وثقل معاناته. هذا مع معرفة السلطة أيضاً النتائج الكارثية المترتبة على هذا التناغم بينها وبين هؤلاء المثقفين, إلا أنها غالباً ما تكون بحاجة في فترات معينة من تاريخها لمثل هؤلاء المثقفين المطبلين المزمرين, الذين تكسبهم السلطة صفة المعرفة لتبرير سياسات لها, ولكن الخطورة أن الاستمرار في الاعتماد على مثل هؤلاء الانتهازيين من المثقفين, هو تشكل ظاهرة ثقافية لا يعود من السهل القضاء عليها او تجاوزها, أو أن القوى الحاكمة ذاتها بسبب شهوة السلطة وممارستها اللاعقلانية تصبح بحاجة ماسة لمثل هؤلاء المطبلين والمزمرين.    

     بيد أن المأساة في ذلك, هي أن هؤلاء المطبلين, يصلون بدورهم إلى مرحلة يعتقدون فيها أنهم وحدهم من يحق له أن يقود العملية الثقافية والتنظير والتخطيط لها في الدولة.

     أما بالنسبة لمثقف المعارضة, فطالما أن المشروع الأيديولوجي الذي تتبناه المعارضة يتجه نحو النقد الإيجابي لمواقع فشل خطط ومشاريع الآيديولوجيا الحاكمة ممثلة بحواملها الاجتماعية, وبعيداً عن استخدام العنف, فهناك من استوعبها من الأنظمة الحاكمة الرسمية وهجنها مع مرور الأيام بإعطائها قسماً صغيراً من حصة الفطير, وسمح لها أن تمارس نشاطها السياسي والثقافي, وأن يكون لها مقراتها ونشاطاتها الخاصة بها, الأمر الذي حولها إلى قوى سياسية أخذت تدافع عن النظام الحاكم أكثر من النظام نفسه. أما في حال عدم رضوخ هذه المعارضة للنظام الحاكم, وخروجها عن نشاطها السلمي, فتبدأ القوى الحاكمة بملاحقتها والتنكيل بقياداتها أو النشطاء منها واتهامها بالتآمر والتخريب والانتماء للإرهاب.

     ما يلفت النظر هنا في معظم أنظمتنا العربية, أن طبيعة التكالب على السلطة من قبل من هم في سدتها, ومحاولة الحاكم الذي غالباً ما يكون "فرد" حتى في الأنظمة التي تقودها أحزاب, نجد أن مسألة العلاقة بين المعارضة والسلطة, تشوبها حالات النفي والتضاد أو عدم القبول بالآخر, طالما أن دستور الدولة لا يقر بدوام السلطة وتوريثها, لذلك غالباً ما نجد النظام الذي يتبنى أيديولوجيا تقدمية, - علماً أن من بقي منها بدأ يتخلى عن كثير من طموحاتها الأيديولوجية لمصلحة اقتصاد السوق وحوامله الاجتماعية - يرفض من قبل المعارضة الإسلامية والليبرالية معاً, في الوقت الذي ُتواجه فيه المعارضة من قبل هذا النظام الرفض بالمثل, رغم أن الأنظمة التقدمية لا تناصب الدين العداء من جهة, وتسعى قدر الإمكان إلى أرضاء الليبرالية بهذا الشكل او ذاك من جهة ثانية, تارة تحت مظلة اقتصاد السوق , وتارة تحت مظلة المشاركة الاقتصادية .. الخ.

     أما الأنظمة ذات التوجه الديني, فهي في توجهها العام ضد أي معارضة تقدمية أو ليبرالية, أو حتى دينيّة إذا شعرت أن هذه المعارضة الدينية تشكل خطراً على النظام والقوى الحكمة باسم الدين, فالمعارضة التقدمية تقوّم عندها بالكفر والزندقة, والليبرالية لا يسمح لنشاطها إلا في الجانب الاقتصادي , ومنه اقتصاد السوق بشكل خاص, أما على المستوى السياسي الذي يقر بالمجتمع المدني وتبادل السلطة, فهذا أمر غير مسموح به.       

