- 3 -
النظرية
سآخذ من هذا الموضوع ثلاث
مسائل:
ا) أهمية النظرية للحركة
البروليتارية،
ب) انتقاد "نظرية" العفوية،
ج) نظرية الثورة
البروليتارية.
أ – أهمية النظرية
يعتقد البعض أن اللينينية هي
تقديم النشاط العملي على
النظرية، بمعنى أن الأساسي في
اللينينية هو تطبيق المبادئ
الماركسية، هو "تحقيق" هذه
المبادئ أما النظرية
فاللينينية لا تهتم بها إلا
بما لا يذكر. ومن المعروف أن
بليخانوف تهكم أكثر من مرة
على "لا مبالاة" لينين
بالنظرية، وخصوصاً بالفلسفة.
كذلك من المعروف أن النظرية
ليست أبداً ذات حظوة لدى عدد
عديد من المناضلين اللينينيين
اليوم، خصوصاً بسبب النشاط
العملي الهائل الذي تفرضه
عليهم الظروف فينبغي أن أعلن
أن هذا الرأي، هو أكثر من
غريب، حول لينين واللينينية،
خاطئ بصورة مطلقة ولا يطابق
الواقع أبداً، وأن ميل
المناضلين العمليين إلى عدم
الاهتمام بالنظرية يخالف
بصورة مطلقة روح اللينينية
ويحمل أخطاراً عظيمة على
القضية.
إن النظرية هي تجربة حركة
العمال في كل البلدان، هي هذه
التجربة مأخوذة بشكلها العام.
ومن الواضح أن النظرية تصبح
دون غاية، إذا لم تكن مرتبطة
بالنشاط العملي الثوري؛ كذلك
تماماً شأن النشاط العملي
الذي يصبح أعمى إذا لم تنر
النظرية الثورية طريقه. إلا
أن النظرية يمكن أن تصبح قوة
عظيمة لحركة العمال إذا هي
تكونت في صلة لا تنفصم
بالنشاط العملي الثوري، فهي،
وهي وحدها، تستطيع أن تعطي
الحركة الثقة وقوة التوجه
وأدراك الصلة الداخلية
للحوادث الجارية، وهي، وهي
وحدها، تستطيع أن تساعد
النشاط العملي على أن يفهم
ليس فقط في أي اتجاه وكيف
تتحرك الطبقات في اللحظة
الحاضرة، بل كذلك في أي اتجاه
وكيف ينبغي أن تتحرك في
المستقبل القريب. أن لينين
نفسه قال وكرر مرات عديدة هذه
الفكرة المعروفة القائلة:
"بدون نظرية ثورية، لا حركة
ثورية(8) " (ما العمل؟،
المجلد الرابع، صفحة 380،
الطبعة الروسية).
لقد فهم لينين أحسن من أي
إنسان آخر، أن النظرية أهمية
عظمى، خصوصاً بالنسبة لحزب
كحزبنا، نظراً للدور الكفاحي
الذي وقع على عاتقه من حيث هو
طليعة البروليتاريا الأممية،
ونظراً لما تتصف به الحالة
الداخلية والدولية، التي يعمل
ضمنها، من تشابك وتعقيد. وقد
تنبأ منذ عام 1902 بهذا الدور
الخاص الذي يضطلع به حزبنا،
فرأى من الضروري أن يذكّر إذ
ذاك بما يلي:
"فقط حزب ترشده نظرية
الطليعة، يستطيع أن يقوم بدور
مناضل الطليعة" (المرجع
نفسه).
واليوم وقد تحققت نبوءة لينين
هذه عن دور حزبنا، فهل من
حاجة إلى البرهان بأن فكرة
لينين هذه تكتسب قوة خاصة
وأهمية خاصة.
وربما كان من الواجب أن نعتبر
كأسطع مظهر لما كان يعلقه
لينين من أهمية عظمى على
النظرية، أن لينين بالذات قام
بمهمة من أكبر المهام خطورة
وشأناً، وهي تعميميه في ميدان
الفلسفة المادية، لأهم ما
أعطاه العلم منذ أنجلس حتى
لينين، وكذلك انتقاده العميق
الشامل للتيارات المخالفة
للمادية بين الماركسيين. كان
أنجلس يقول أن "المادية مجبرة
على أن تأخذ وجهاً جديداً لدى
كل اكتشاف جديد كبير". ومن
المعلوم أن لينين بالذات قام،
في عهده، بهذه المهمة في
مؤلفه الرائع: المادية
والمذهب النقدي التجريبي(9) .
ومن المعلوم أن بليخانوف الذي
كان مغرماً بالتهكم على "لا
مبالاة" لينين بالنظرية، لم
يغامر حتى بالتصدي، بصورة
جدية، لمثل هذه المهمة.
ب – انتقاد "نظرية" العفوية
أو حول دور الطليعة في الحركة
إن "نظرية" العفوية هي نظرية
الانتهازية، هي نظرية السجود
أمام عفوية حركة العمال، هي
النظرية القائمة على إنكار
الدور القيادي لطليعة الطبقة
العاملة، إنكار الدور القيادي
لحزب الطبقة العاملة، إنكاراً
فعلياً.
إن نظرية السجود أمام العفوية
تتعارض بشكل حازم مع الصفة
الثورية لحركة العمال، أنها
تعارض في أن تتجه الحركة نحو
النضال ضد أسس الرأسمالية –
فهي تحبذ أن تتبع الحركة فقط
خطة المطالب "الممكنة
التحقيق"، "المقبولة" بالنسبة
للرأسمالية، أنها تحبذ كلياً
"خطة أقل ما يمكن من الجهد".
إن نظرية العفوية، هي عقلية
الترادونيونية(10).
إن نظرية السجود أمام العفوية
تعارض معارضة تامة في أعطاء
الحركة العفوية صفة واعية
ومنظمة، أنها تعارض في أن
يسير الحزب على رأس الطبقة
العاملة، وفي أن يرفع الحزب
الجماهير إلى مستوى الوعي،
وفي أن يقود الحزب الحركة
وراءه. انها تريد من العناصر
الواعية في الحركة، أن لا
تمنع هذه الحركة من متابعة
السير في مجراها، أنها تدعو
إلى أن يقتصر الحزب على
ملاحظة الحركة العفوية وعلى
الزحف في مؤخرتها. إن نظرية
العفوية هي نظرية الانتقاص من
دور العنصر الواعي في الحركة،
هي عقلية "السير في المؤخرة"
هي الأساس المنطقي لكل
انتهازية.
إن هذه النظرية، التي ظهرت
على المسرح منذ ما قبل الثورة
الأولى في روسيا أدت عملياً
إلى أن أنصارها المدعوين
ب"الاقتصاديين"، أخذوا ينكرون
ضرورة وجود حزب عمال مستقل في
روسيا، ويقاومون نضال الطبقة
العاملة الثوري في سبيل
القضاء على القيصرية، ويحبذون
السياسة الترادونيونية في
الحركة ويضعون، بوجه عام،
حركة العمال تحت زعامة
البرجوازية الحرة.
إن نضال الأيسكرا القديمة،
وانتقاد لينين الرائع لنظرية
"السير في المؤخرة"، في كراسة
"ما العمل"؟، لم يسحقا
"الاقتصادية" فقط، بل خلقا
أيضاً الأسس النظرية لقيام
حركة ثورية حقاً للطبقة
العاملة الروسية.
ولولا هذا النضال، لكان من
العبث حتى مجرد التفكير في
إنشاء حزب عمال مستقل في
روسيا، وفي دوره القيادي في
الثورة.
غير أن نظرية السجود أمام
العفوية ليست حادثاً روسياً
فقط. فهي منتشرة انتشاراً
واسعاً، ولكن بشكل مختلف
قليلاً، في جميع أحزاب
الأممية الثانية بدون
استثناء. وأعني هنا النظرية
المسماة بنظرية "قوى
الإنتاج". وهي النظرية التي
تسعى، بعد أن بتذلها زعماء
الأممية الثانية، إلى تبرير
كل شيء، والتوفيق بين كل
الناس، هي النظرية التي تتحقق
من وجود الوقائع التي تفسرها
حين يكون جميع الناس قد شبعوا
من هذه الوقائع وملوَّها، ثم
بعد أن تتحقق منها، تهدأ
وتستريح. كان ماركس يقول أن
النظرية المادية لا تستطيع أن
تقتصر على تفسير العالم، بل
ينبغي عليها أيضاً أن
تغيِّره. ولكن كاوتسكي
وشركاه، لا يأبهون بذلك كله،
أنهم يفضلون الوقوف عند القسم
الأول من صيغة ماركس.
