Untitled Document

أسس اللينينية


جوزيف ستالين


- 9 -
الأسلوب في العمل

ليس المقصود هنا الأسلوب الأدبي. وإنما أريد أن أحدثكم عن الأسلوب في العمل، عن هذه الميزة الخاصة الفريدة في نشاط اللينينية العملي، الذي يخلق نوعاً خاصاً من المناضلين اللينينيين. إن اللينينية هي مدرسة نظرية وعملية تكّون نوعاً خاصاً من المناضلين في الحزب كما في جهاز الدولة، ويخلق أسلوباً خاصاً في العمل، هو الأسلوب اللينيني.
ماهي الخطوط المميزة لهذا الأسلوب؟ ما هي خصائصه؟
لهذا الأسلوب خاصتان اثنتان:
أ) الاندفاع الثوري الروسي.
ب) الروح العملية الأميركية.
وأسلوب اللينينية هو الجمع بين هاتين الخاصتين في العمل في داخل الحزب وفي جهاز الدولة.
فالاندفاع الثوري الروسي هو ترياق ضد الجمود والرتابة وروح المحافظة، وركود الفكر، والخضوع العبودي لتقاليد الأجداد. إن الاندفاع الثوري الروسي هو تلك القوة المحيية التي توقظ الفكر، وتدفع إلى أمام، وتحطم الماضي، وتفتح الآفاق. وبدون هذا الاندفاع، لا يمكن وجود أية حركة إلى أمام.
ولكن الاندفاع الثوري الروسي، يظل دائماً عرضة لأن يتحول، في النشاط العملي، إلى مانيلوفية(44) "ثورية" فارغة، إذا لم يتحد مع الروح العملية الأميركية في العمل. والأمثلة على مثل هذا التحول أكثر من أن تحصى. فمن منا لا يعرف داء تكلف الابتكار "الثوري" وهو من البرامج "الثوري" هذا الداء الناشئ عن الايمان الأعمى بقدرة المرسوم الذي يستطيع أن يدبر كل شيء، ويبدل كل شيء؟ في قصة عنوانها أوسكو متشيل (الإنسان الشيوعي الكامل) صوَّر كاتب روسي، هو أ. أهرنبرغ، طراز الشخص "البلشفي" المصاب بهذا الداء، وقد اختط لنفسه هدفاً هو وضع تصميم للإنسان الكامل والمثالي، فكان.. أن "غرق" في هذا "العمل". في هذه القصة قسط كبير من المبالغة، ولكن مما لا ريب فيه أنها قد أحسنت تصوير هذا الداء. ويبدو لي، مع ذلك، أنه ما من احد قط سخر بهؤلاء المرضى سخرية قاسية لاذعة كما فعل لينين.
"الغرور الشيوعي"، هكذا كان لينين ينعت هذا الايمان المريض بالابتكار المتكلف وهوس المراسيم. يقول لينين:
"إن الغرور الشيوعي هو صفة رجل عضو في الحزب الشيوعي، إلا أنه لم يطرد منه بعد، يتصور أن بوسعه أداء جميع مهماته عن طريق المراسيم الشيوعية".(خطاب القي في المؤتمر الثاني لشغيلة التعليم السياسي في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية، في 17 تشرين الأول 1921 المؤلفات، المجلد 27 الصفحة 50 – 51).
لقد كان لينين عادة يجابه الهدر "الثوري" بالمهمات العادية اليومية مشيراً بذلك إلى أن تكلف الابتكار "الثوري" مضاد للينينية الحقة روحاً ونصاً. لقد كان يقول:
"يلزمنا الإقلال من العبارات الطنانة، والإكثار من العمل البسيط اليومي..
يلزمنا الإقلال من الثرثرة السياسية، والإكثار من الانتباه لأبسط الوقائع التي هي، مع ذلك، حيوية للبناء الشيوعي". ("المبادرة الكبرى").
إن الروح العملية الأميركية هي، على العكس، ترياق ضد المانيلوفية "الثورية" والابتكارات الخيالية. إن الروح العملية الأميركية هي القوة التي، لا تُكبح ولا تعرف العقبات ولا تعترف بها، هي القوة التي، بثباتها الحاذق، تكتسح العقبات من كل نوع وكل درجة، ولا تحجم عن السير إلى النهاية بالمهمة التي تبدأها، مهما كانت ضئيلة الشأن، انها القوة التي بدونها لا يمكن تصور عمل بنائي جدي.
ولكن الروح العملية الأميركية عرضة دائماً لأن تنقلب إلى ضرب من الروح التجاري الضيق الخالي من المبدأ، إذا هي لم تقترن بالاندفاع الثوري الروسي. ومن منا لا يعرف داء الممارسة الضيقة وداء الروح التجاري الخالي من المبدأ، هذا الداء الذي يؤدي غالباً ببعض "البلاشفة" إلى الانحطاط والتخلي عن القضية الثورية؟ إن هذا الداء الخاص قد وصفه ب. بيلنياك في روايته: السنة العارية، حيث يعرض المؤلف نماذج من "البلاشفة" الروس المملوئين إرادة وتصميماً عملياً، وهم "يعملون" بكثير من "الهمة"، ولكنهم لا آفاق لهم، ولا يعرفون "لا ماذا ولا لماذا"، وهم، لهذا، ينحرفون عن جادة العمل الثوري. ولم يسخر أحد من داء الروح التجاري هذا مثل سخرية لينين اللاذعة. "ممارسة ضيقة" و"وروح تجارية خرقاء"، هكذا كان ينعت هذا الداء. وكان يجابهه، عادة، بالعمل الثوري الحي وبضرورة وجود الآفاق الثورية في أقل مهمة من أعمالنا اليومية، مشيراً بذلك إلى أن الروح التجاري الخالي من المبدأ هو أيضاً مضاد للينينية الحقة كتكلف الابتكار "الثوري".
إن الاندفاع الثوري الروسي، مقترناً بالروح العملية الأميركية، ذلك هو جوهر اللينينية في عمل الحزب والدولة.
إن هذا الاقتران فقط هو الذي يعطينا النموذج الكامل للمناضل اللينيني وأسلوب اللينينية في العمل.



(44) راجع الشرح في الهامش رقم 35



- 1 -
الشروط الخارجية والداخلية لثورة أكتوبر


إن السهولة النسبية التي تمكنت بها الثورة البروليتارية في روسيا من تحطيم أغلال الامبريالية، وكذلك من الإطاحة بسلطة البرجوازية تتحدد بثلاث ظروف خارجية.
أولاً، لقد بدأت ثورة أكتوبر في مرحلة الصراع المسعور بين الكتلتين الامبرياليتين الرئيسيتين الانكليزية - الفرنسية و النمساوية - الألمانية، في الوقت الذي ما كانت فيه هاتان الكتلتان، المنهمكتان في صراع حتى الموت فيما بينها. تملكان لا الوقت ولا الوسائل للاهتمام بصورة جدية بمكافحة ثورة أكتوبر. ولقد كان لهذه الظروف أهمية فائقة بالنسبة إلى ثورة أكتوبر إذ أتاح لها أن تستفيد من المصادمات الحادة في معسكر الامبريالية لتوطد قواها وتنظمها.
ثانياً، لقد بدأت ثورة أكتوبر إبان الحرب الامبريالية، في الوقت الذي كانت فيه الجماهير الكادحة، المرهقة بالحرب والطامحة إلى السلم، منقادة، بحكم منطق الأشياء بالذات، نحو الثورة البروليتارية باعتبارها منفذ النجاة الوحيد من الحرب. ولقد كان لهذا الظرف أكبر الأهمية بالنسبة إلى الامبريالية إذ وضع بين يديها أداة السلم القوية وأتاح لها إمكانية ربط الثورة السوفياتية بتصفية الحرب البغيضة وأكسبها بذلك عطف الجماهير سواء في الغرب بين العمال أم في الشرق بين الشعوب المضطهدة.
ثالثاً، وجود طبقة عاملة قوية في الغرب، ونضوج الأزمة الثورية، المتولدة عن الحرب الامبريالية الطويلة، في الغرب وفي الشرق. ولقد كان لهذا الظرف بالنسبة إلى الثورة الروسية أهمية لا تقدر بثمن لها حلفاء أوفياء خارج روسيا، في نضالها ضد الامبريالية العالمية.
ولكن بالإضافة إلى الظروف الخارجية - مهدت الطريق لثورة أكتوبر جملة من شروط داخلية سهلت لها الانتصار.
ويجب أن نميز من هذه الشروط التالية:
أولاً، لقد كانت ثورة أكتوبر تتمتع بالتأييد الأكثر فعالية من جانب الغالبية الساحقة من الطبقة العاملة في روسيا.
ثانياً، لقد كانت ثورة أكتوبر تتمتع بالتأييد الأكيد من جانب الغالبية الساحقة من الطبقة الفلاحية الفقيرة وغالبية الجنود الطامحين في السلم والأرض.
ثالثاً، لقد كان يقف على رأسها، كقوة قائدة، ذلك الحزب البلشفي، القوي لا بتجربته وانضباطه الذي أحكمت أواصره السنون فحسب، بل أيضاً بصلاته الواسعة مع الجماهير الكادحة.
رابعاً، لقد كانت ثورة أكتوبر تتمتع بالتأييد الأكثر فعالية من جانب الغالبية الساحقة من الطبقة العاملة ثورة أكتوبر تواجه أعداء يسهل نسبياً قهرهم ويتمثلون في البرجوازية الروسية الضعيفة بهذا القدر أو ذاك، وفي طبقة كبار الملاك العقاريين التي كانت معنوياتها قد انهارت تماماً بفعل " التمردات" الفلاحية، وفي الأحزاب التوفيقية ( المناشفة والاشتراكيين – الثوريين) التي كانت قد أفلست تمام الإفلاس إبان تلك الحرب.
خامساً، لقد كان في متناولها المساحات الشاسعة لدولة فتية، الأمر الذي أتاح لها إمكانية المناورة بحرية، فكانت تتراجع متى اقتضى الموقف ذلك وتسترد أنفاسها وتعيد تجميع قواها إلخ...
سادساً، لقد كان وسع ثورة أكتوبر أن تعتمد في صراعها مع الثورة المضادة، على كمية كافية من القوت والوقود والمواد الأولية داخل البلاد.
هذه الشروط الخارجية والداخلية مجتمعة أوجدت وضعاً خاصاً حدد السهولة النسبية لانتصار ثورة أكتوبر.
هذا لا يعني البتة، بالطبع، إن ثورة أكتوبر لم تواجه ظروفاً سالبة، في الخارج وفي الداخل سواء بسواء. ويكفي أن نعيد إلى الذهان، على سبيل المثال، ذلك الظرف السالب المتمثل في عزلة ثورة أكتوبر من بعض الوجوه وفي عدم وجود قطر سوفياتي مجاور إلى جانبها كان بوسعها الاعتماد عليه. وأنه لما لا يرتقي إليه الشك أن الثورة القادمة، في ألمانيا على سبيل المثال، ستجد نفسها، من هذا المنظور، في وضع انسب بحكم وجود قطر سوفياتي مرموق القوة، هو اتحادنا السوفياتي، في جوارها. وإنني لأضرب صفحاً عن ذلك الظرف السالب الآخر لثورة أكتوبر الناجم عن عدم وجود غالبية بروليتارية في البلاد.
بيد أن الظروف غير الموائمة إنما تبرز الأهمية الكبرى لذلك الوضع الفريد الذي كانت تمثله الشروط الخارجية والداخلية لثورة أكتوبر على نحو ما فصلنا آنفا.
هذا الوضع الفريد يجب ألا يغيب عن أنظارنا ولو للحظة واحدة. ومن الأجدر بنا أن نتذكره بوجه خاص عندما نحلل أحداث 1923، في ألمانيا. وعلى تروتسكي قبل أي إنسان آخر أن يتذكر ذلك، هو الذي يقيم دفعة واحدة تناظرا بين ثورة أكتوبر والثورة في ألمانيا، وينهال بسياطه دونما رادع على الحزب الشيوعي الألماني لأخطائه الواقعية والمزعومة.
يقول لينين:
"لقد كان سهلا على روسيا، نظرا للوضع الفريد من نوعه إلى ابعد الحدود في عام1917، أن تبدأ الثورة الإشتراكية، في حين أن الاستمرار بها وقيادتها إلى خاتمة مطافها سيكون أصعب عليها مما على الأقطار الأوروبية. وقد سبق أن أتيحت لي الفرصة، في مستهل 1918، للتنويه بهذه الواقعة، ولقد أكدت تجربة عامين من الزمن طريقتي في تصور الأشياء. إن شروطاً نوعية مثل:
1. إمكانية ربط الثورة السوفياتية بوقف الحرب الامبريالية- بفضل هذه الثورة- تلك الحرب التي كانت تعرض العمال والفلاحين إلى عذابات لا تصدق.
2. إمكانية استغلال الصراع المستميت بين أقوى كتلتين في العالم من الكواسر الامبرياليين لحين من الزمن بعد عجزهما عن الاتحاد ضد العدو السوفياتي.
3. إمكانية الصمود في حرب أهلية طويلة الأمد نسبيا بفضل ترامي أطراف البلاد وسوء وسائل مواصلاتها جزئيا.
4. وجود حركة ثورية ديمقراطية برجوازية بالغة العمق في صفوف الطبقة الفلاحية إلى درجة أمكن معها لحزب البروليتاريا على السلطة السياسية- إن شروطا نوعية كهذه لا وجود لها في أوروبا الغربية في الوقت الراهن، وتجدد شروط مماثلة أو مشابهة ليس سهلا البتة. ولهذه الأسباب مجتمعة، بالإضافة إلى مجموعة من الأسباب الأخرى، فإن البدء بالثورة الاشتراكية سيكون أصعب على أوروبا الغربية مما علينا ". (مرض الطفولة- المجلد 25، ص 205، الطبعة الروسية).
إن كلمات لينين هذه لا يجوز لنا أن ننساها


- 2 -
حول خاصتي ثورة أكتوبر
أو ثورة أكتوبر و نظرية تروتسكي
في الثورة الدائمة

إن لثورة أكتوبر خاصتين لا غنى عن تفهمهما لإدراك المعنى الداخلي والأهمية التاريخية لهذه الثورة.
فما هاتان الخاصتان؟
الخاصة الأولى أن دكتاتورية البروليتاريا ولدت عندنا كسلطة منبثقة على أساس تحالف البروليتاريا وجماهير الفلاحين الكادحة بقيادة البروليتاريا. والخاصة الثانية أن دكتاتورية البروليتاريا توطدت عندنا كنتيجة لانتصار الاشتراكية في بلد واحد ضعيف التطور رأسماليا، بينما لا تزال الرأسمالية قائمة في البلدان الأخرى الأرقى تطوراً من وجهة نظر الرأسمالية. هذا لا يعني، بالطبع، أن ثورة أكتوبر لا تتسم بخواص أخرى. ولكن ما يهمنا في الوقت الراهن هو على وجه التحديد هاتان الخاصتان، لا لأنهما تعبران بوضوح عن ماهية ثورة أكتوبر وحسب، بل أيضاً لأنهما تبرزان على نحو مرموق الطبيعة الانتهازية لنظرية الثورة الدائمة .
لندرس باقتضاب هاتين الخاصتين.
إن مسألة الجماهير الكادحة التي تنتمي إلى البرجوازية الصغيرة المدينية والريفية ومسألة جذب هذه الجماهير إلى جانب البروليتاريا هي مسألة أساسية في الثورة البروليتارية. فلمن سيمحض الشعب الشغيل في المدينة و الريف تأييده في الصراع على السلطة، أللبرجوازية أم للبروليتاريا؟ و لمن سيصبح احتياطيا، أللبرجوازية أم للبروليتاريا؟ - إن مصير الثورة ورسوخ دكتاتورية البروليتاريا مرهونان بذلك. فلقد أخفقت ثورتا 1948 و1871 في فرنسا لأن الاحتياطي الفلاحي بوجه خاص وقف إلى جانب البرجوازية. و لقد انتصرت ثورة أكتوبر لأنها عرفت كيف تنتزع من البرجوازية احتياطيها الفلاحي، ولأنها عرفت كيف تدفع بهذا الاحتياطي إلى جانب البروليتاريا، ولأن البروليتاريا كانت في هذه الثورة القوة القائدة الوحيدة لجماهير الشعب الشغيل التي لا يحصى لها عد في المدينة والأرياف.
ومن لم يفهم ذلك لن يفهم أبداً لا طابع ثورة أكتوبر، ولا طبيعة دكتاتورية البروليتاريا، ولا الطابع الخاص للسياسة الداخلية لسلطتنا البروليتاريا.
إن دكتاتورية البروليتاريا ليست محض نخبة حكومية تم انتقائها بذكاء بجهود مخطط استراتيجي محنك ، و تستند بحكمة إلى هذه الشريحة أو تلك من شرائح السكان. إن دكتاتورية البروليتاريا هي تحالف طبقة البروليتاريا وجماهير الفلاحين الشغيلة للإطاحة بالرأسمال، ولتحقيق النصر النهائي للاشتراكية، شريطة أن تكون البروليتاريا هي القوة القائدة لهذا التحالف.
ليست المسألة إذن التهوين ولو قيد شعرة من الإمكانات الثورية للحركة الفلاحية، كما يحلو الآن لبعض المدافعين الدبلوماسيين عن الثورة الدائمة أن يقولوا. وإنما المسألة مسألة طبيعة الدولة البروليتارية الجديدة المنبثقة عن ثورة أكتوبر، مسألة طابع السلطة البروليتارية وأسس دكتاتورية البروليتاريا بالذات.
يقول لينين:
إن دكتاتورية البروليتاريا شكل خاص من التحالف الطبقي بين البروليتاريا، طليعة الشغيلة، و بين الشرائح العديدة غير البروليتارية من الشغيلة (البرجوازية الصغيرة، صغار أرباب العمل، الطبقة الفلاحية، المثقفين، الخ)، أو غالبية هذه الشرائح، وهو تحالف موجه ضد الرأسمال، تحالف يستهدف الإطاحة الكاملة بالرأسمال والسحق الكامل لمقاومة البرجوازية ولمحاولتها للاستيلاء على الحكم مجدداً، تحالف يرمي إلى تأسيس الاشتراكية وتوطيدها بصورة نهائية . (مقدمة خطاب: كيف يخدع الشعب بشعارات الحرية و المساواة ، المجلد 24، ص311، الطبعة الروسية).
و يقول فيما بعد:
إن دكتاتورية البروليتاريا، إذا ما ترجم هذا التعبير اللاتيني العلمي، التاريخي- الفلسفي، إلى لغة أبسط، تعني أن طبقة محددة لا غير – هي طبقة عمال المدن، وبوجه عام عمال المصانع، العمال الصناعيين - هي وحدها القادرة على قيادة جمهرة الشغيلة والمستغلين بأسرهم في النضال من أجل الإطاحة بنير الرأسمال، إبان هذه الإطاحة بالذات؛ وفي النضال من أجل الحفاظ على النصر وتوطيده، وفي مأثرة إنشاء نظام اجتماعي جديد، اشتراكي؛ وفي مجمل النضال من أجل إلغاء الطبقات إلغاء كاملاً . ( المبادرة الكبرى ، المجلد 24، ص 336).
هذه هي نظرية دكتاتورية البروليتاريا كما صاغها لينين.
و إحدى خواص ثورة أكتوبر تتمثل في أن هذه الثورة تطبيق كلاسيكي للنظرية اللينينية عن دكتاتورية البروليتاريا.
و يخيل إلى بعض الرفاق أن هذه النظرية نظرية روسية خالصة لا صلة لها بغير الواقع الروسي. هذا غير صحيح، غير صحيح بالمرة. فلينين في حديثه عن الجماهير الكادحة من الطبقات غير البروليتارية التي تقودها البروليتاريا لا يقصد الفلاحين الروس فحسب، بل أيضاً العناصر الشغيلة من مناطق الأطراف في الاتحاد السوفياتي، تلك المناطق التي كانت إلى عهد قريب مستعمرات لروسيا. وما كان لينين يتعب أو يكل من التكرار بأن البروليتاريا روسيا لن تكتب لها الغلبة إذا لم تتحالف مع هذه الجماهير من القوميات الأخرى. و لقد قال لينين مراراً و تكراراً في مقالاته التي عالج فيها المسألة القومية وفي خطاباته أمام مؤتمرات الأممية الشيوعية أن انتصار الثورة العالمية مستحيل بدون التحالف الثوري والتكتل الثوري بين بروليتاريا المدن المتقدمة والشعوب المضطهدة في المستعمرات المسترقة. ولكن ما المستعمرات إن لم تكن تلك الجماهير الشغيلة المضطهدة ذاتها، وفي المقام الأول جماهير الفلاحين الشغيلة؟ هل ثمة من يجهل أن مسألة تحرر المستعمرات هي في واقع الأمر مسألة تحرر الجماهير الشغيلة التي تنتمي إلى الطبقات غير البروليتارية من نير الرأسمال المالي واستغلاله؟
ومن هذا يتضح أن النظرية اللينينية دكتاتورية البروليتاريا ليست نظرية روسية خالصة، وإنما نظرية ملزمة لجميع الأقطار. والبلشفية ليست ظاهرة روسية فحسب. يقول لينين: إن البلشفية نموذج تكتيكي للجميع ( الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي ، المجلد 23، ص 386، الطبعة الروسية).
هذه هي السمات المميزة لأولى خواص ثورة أكتوبر.
فما كنه نظرية تروتسكي في الثورة الدائمة ، من وجهة نظر خاصة ثورة أكتوبر هذه؟
إننا لن نتوقف عند موقف تروتسكي في عام 1905 عندما نسي بكل بساطة الطبقة الفلاحية بوصفها قوة ثورية إذ اقترح شعار لا قيصر، وإنما حكومة عمالية ، أي شعار الثورة دون الطبقة الفلاحية. وحتى راديك، ذلك المحامي الدبلوماسي عن الثورة الدائمة، يجد نفسه مكرها الآن على الاعتراف بأن الثورة الدائمة في عام 1905 كانت تعني قفزة في الفراغ ومجانبة للواقع. ويقر الجميع اليوم بلا لبس بأن الاهتمام بهذه القفزة في الفراغ جهد ضائع.
ولن نتوقف كذلك عند موقف تروتسكي إبان الحرب، في عام 1915 على سبيل المثال، عندما انتهى إلى الاستنتاج في مقاله الصراع على السلطة بأن الدور الثوري للطبقة الفلاحية آيل إلى الضمور لا محالة، وبأن شعار مصادرة الأرض فقد ما كان له من أهمية في السابق، وهذا كله انطلاقاً من واقع أننا نحيا في عصر الامبريالية وأن الامبريالية لا تؤلب الأمة البرجوازية على النظام القديم، بل تؤلب البروليتاريا على البرجوازية . ومعروف أن لينين اتهم تروتسكي، في معرض تحليل مقاله ذاك، ب نفي دور الطبقة الفلاحية ، وقال أن تروتسكي يساعد في الواقع سياسيي العماليين الليبراليين الذين يفهمون نفي دور الطبقة الفلاحية على أنه امتناع عن حض الفلاحين على الثورة . ( خطا الثورة ، المجلد 18، ص 318، الطبعة الروسية).
و الأجدر بنا أن ننتقل إلى أحدث كتابات تروتسكي عن هذه المسألة، إلى كتابات المرحلة التي كان الوقت قد أتيح فيها لدكتاتورية البروليتاريا كيما توطد نفسها والتي كان متاحا فيها لتروتسكي أن يتحقق عمليا من صحة نظريته في الثورة الدائمة وأن يصحح أخطائه. لنأخذ المقدمة التي كتبها في عام 1922 لكتابه المعنون 1905 . وإليكم ما يقوله في تلك المقدمة بصدد الثورة الدائمة : إنما في الحقبة الفاصلة بين 9 كانون الثاني وإضراب تشرين الأول 1905 تكونت لدى المؤلف تصوراته عن طابع تطور روسيا الثوري، تلك التصورات التي عرفت باسم نظرية الثورة الدائمة . ولقد كانت هذه التسمية العويصة تعبر عن الفكرة القائلة بأن الثورة الروسية، التي تواجه مباشرة أهدافاً برجوازية، لا تستطيع رغم ذلك أن توقف عند هذه الغاية. فالثورة لن تستطيع تحقيق هذه الأهداف البرجوازية المباشرة ما لم تحمل البروليتاريا إلى سدة السلطة. والحال أن البروليتاريا، بمجرد استيلائها على السلطة، لن يكون في مقدورها أن تحد نفسها بإطار الثورة البرجوازي. بل على النقيض من ذلك، فالطليعة البروليتارية سترى لزاما عليها، من الأيام لسيطرتها، وضماناً لانتصارها على وجه التحديد، أن تقوم بأعمق الاقتحامات لا في الملكية الإقطاعية فحسب، وإنما في الملكية البرجوازية أيضا. وهي بفعلها هذا ستدخل في صدام عدائي، لا مع تكتلات البرجوازية التي تكون قد محضتها مؤازرة في مستهل نضالها الثوري فحسب، وإنما أيضاً جماهير الطبقة الفلاحية الواسعة التي يكون تضافرها قد دفع بها إلى السلطة. ولن تجد التناقضات التي ستواجه الحكومة العمالية في قطر متأخر تتألف من الفلاحين، من حل لها إلا على الصعيد الأممي وفي حلبة الثورة العالمية للبروليتاريا (1)
هكذا يتكلم تروتسكي عن ثورته الدائمة .
ويكفي أن نقارن بين هذا الشاهد وبين الشواهد التي أوردها آنفا واقتبسناها من مؤلفات لينين عن دكتاتورية البروليتاريا، حتى ندرك أي هوة تفصل النظرية اللينينية في دكتاتورية البروليتاريا عن نظرية تروتسكي في الثورة الدائمة .
إن لينين يتكلم عن تحالف البروليتاريا والشرائح الشغيلة من الطبقة الفلاحية، على اعتباره أساس دكتاتورية البروليتاريا. والحال أن تروتسكي يرى أن الصدام العدائي ناشب لا محالة بين الطليعة البروليتارية و جماهير الطبقة الفلاحية الواسعة .
ويتحدث لينين عن قيادة البروليتاريا للجماهير الشغيلة والمستغلة. والحال أن تروتسكي يرى في ذلك تناقضات ستواجه الحكومة العمالية في قطر متأخر تتألف غالبيته الساحقة من الفلاحين .
وفي حين يرى لينين أن الثورة تستمد قواها من عمال روسيا وفلاحيها بالذات قبل كل شيء، يذهب تروتسكي لا يترك إلا بصيص من الأمل لأن التناقضات التي ستواجه الحكومة العمالية... لن من حل لها... إلا في حلبة الثورة العالمية للبروليتاريا . وبمقتضى هذه الخطة لا يبقى أمام ثورتنا غير منظور واحد: أن تراوح في تناقضاتها الذاتية وأن تهلك في مكانها في انتظار الثورة العالمية.
ما دكتاتورية البروليتاريا في رأي لينين؟
ما دكتاتورية البروليتاريا إلا السلطة التي تستند إلى تحالف البروليتاريا والجماهير الشغيلة من الطبقة الفلاحية للإطاحة الكاملة بالرأسمال و لتأسيس الاشتراكية وتوطيدها بصورة نهائية .
ما دكتاتورية البروليتاريا في رأي تروتسكي؟
ما دكتاتورية البروليتاريا إلا سلطة تدخل في صدام عدائي مع جماهير الطبقة الفلاحية الواسعة وتبحث عن حل التناقضات في حلبة الثورة العالمية للبروليتاريا وحدها.
بم تختلف نظرية الثورة الدائمة هذه عن نظرية المنشفية المشهورة التي تنفي فكرة دكتاتورية البروليتاريا؟
الحقيقة أنها لا تختلف عنها في شيء.
ولا مجال للشك. ف الثورة الدائمة ليست مجرد تهوين من الإمكانيات الثورية للحركة الفلاحية. وإنما الثورة الدائمة استهانة بالحرمة الفلاحية إلى درجة إنكار النظرية اللينينية عن دكتاتورية البروليتاريا.
إن ثورة تروتسكي الدائمة وجه من وجوه المنشفية.
هذا فيما يتعلق بالخاصة الأولى لثورة أكتوبر.
فما السمات المميزة لثورة أكتوبر الثانية؟
لقد توصل لينين، من خلال دراسته للامبريالية، ولاسيما في مرحلة الحرب، إلى قانون لا نظامية تطور البلدان الرأسمالية الاقتصادي والسياسي ولا استمراريته. هذا القانون يعني أن تطور المشاريع والتروستات والفروع الصناعية والأقطار المختلفة لا يتم بصورة نظامية وتسلسلية ثابتة، بحيث أن هذا التروست أو ذاك وهذا الفرع الصناعي أو ذاك وهذا أو ذاك يسير دوما في الطليعة بينما تبقى سائر التروستات أو الأقطار في المؤخرة، تفصل بينها باستمرار المسافات ذاتها. وإنما يتم ذلك التطور، على العكس، في شكل قفزات، مع انقطاع في تطور بعض الأقطار ووثبات إلى الأمام في تطور الأخرى. والحال أن ميل الأقطار المتأخرة المشروع تماماً إلى الحفاظ على مواقعها القديمة، وميل الأقطار التي قفزت إلى الأمام – وهو ميل لا يقل عن الأول مشروعية - إلى الاستيلاء على مواقع جديدة، يجعلان من المصادمات العسكرية بين أقطار الامبريالية ضرورة محتومة. هذا ما كانه، على سبيل المثال، وضع ألمانيا التي كانت، لنصف قرن من الزمن خلا، قطرا متأخرا بالمقارنة مع فرنسا وانكلترا. والقول نفسه ينطبق على اليابان بالمقارنة مع روسيا. بيد أننا نعلم أن ألمانيا واليابان قد قفزا منذ مستهل القرن العشرين قفزة هائلة إلى الأمام، فنجحت الأولى في تخطي فرنسا وشرعت تزيح انكلترا وتحتل مكانها في السوق العالمية، وشرع الثاني بإزاحة روسيا. وإنما من هذه التناقضات تأتي، كما هو معروف، الحرب الامبريالية الأخيرة.
إن ذلك القانون ينطلق من الوقائع التالية:
1. لقد تحولت الرأسمالية إلى نظام عالمي من الاضطهاد الاستعماري والخنق المالي للغالبية الساحقة من سكان المعمورة على يد حفنة من الأقطار المتقدمة . (لينين: مقدمة الطبعة الفرنسية ل الامبريالية ، المجلد 19، ص 74، الطبعة الروسية).
2. إن تقاسم هذه الغنائم قد جرى بين اثنين أو ثلاثة من الكواسر الكلية القدرة، المسلحة من أخمص قدميها إلى رأسها (أمريكا، انكلترا، اليابان)، والتي جرفت الكرة الأرضية بأسرها في حربها من أجل تقاسم غنائمها . (المصدر نفسه).
3. إن نمو التناقضات داخل النظام الاضطهاد المالي العالمي والمصادمات العسكرية المحتومة تجعل الجبهة العالمية للامبريالية هشة قابلة لأن تحطم بسهولة على يد الثورة، كما تجعل قطيعة بعض الأقطار مع الجبهة ممكنة .
4. إن فرص وقوع هذه القطيعة هي على أكبر ما يمكن أن تكون عند النقاط وفي الأقطار التي تكون فيها سلسلة جبهة الامبريالية على أضعف ما يمكن أن تكون، أي حيث تكون الامبريالية أوهن تحصينا وحيث يكون في مستطاع الثورة أن تتطور بسهولة.
5. لهذا فإن انتصار الاشتراكية في بلد واحد ممكن تماماً ومرجح، حتى وإن كان هذا البلد من أضعف البلدان تطوراً من وجهة نظر الرأسمالية، وحتى وإن كانت الرأسمالية ما تزال على قيد الحياة في البلدان الأخرى بما فيها البلدان الأقوى تطوراً من وجهة نظر الرأسمالية.
تلكم هي باختصار مبادئ النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
فما كنه ثانية خصائص ثورة أكتوبر؟
إن ثانية خصائص ثورة أكتوبر تكمن في أن هذه الثورة تؤلف نموذجاً للتطبيق العملي للنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
ومن لم يفهم خاصة ثورة أكتوبر هذه فلن يفهم أبداً الطبيعة الأممية لهذه الثورة، ولا قوتها الأممية الهائلة، ولا سياستها الخارجية الفريدة في نوعها.
يقول لينين:
إن عدم تساوي التطور الاقتصادي والسياسي قانون مطلق من قوانين الرأسمالية. ومن هنا فإن انتصار الاشتراكية ممكن في البداية في عدد صغير من البلدان الرأسمالية، أو حتى في بلد رأسمالي واحد فرد. وفي هذه الحال فإن البروليتاريا الظافرة في هذا القطر، بعد أن تصادر ملكية الرأسماليين وتنظم الإنتاج الاشتراكي، ستهب ضد بقية العالم الرأسمالي، جاذبة إليها الطبقات المضطهدة من البلدان الأخرى، ومحرضة إياها على التمرد على الرأسماليين، وغير محجمة عند الضرورة عن استخدام القوة العسكرية ضد طبقات المستغلين ودولهم. ذلك أن اتحاد الأمم الحر في ظل الاشتراكية مستحيل بدون نضال عنيد، طويل الأمد بهذا القدر أو ذاك، من جانب الجمهوريات الاشتراكية ضد الدول المتأخرة ( حول شعار الولايات المتحدة الأوروبية : المجلد 18، ص 232-233، الطبعة الروسية).
إن الانتهازيين من جميع الأقطار يزعمون أن الثورة البروليتارية لا يمكن أن تبدأ –هذا إذا كان مقيضا لها موجب نظريتهم أن تبدأ في مكان ما – إلا في البلدان المتطورة صناعياً، وأنه كلما كانت هذه البلدان أكثر تطوراً من الزاوية الصناعية كانت فرص الاشتراكية في الانتصار أكبر. أما انتصار الاشتراكية في بلد واحد فإنهم يستبعدونها كما لو أنها من رابع المستحيلات ولاسيما إذا كان ذلك البلد ضعيف التطور من وجهة النظر الرأسمالية. ولقد كان لينين، إبان الحرب، وبالاستناد إلى قانون التطور اللامتساوي للدول الامبريالية، قد عارض الانتهازيين بنظريته عن الثورة البروليتارية بخصوص انتصار الاشتراكية في بلد واحد حتى وإن كان أوهن البلدان تطوراً من وجهة النظر الرأسمالية.
ومعلوم أن ثورة أكتوبر قد أيدت كامل التأييد صحة النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
فكيف تتبدى ثورة تروتسكي الدائمة من وجهة النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية.
لنأخذ كراسة تروتسكي: ثورتنا (1906). يكتب تروتسكي
إن الطبقة العاملة في روسيا لن تستطيع أن تصمد في موقع السلطة وأن تحول سيطرتها المؤقتة إلى دكتاتورية اشتراكية دائمة دون مساعدة حكومية مباشرة من جانب البروليتاريا الأوروبية. هذه حقيقة لا يمكن أن يخامرنا فيها الشك لحظة واحدة .
ما فحوى هذا الشاهد؟ فحواه أن انتصار الاشتراكية في بلد واحد، ولاسيما في روسيا، مستحيل بدون مساعدة حكومية مباشرة من جانب البروليتاريا الأوروبية ، أي قبل استيلاء البروليتاريا الأوروبية على السلطة.
هل هناك من صلة بين هذه النظرية وبين أطروحة لينين عن إمكانية انتصار الاشتراكية في بلد رأسمالي واحد فرد ؟
جلي للعيان أن ليس هناك من صلة.
ولكن لنفترض أن كراسة تروتسكي، المنشورة تلك في عام 1906، في وقت كان يصعب فيه تحديد طابع ثورتنا، تحتوي أخطاء لاإرادية ولا تنطبق تمام الانطباق على التصورات التي أخذ بها تروتسكي فيما بعد. لنأخذ كراسة لتروتسكي، ولتكن برنامجه للسلم الصادرة قبل ثورة أكتوبر 1917، والمعاد طبعها الآن (في عام 1924) في كتابه 1917 . ينتقد تروتسكي في هذه الكراسة النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية بصدد انتصار الاشتراكية في بلد واحد، ويعارضها بشعار الولايات المتحدة الأوروبية. ويزعم أن انتصار الاشتراكية مستحيل في بلد واحد، وأن انتصار الاشتراكية ليس ممكنا إلا إذا أخذ انتصار لعدة بلدان أوروبية رئيسية (انكلترا، روسيا، ألمانيا) في إطار الولايات المتحدة الأوروبية – وهو مستحيل مطلق الاستحالة في غير هذه الحال. ويقول بجلاء ما بعده جلاء أن ثورة مظفرة في روسيا أو في انكلترا لا يمكن تصورها بدون ثورة في ألمانيا، وبالعكس .
يقول تروتسكي:
إن الاعتراض التاريخي الوحيد ولو في أضيق الحدود على شعار الولايات المتحدة قد صدر عن جريدة الاشتراكي-الديمقراطي السويسرية (الصحيفة المركزية للبلاشفة في ذلك الزمن .ج.س) بالصيغة التالية: إن تفاوت الاقتصادي والسياسي قانون مطلق في الرأسمالية . ومن هنا استخلصت الاشتراكي-الديمقراطي نتيجة تقول أن انتصار الاشتراكية في بلد واحد ممكن، وأنه لا جدوى بالتالي من اعتبار تكوين الولايات المتحدة الأوروبية شرطا لدكتاتورية البروليتاريا في كل دولة على حدة. أما أن التطور الرأسمالي للبلدان المختلفة غير متساو، فهذا أمر لا يقبل جدالا بحال من الأحوال، ولكن هذه اللامساواة هي متفاوتة إلى أبعد الحدود. فالمستوى الرأسمالي لانكلترا أو للنمسا أو لفرنسا ليس واحدا. بيد أن هذه الأقطار مجتمعة تمثل، بالمقارنة مع أفريقا وأسيا، أوروبا الرأسمالية الناضجة للثورة الاجتماعية. والفكرة الأساسية التي نرى أن من المفيد ومن الضروري الإلحاح عليها هي أنه لا يتوجب على أي قطر أن ينتظر الأقطار الأخرى في نضاله، وذلك حتى لا تحل فكرة الخمول الأممي الانتظاري محل فكرة العمل الأممي المتوازي. فمن دون أن ننتظر الآخرين نبدأ النضال ونستمر به على المستوى القومي، مع يقيننا الكامل بأن مبادرتنا ستكون حافزا للنضال في الأقطار الأخرى. وإذا لم تسر الأمور على هذا النحو، فلا مجال إلى الاعتقاد بأن روسيا الثورية على سبيل المثال ستكون قادرة على الصمود في وجه أوروبا المحافظة، أو بأن ألمانيا الاشتراكية ستكون قادرة على البقاء بمفردها في العالم الرأسمالي –ولنا في التجربة التاريخية والاعتبارات النظرية خير دليل على ذلك .
إنها كما ترون النظرية عينها عن الانتصار المتواقت للاشتراكية في الأقطار الأوروبية الرئيسية، تلك النظرية التي تنفي بوجه عام النظرية اللينينية عن الثورة بصدد انتصار الاشتراكية في بلد واحد.
لا مراء أن في انتصار الاشتراكية التام وفي أن الضمانة الكاملة ضد عودة النظام القديم يستلزمان تضافر جهود البروليتاريين في عدة أقطار. ولا مراء في أن بروليتاريا روسيا ما كانت لتستطيع، لولا دعم بروليتاريا أوروبا لثورتنا، أن تقاوم الضغط العام، تماما كما أن الحركة الثورية في الغرب ما كانت تستطيع، لولا دعم الثورة الروسية لها، أن تتطور بنفس الإيقاع الذي شرعت تتطور به بعد إرساء أسس دكتاتورية البروليتاريا في روسيا. لا مراء في أننا بحاجة إلى دعم. ولكن ماذا نعني بدعم بروليتاريا أوروبا الغربية لثورتنا؟ هل يشكل تعاطف العمال الأوروبيين مع ثورتنا ورغبتهم في إحباط مخططات الامبرياليين للتدخل، هل يشكل هذا كله مساعدة جدية؟ بلا جدال. فبدون مثل هذا الدعم وبدون مثل هذه المساعدة، لا من جانب العمال الأوروبيين فحسب بل أيضاً من جانب المستعمرات والبلدان التابعة، كانت دكتاتورية البروليتاريا في روسيا ستجد نفسها في مأزق صعب. هل كان ذلك التعاطف وهذه المساعدة كافيين حتى الآن، بالإضافة إلى قوة جيشنا الأحمر وإلى تصميم عمال روسيا وفلاحيها على تقديم صدورهم دفاعاً عن الوطن الاشتراكي – هل كان هذا كله كافياً ضد هجمات الامبرياليين ولتوفير الشروط الضرورية لعمل بناء جدي؟ بلى، كان هذا كافيا! وذلك التعاطف، أهو آخذ بالتزايد أم بالتناقص؟ إنه يتزايد بلا جدال. هل تتوفر لدينا بالتالي شروط مناسبة، لا للتقدم إلى أمام بتنظيم الاشتراكي فحسب، بل أيضاً لنقدم بدورنا دعما لعمال أوروبا الغربية ولشعوب الشرق المضطهدة على حد سواء؟ بلى، إنها متوفرة. وتاريخ السنوات السبع من دكتاتورية البروليتاريا في روسيا أفصح دليل على ذلك. هل يسعنا أن ننكر أن العمل قد انطلق انطلاقة رائعة لدينا؟ كلا، لا نستطيع أن ننكر ذلك.
ما المعنى الذي يمكن أن يكون بعد هذا كله لتصريح تروتسكي القائل بأن روسيا الثورية لا تستطيع الصمود في وجه أوروبا المحافظة؟
لا يمكن أن يكون له غير معنى واحد وهو: أن تروتسكي أولاً لا يشعر بالقوة الداخلية لثورتنا، وتروتسكي ثانياً لا يفهم الأهمية التي لا تقدر بثمن للتأييد المعنوي الذي يقدمه عمال أوروبا وفلاحو الشرق لثورتنا، وتروتسكي ثالثاً لا يرى الداء الداخلي الذي ينخر الامبريالية في الوقت الراهن.
إن تروتسكي. الذي أخذ في شباك نقده للنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية، قد هزم نفسه بنفسه، من قبيل السهو والغفلة، شر هزيمة في كراسته برنامج السلم التي صدرت عام 1917 وأعيد نشرها عام 1924.
ولكن لعل كراسة تروتسكي هذه قد تقادم عليها بدورها، فما عادت، لسبب من الأسباب، تتطابق مع تصوراته اليوم؟ لنأخذ مؤلفات تروتسكي الأحدث عهدا والمكتوبة بعد انتصار ثورة البروليتارية في بلد واحد، في روسيا. لنأخذ على سبيل المثال مقدمة تروتسكي للطبعة الجديدة لكراسته برنامج السلم ، تلك المقدمة التي كتبها عام 1922. إليكم ما يقوله فيها:
إن التوكيد القائل بأن الثورة البروليتارية لا يمكن السير بها إلى خاتمة مطافها بنجاح في الإطار القومي، وهو التوكيد الذي كررناه مرارا في برنامج السلم ، قد يبدو اليوم، في نظر بعض القراء، وكأن تجربة جمهوريتنا السوفياتية التي باتت لها من العمر حوالي خمس سنين تكذبه. ولكن مثل هذا الاستنتاج يفتقر إلى أساس ومبرر. فلئن كانت الدولة العمالية في بلد واحد، وبلد متأخر علاوة على ذلك، قد قاومت العالم قاطبة وصمدت أمامه، فإن هذه الواقعة تشهد على القوة الهائلة للبروليتاريا التي ستكون قادرة على إنجاز معجزات حقيقة في الأقطار الأخرى الأكثر تقدما والأرسخ حضارة. ولكن إذا كنا قد صمدنا سياسيا وعسكريا كدولة، فإننا لم نفلح في بناء مجتمع اشتراكي، بل إننا لم نقترب منه مجرد اقتراب... وما دامت البرجوازية تتربع على سدة السلطة في البلدان الأوروبية الأخرى، فإننا نكون مرغمين في نضالنا ضد العزلة الاقتصادية على السعي وراء اتفاقات مع العالم الرأسمالي. وفي وسعنا القول في الوقت نفسه بيقين تام بأن تلك الاتفاقات قد تساعدنا، في أحسن الأحوال، على شفاء هذا الجرح أو ذاك من جروحنا الاقتصادية، وعلى التقدم خطوة إلى الأمام في هذا الاتجاه أو ذاك، ولكن النهضة الحقيقية للاقتصاد الاشتراكي في روسيا لن تكون ممكنة إلا بعد انتصار البروليتاريا في الأقطار الأوروبية الرئيسية .
هكذا يتكلم تروتسكي ناطحا رأسه بصخرة الواقع ومعاندا في تصميمه على إنقاذ الثورة الدائمة من الغرق النهائي .
وهكذا فإننا مهما نفعل ومهما نقل فلكن نكون قد أفلحنا في بناء مجتمع اشتراكي، بل لن نكون قد اقتربنا منه مجرد اقتراب . وهناك من يعلق الآمال، على ما يبدو، على اتفاقات مع العالم الرأسمالي ، بيد أن هذه الاتفاقات لم تجد هي الأخرى فتيلا على ما يبدو. ذلك أننا مهما نفعل ومهما نقل، فإن النهضة الحقيقية للاقتصاد الاشتراكي لن تكون ممكنة ما لم تنتصر البروليتاريا في الأقطار الأوروبية الرئيسية .
ولما لم يكن أي انتصار قد تحقق بعد في الغرب، لا يبقى أمام الثورة روسيا غير خيار واحد: أما أن تفطس في مكانها وأما أن تنحط إلى دولة برجوازية.
وليس من قبيل الصدفة أن يتكلم تروتسكي، منذ عامين من الزمن، عن انحطاط حزبنا.
وليس من قبيل الصدفة أن يكون تروتسكي، قد تنبأ في العام الماضي ب هلاك وطننا.
كيف نوفق بين هذه النظرية الغريبة وبين نظرية لينين عن انتصار الاشتراكية في بلد واحد ؟
كيف نوفق بين هذه النظرة الغريبة وبين نظرة لينين التي ترى أن السياسة الاقتصادية الجديدة ستتيح لنا إمكانية بناء أسس الاقتصاد الاشتراكي ؟
كيف نوفق بين هذا اليأس الدائم وبين كلمات لينين التالية على سبيل المثال:
إن الاشتراكية لم تعد من الآن مسألة مستقبل بعيد، أو نوعا من رؤية مجردة، أو نوعا من أيقونة. وفيما يتعلق بالأيقونات، نحن مازلنا على رأينا السابق، البالغ السوء. لقد أدخلنا الحياة الاشتراكية إلى الحياة اليومية، وعلينا الآن أن نشق طريقنا إليها. هذه هي مهمتنا اليوم، هذه هي مهمة عصرنا. اسمحوا لي بأن أنهي خطابي معبرا عن يقيني بأن هذه المهمة مهما تكن شاقة ومهما تكن جديدة بالمقارنة مع مهمتنا السابقة ومهما تكن عديدة الصعوبات التي تثيرها أمامنا، فإنها سننجزها، جميعنا معا، أيا يكن الثمن، لا في الغد مباشرة، وإنما على مدى عدة سنوات، بحيث تصبح روسيا السياسية الاقتصادية الجديدة روسيا اشتراكية . ( خطاب في الهيئة العامة لسوفييت موسكو – المجلد 27، ص 366، الطبعة الروسية).
كيف نوفق بين انعدام بعد النظر الدائم ذاك وبين كلمات لينين الأخيرة التالية على سبيل المثال:
بالفعل أليست سلطة الدولة على جميع وسائل الإنتاج الرئيسية، أليست سلطة الدولة التي بين يدي البروليتاريا، أليست تحالف هذه البروليتاريا مع الملايين والملايين من صغار الفلاحين، أليست قيادة البروليتاريا للطبقة الفلاحية، الخ، أليس هذا هو كل اللازم حتى نستطيع بواسطة التعاون، والتعاون وحده، الذي كنا نصفه في السابق بالروح التجارية والذي يحق لنا اليوم أيضاً، في السياسة الاقتصادية الجديدة، أن نصفه بالوصف نفسه – أليس هذا هو كل اللازم لبناء المجتمع الاشتراكي الكامل؟ إننا لا نتكلم بعد عن بناء المجتمع الاشتراكي، وإنما عن كل ما هو لازم وكاف لبنائه . ( حول التعاون – المجلد 27، ص 392، الطبعة الروسية).
من الجلي الواضح أنه لا مجال هناك لأي توفيق. ف ثورة تروتسكي الدائمة هي نفي النظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية، وكذلك بالعكس: فالنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية هي نفي نظرية الثورة الدائمة .
انعدام الإيمان بقوى ثورتنا وطاقاتها، انعدام الإيمان بقوى بروليتاريا روسيا وطاقاتها، هذا هو باطن نظرية الثورة الدائمة .
لقد كان يشار عادة حتى اليوم إلى جانب واحد من جوانب نظرية الثورة الدائمة : انعدام الإيمان بالإمكانات الثورية للحركة الفلاحية. ومن الضروري اليوم، إنصافا للحقيقة، أن نكمل هذا الجانب بجانب آخر : انعدام الإيمان بقوى بروليتاريا روسيا وطاقاتها.
بم تختلف نظرية تروتسكي عن نظرية المنشفية المبتذلة القائلة أن انتصار الاشتراكية في بلد واحد، وبلد متأخر علاوة على ذلك، مستحيل بدون مسبق للثورة البروليتارية في أقطار أوروبا الغربية الرئيسية ؟
لا تختلف عنها في شيء، في واقع الأمر.
لا مجال للشك. أن نظرية تروتسكي في الثورة الدائمة هي ضرب من المنشفية.
لقد تكاثرت في صحافتنا في الآونة الأخيرة محاولات الدبلوماسيين المتعفنين لتمرير نظرية الثورة الدائمة كنظرية لا تتنافى واللينينية. فهم يقولون: لا ريب في أن هذه النظرية قد أقام الدليل على عدم صلاحيتها في عام 1905. ولكن غلطة تروتسكي آنذاك أنه استبق الأحداث إذ حاول أن يطبق على وضع 1905 ما لم يكن قابلاً للانطباق عليه في تلك المرحلة. أما فيما بعد على حد زعمهم، في أكتوبر 1917 على سبيل المثال، فإن نظرية تروتسكي باتت موائمة تماماً على حد ما يدعون بعد نضج الثورة. وليس من الصعب أن نخمن إن رائد أولئك الدبلوماسيين هو راديك. فلنستمع إليه:
لقد حفرت الحرب هوة بين الطبقة الفلاحية التي تهفو إلى الاستيلاء على الأرض وإلى السلم وبين الأحزاب البرجوازية الصغيرة. ولقد وضعت الحرب الطبقة الفلاحية تحت قيادة الطبقة العاملة وطليعتها، الحزب البلشفي. وما أصبح ممكنا ليس ديكتاتورية الطبقة العاملة المستندة إلى الطبقة الفلاحية. ولقد اتضح بالفعل أن ما قال به تروتسكي وروزا لوكسمبرغ في عام 1905 ضد لينين (أي الثورة الدائمة –ج.ز.) كان المرحلة الثانية من التطور التاريخي .
إن كل كلمة من هذه الكلمات تنضج بالتلفيق .
فليس صحيحاً أن ما أصبح ممكناً إبان الحرب ليست دكتاتورية الطبقتين العاملة والفلاحية وإنما دكتاتورية الطبقة العاملة المستندة إلى الطبقة الفلاحية. والواقع أن ثورة شباط 1917 قد حققت دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين جامعة بينها وبين دكتاتورية البرجوازية على نحو غير متوقع.
وليس صحيحاً أن نظرية الثورة الدائمة التي يلزم راديك الصمت بصددها بحياء، قد صاغها في عام 1905 كل من روزا لكسمبرغ وتروتسكي. والواقع أن هذه النظرية قد صاغها بارفوس وتروتسكي. واليوم، وبعد مرور عشرة أشهر يستدرك راديك نفسه ويرتئي ضرورة توبيخ بارفوس على ثورته الدائمة . ولكن الإنصاف يقتضي من راديك أن يوبخ أيضاً رفيق بارفوس، تروتسكي.
وليس صحيحاً أن الثورة الدائمة التي دحضتها ثورة 1905 قد ثبتت صحتها بالنسبة إلى المرحلة الثانية من التطور التاريخي . فمسيرة ثورة أكتوبر برمتها وتطورها بأسره قد بينا وأثبتا القصور التام لنظرية الثورة الدائمة وتنافيها التام مع المبادئ اللينينية.
ولن تتمكن لا الخطابات المعسولة ولا الدبلوماسية المتعفنة من تمويه الهوة الفائقة فاها بين نظرية الثورة الدائمة وبين اللينينية.

 

التالي

 - 4 - ثورة أكتوبر بداية الثورة العالمية ومقدمتها

إلى منظمة الحزب الشيوعي (البولشفي)
في لينينغراد أهدي هذه الصفحات
ج. ستالين

مسألة الثورة الدائمة


 

مواضيع متنوعة

يا صبر أيوب

إحدى روائع
الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد

إلى جوقة المنطقة الخضراء

     تمهلوا

 قصيدة بقلم شاعرها

مجرم الحرب دونالد رمسفيلد في

زيارة الى أحد الفنادق في واشنطن

مقطع من فيلم فيديو

____

فتى عراقي يفك رموز معادلة

 برنولي الرياضية

______

حول تقرير برنامج الامم المتحدة للبيئه

 لتقييم المناطق الملوثة في العراق 2005

لمصلحة من يتم تجاهل التلوث

 الاشعاعي في العراق؟؟

الجزء الأول

إعداد عزام محمد مكي

حول تقرير برنامج الامم المتحدة للبيئه

 لتقييم المناطق الملوثة في العراق 2005

لمصلحة من يتم تجاهل التلوث الاشعاعي

 في العراق؟؟

الجزء الثاني

إعداد عزام محمد مكي

________

 الصفحة الرئيسية | مقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | أرشيف الأخبار | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

تصدرها مجموعة من الصحفيين والكتاب العراقيين

webmaster@saotaliassar.org    للمراسلة

 
من الصدف الجميلة ان يدق لي عود المشنقة في نفس المكان الذي كنت اثير منه المظاهرات الوطنية

الشهيد حسين محمد الشبيبي