      عموماً نقول في هذا الاتجاه: إن حضور شهوة السلطة أولاً, ثم فقدان وعي وممارسة الديمقراطية لدى السلطة والمعارضة معاً, تعتبر من أبرز معوقات تحقيق العلاقة الايجابية بين طرفي المعادلة (المثقف والسلطة) , بيد أن حضور شهوة السلطة وغياب الديمقراطية, لا يقف على عوامل ذاتيه تتعلق بكلا طرفي المعادلة فحسب, بل تتعلق وبشكل أكثر قوة وحيوية بالظروف الموضوعية للواقع العربي المتخلف, لذلك غالباً ما نجد أن الأنظمة التي تتعاطى مع الديمقراطية بشكل واسع تكثر فيها الحروب الأهلية, والصراعات الدينية والأقلية (لبنان أنموذجاً) .. الخ. الأمر الذي تأتي فيه النتائج أفضل في المحصلة من حيث استقرار المجتمع والدولة معاً, لصالح بقية الأنظمة التي تغيب فيها الديمقراطية, ويلعب فيها الحاكم (الكاريزما) دور البطل, علماً أن هذه الأنظمة الشمولية في مضمونها غالباً ما تضطر تحت ضغط ظروف محلية أو خارجية إلى إعطاء هامش للديمقراطية بنسب أكثر مما هو معطى في الواقع, تقدرغالباً سعة هذا الهامش الديمقراطي او ضيقه, الطبقة الحاكمة, بما يخدم مسألة الاستقرار الاجتماعي والنظام الحاكم على السواء.

     هذا دون أن نغفل هنا القول: إن مسألة تداول السلطة في أمريكا والغرب مثلاً, ليست بأحسن حال منها في دولنا العربية, فالسلطة في الغرب منذ قيام الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات ساهمت في القضاء على الأنظمة الاستبدادية الملكية, وعملت على نشر مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية في هذه الدول, ظلت السلطة تدور في نطاق من يمثل اقتصاد السوق والليبرالية, بالرغم من أن هناك أحزاباً تدعي الاشتراكية قد وصلت إلى السلطة, علماً أن مسألة المعارض السياسية والسلطة الحاكمة هناك ظلت تقتصر في الغالب على حزبين يتداولانها بشكل دائم. مع إيماننا بأن هناك مساحة واسعة للديمقراطية الاجتماعية, وحرية الكلمة والرأي, نفتقد نحن للكثير منها. 

المثقف القدوة :      

     أخيراً نقول حول المثقف القدوة, أو المثقف العضوي على حد تعبير "غرامشي" : إن المثقف القدوة هو المثقف الذي استطاع منهجياً ووظيفياً أن يمتلك القدرة النقدية في التعامل مع الواقع تحليلاً وتركيباً, لمعرفة الكثير من معوقات تقدمه, وما ينتجه هذا الواقع من تخلف على كافة المستويات. وبالتالي غالباً ما يشكل هذا المثقف جزءاً من التركيبة الثقافية في بلده, حيث يساهم هنا وهناك بنشاطاتها, إن كان من خلال عمله الوظيفي الرسمي, أو من خلال مؤسسات ثقافية أهلية, وذلك إيماناً منه بضرورة التأسيس لوعي وثقافة عقلانية وتنويرية في وطنه, يمكن نشرها عبر ما هو متاح له من وسائل ثقافية تسمح بها ظروف نشاطه الثقافي والفكري, وقد كان  من بين هؤلاء المثقفين من شكل أحزباً سياسية لعبت دوراً هاماً في حياة المجتمعات, أو من نظر لخلق أيديولوجيات قومية ووطنية مشبعة بالحس الإنساني, ومنهم أيضاً من ساهم في تطوير الكثير من الأنساق المعرفية والابداعية في الفلسفة والفن والأدب وكان من المشاركين في السلطة .

 

 

 

 

  

   

 

  

     

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا