الحرب الثقافية في العراق عبد الحسين شعبان كشف اتحاد الحقوقيين العرب في ندوة متخصصة بالتعاون مع منظمة الصليب الأحمر الدولية، حجم الدمار الذي أصاب الآثار والممتلكات الثقافية العراقية، وتوقف بعض المفكرين والحقوقيين والخبراء عند المسؤولية التي يرتّبها القانون الدولي، على السرقة والاتجار بالممتلكات الآثارية والثقافية، ناهيكم عن تدميرها وإتلافها، سواءً كان بقصد أو جرّاء العمليات الحربية، وهو ما تورّطت به القوات المحتلة خلافاً لقواعد القانون الدولي الانساني . وإذا كانت اليونسكو قد أطلقت نداءً يقضي بوجوب إعادة المسروقات الأثرية، فإن ذلك يستوجب تحديد المسؤوليات والقيام بملاحقات قضائية لتلك الارتكابات والانتهاكات، وهو ما تقاعس عنه مجلس الأمن الدولي حتى الآن، حيث تُركت المواقع الآثارية عرضة للنهب، بما فيها المكتبات والمخطوطات والمتاحف، وبخاصة متحف بغداد الشهير، بما يحتوي من كنوز لا تقدّر بثمن . ولكن ماذا استهدف المحتلّون من نهب المتاحف وإتلاف وسرقة الآثار وحرق وتدمير المكتبات والمخطوطات، وملاحقة وقتل الأكاديميين والعلماء العراقيين؟ هل هي مجرد رغبة همجية بالانتقام أم أن الحرب الثقافية هي جزء أساسي من الحرب المعلنة على العراق؟ لعل فكرة “الصدمة والترويع” كانت تستهدف الهوية والذاكرة والتراث الثقافي والتاريخي للعراق، حيث كشفت خطط الحرب أن “التطهير الثقافي” وهو عنوان كتاب صدر في القاهرة مؤخراً عن دار “الشروق”، جزء من خطة طويلة الأمد في إطار ما سمّي “الفوضى الخلاّقة”، فتدمير الممتلكات الثقافية لا تقلّ أهمية عن تدمير المنشآت الحيوية والاقتصادية والهياكل الارتكازية والبُنى التحتية، ناهيكم عن التدمير النفسي والمعنوي للعنصر البشري . وهكذا تظهر الصورة التي نقلتها شاشات التلفاز عن عمليات نهب وحرق وتدمير مؤسسات الدولة العراقية عن فعل قصدي، وعن سابق إصرار وترصّد، فلم تكن مجرد ردود فعل عفوية أو من عمل رعاع حسب، بل هي جزء مدروس من عمليات مبرمجة طبقاً لتصريحات وزير الدفاع الامريكي دونالد رامسفيلد، الذي قال مبرراً تلك العمليات: “الحرية عادة ما تتسم بالفوضى”، ولم يرّف للقوات المحتلة جفن عندما فتحت أبواب المكتبات والمتاحف والجامعات وتركتها مشرّعةً أمام النهب “المتعمّد” مما يلقي عليها مسؤولية قانونية . لقد ادّعت القوات المحتلة أنها جاءت للقضاء على نظام دكتاتوري استبدادي، لكنها ذهبت إلى حل الدولة ومؤسساتها وعرّضت ممتلكاتها الثقافية ومؤسساتها للسرقة والتدمير، تحت حجة التفكيك وإعادة البناء، ومحو ما تم كتابته على لوح “الدولة السابقة”، لكي تأتي الولادة جديدة “نظيفة” من الماضي، بكل ما فيه، فسعت الى عملية هدم وتدمير وسرقة للمكتبات والكتب والسجلات الحكومية وغيرها، إضافة الى عمليات نهب منظم طالت المتاحف والممتلكات الثقافية، وشمل الأمر لاحقاً العقول والأدمغة العراقية، والهدف هو كما صرّح جورج شولتز، إعادة العراق الى العصر الحجري . لعل الثمن الفادح الذي دفعه العراق، ليس فقط بسبب الخسائر البشرية وتدمير بنيانه التحتي، بل كان هويته الثقافية وآثار حضاراته القديمة وتراثه العربي- الاسلامي ومخطوطاته وكتبه وجامعاته وعقوله . وكانت قرارات بريمر ال 99 التي اتخذها منذ أن حطّ رحاله في العراق (مايو/أيار 2003 ولغاية أواخر يونيو/حزيران 2004) قد سارت ضمن خطة مبرمجة، حتى وإن اتسمت في بعض الأحيان بالارتجالية أو ردود الفعل وعدم الكفاءة، لكن ما كان واضحاً هو تجريد الهوية العراقية وتجويف محتواها وتحويلها الى مجرد هويات فرعية لا يجمعها جامع مع بعضها، بل هويات متنافرة ومتصارعة اثنياً ومذهبياً، وكذلك تهميش دور العراق العربي وشطب العراق من توازن القوى في المنطقة، لاسيما إزاء الصراع العربي- “الإسرائيلي” ناهيكم عن السيطرة على مصادره الطبيعية . ولم تتورع القوات المحتلة من بناء قواعد عسكرية بالقرب من المواقع الآثارية مثل أور وبابل ونينوى، ولم يكن النهب الذي تم تصويره في الأيام الاولى قد توقف، لكن نهباً منظماً وغير عشوائي كان قد أخذ طريقه في خضم تلك الفوضى المطلوبة، الأمر الذي يعتبر جريمة حرب تضاف الى الجرائم المرتكبة بحق البشر . ولم تكشف التحقيقات أية عمليات نهب حتى الآن على كثرة الادعاءات بالملاحقة والوعود بمقاضاة المرتكبين، فالجرائم المرتكبة لا تزال تسجّل ضد مجهول، رغم أن الكثير من الكبار والصغار مساهمون فيها، فإنهم من يعلن ذلك أحياناً، على نحو مقصود إما لذرّ الرماد في العيون أو لإبعاد الشبهة . ولم تفلح جهود مفوضية النزاهة في شيء حتى الآن، فيما يتعلق بالفساد المالي والإداري، ناهيكم عن تزامن وتداخل ذلك مع وجود عصابات متخصصة، بحيث كانت تعرف ما تريد، وقامت بسرقات منظمة لقِطَع ومحفوظات ومخطوطات من المتحف العراقي ودار المخطوطات والمكتبة الوطنية، وتم نقل جزء من الأرشيف الوطني والأرشيف الخاص بالحزب الحاكم سابقاً إلى الولايات المتحدة خلافاً لقواعد القانون الدولي الإنساني . إن الخسارة الحقيقية للعراق أيضاً هي في التدمير المنهجي للعقول والأدمغة وللذاكرة العراقية، فقد قُتل أكثر من 350 عالماً واستاذاً جامعياً وما يزيد على 300 صحافي وأعداد أخرى من المثقفين، الأمر الذي يتطلب جهداً إنسانياً وجماعياً دولياً من جانب المؤسسات والمنظمات الحقوقية لمقاضاة المسؤولين واستعادة الآثار المنهوبة، وهو ما يضع على عاتق الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو (للثقافة والتربية والعلوم) مسؤوليات إضافية، إذ إن عليهما اتخاذ إجراءات تحقيقية وعقابية لاستعادة جميع المسروقات بالتعاون مع القضاء الدولي، حيث إن القانون الدولي الإنساني، ولا سيما الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية، والتي أعقبت اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبالتحديد في العقود الخمسة الماضية، تحظر تصدير واستيراد الممتلكات . وطبقاً لاتفاقية لاهاي لعام 1954 والتي دخلت حيّز التنفيذ منذ العام ،1956 إضافة إلى البروتوكول الأول الملحق بها وكذلك اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام ،1972 والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام ،1998 والبروتوكول الثاني الملحق باتفاقية لاهاي لعام ،1999 الذي تضمن تحديد مسؤوليات جنائية ومدنية، فإن قواعد قانونية جديدة منظمة أخذت طريقها لملاحقة مرتكبي الجرائم بحق الآثار والممتلكات الثقافية، وقد دخل هذا البروتوكول المهم حيّز التنفيذ العام ،2004 ونص البروتوكول الثاني وكذلك نظام محكمة روما على الاختصاص القضائي الدولي فيما يتعلق بذلك، وكانت محكمة يوغسلافيا الدولية قد وجهت الاتهام إلى تدمير الممتلكات الثقافية . ومن الاتفاقيات الأخرى التي تحمي الآثار الثقافية اتفاقية حماية التراث الثقافي المطمور بالمياه لعام ،2001 وكذلك اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لعام 2003 واتفاقية حماية وتعزيز وتنوّع أشكال التعبير الثقافي لعام 2005 . ولعل قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 الصادر في 22 مايو/أيار العام 2003 والذي “شرعن” الاحتلال، واعتبر القوات الأمريكية محتلة طبقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1949 كان قد شدد على ضرورة احترام تراث العراق، الأمر الذي يضع مسؤوليات جنائية ومدنية على الدول والأفراد، وهو ما ذهب اليه بروتوكول لاهاي الثاني الذي أكد مبدأ التعويض، إضافة إلى المسؤولية الجنائية الفردية، التي تقضي وجوب مقاضاة المرتكبين، لا سيما تحميل القيادة العسكرية مسؤولية في ذلك . إن على الدول التي تتعرض آثارها للسرقة أن تستعين بالدول الأخرى، وأن تشترك في الأعمال الدولية لوضع التدابير المناسبة لمراقبة الصادرات والواردات والتجارة الدولية في الممتلكات الثقافية، كما جاء في اتفاقية اليونسكو لعام ،1970 التي أكدت: أن نقل الممتلكات الثقافية وتصديرها من قبل دولة الاحتلال الأجنبي يعتبر عملاً غير مشروع، وعلى الدول الموقعة على هذه الاتفاقية قبول دعاوى لاسترداد المسروقات والمفقودات الثقافية وتسليمها إلى أصحابها الشرعيين . ورغم استعادة بعض المنهوبات، فإن الجهد الحكومي العراقي، فضلاً عن دور المنظمات غير الحكومية، ما زال قاصراً . والجدير ذكره، أنه لا يمكن اغفال مسؤولية الحكومة العراقية أيضاً، بحكم الدستور العراقي النافذ إذ لا بدّ من التحرّي بجدية وفاعلية عن الآثار والقِطَع المسروقة والمدمّرة والجهات التي تقف وراء هذا التدمير وضرورة الكشف عنها وتقديمها إلى القضاء، ومطالبة الجهات المحتلة إخلاء هذه الأماكن وتعويض العراق عنها وذلك طبقاً لنص المادة 50 من الدستور، وكذلك كشف بعض المتواطئين معها . إن حماية الممتلكات الثقافية والحضارية يتطلب أولاً وقبل كل شيء السعي لاستعادة المنهوبات وترميم وصيانة وحفظ وتوثيق ما هو موجود وتوفير المستلزمات المادية والمعنوية لذلك عراقياً وبمساعدة دولية . وثانياً، إصدار تشريعات قانونية وإنزال أقسى العقوبات ضد السرقة والتخريب وذلك بهدف الحفاظ عليها، وتأسيس أجهزة أمنية وقضائية متخصصة لتنفيذ ذلك والحرص على سلامة المواقع ومنع الاعتداء عليها، وكذلك تحريم الاتجار بالممتلكات والآثار الثقافية، والمعاقبة عليها .
باحث ومفكر عربي |
صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 9/12/2009
الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | طلبة وشباب | المرأة | الأطفال | إتصل بنا |
---|
مقالات مختارة |
صوت اليسار العراقي صحيفة تصدرها نخبة من المثقفين والكتاب اليساريين العراقيين |
|
---|