وها كم مثالاً من الأمثلة
العديدة على تطبيق هذه
"النظرية". يقال أن أحزاب
الأممية الثانية هددت، قبل
الحرب الاستعمارية، بإعلان
"الحرب على الحرب" إذا ما شرع
المستعمرون في الحرب. ويقال
أن هذه الأحزاب، عشية ابتداء
الحرب تماماً، دفنت شعار
"الحرب على الحرب" في الدروج،
وطبقت شعاراً مضاداً له هو
شعار "الحرب في سبيل الوطن
الاستعماري". ويقال أن ملايين
الضحايا وقعت من العمال
بنتيجة هذا التغيير في
الشعارات. ولكن من الخطأ
الاعتقاد بأن هناك من يقع
عليه الذنب في ذلك، وأن هناك
من خان الطبقة العاملة أو
باعها، فليس هنالك شيء من هذا
أبداً! فقد جرى كل شيء كما
كان ينبغي أن يجري. وذلك،
أولاً، لأن الأممية هي، كما
يبدو، "أداة سلم" لا أداة
حرب. وثانياً، لأنه مع "مستوى
قوى الإنتاج" الذي كان
موجوداً آنذاك لم يكن من
الممكن القيام بأي شيء آخر،
ف"الذنب" هو ذنب "قوى
الإنتاج". هذا هو على الضبط
ما توضحه "لنا" نظرية قوى
الإنتاج" لصاحبها السيد
كاوتسكي. وكل من لا يؤمن بهذه
"النظرية" ليس بماركسي. وأين
دور الأحزاب؟.. وأهميتها في
الحركة؟.. ولكن ماذا يمكن أن
يقوم به الحزب مع وجود عامل
حاسم مثل "مستوى قوى
الإنتاج"؟..
ومن الممكن ذكر عديد من هذه
الأمثلة عن تزييف الماركسية.
وهل نحن بحاجة إلى البرهان
بأن هذه "الماركسية" المزيفة،
الرامية إلى تغطية عري
الانتهازية، ليست سوى لون،
مؤتلف مع الأسلوب الأوروبي،
من ألوان نظرية "السير في
المؤخرة" نفسها التي كافحها
لينين منذ ما قبل الثورة
الروسية الأولى؟
وهل نحن بحاجة إلى البرهان
بأن تحطيم هذا التزييف
النظري، هو شرط أولي لإنشاء
أحزاب ثورية حقاً في الغرب؟
ج – نظرية الثورة
البروليتارية
إن النظرية اللينينية عن
الثورة البروليتارية تأخذ،
كنقطة انطلاق لها، ثلاث
موضوعات أساسية:
الموضوعة الأولى – أن سيطرة
الرأسمال المالي في الأقطار
الرأسمالية المتقدمة، وإصدار
الأوراق المالية، من حيث هو
أحدى عمليات الرأسمال المالي
الرئيسية، وتصدير الرساميل
نحو منابع المواد الأولية، من
حيث هو أحد أسس الاستعمار
والسلطان المطلق للطغمة
المالية، من حيث هو نتيجة
لسيطرة الرأسمال المالي، كل
ذلك يكشف الصفة الطفيلية
الفظة للرأسمالية الاحتكارية،
ويزيد الإحساس بنير التروستات
والسنديكات الرأسمالية مائة
مرة، وينمي سخط الطبقة
العاملة ضد أسس الرأسمالية،
ويسوق الجماهير إلى الثورة
البروليتارية من حيث هي وسيلة
الخلاص الوحيدة (راجع
"الاستعمار" بقلم لينين).
ومن هنا استنتاج أول: احتدام
الأزمنة الثورية في البلدان
الرأسمالية، وتعاظم عناصر
الانفجار أكثر فأكثر على
الجبهة الداخلية،
البروليتارية، في بلدان
"المتروبول" .
الموضوعة الثانية - أن تصدير
الرساميل المتعاظم إلى
البلدان المستعمرة والتابعة،
وتوسيع "مناطق النفوذ"
والممتلكات المستعمرة حتى
شملت مجموع الكرة الأرضية،
وتحوّل الرأسمالية إلى نظام
عالمي قوامه الاستعباد المالي
والاضطهاد الاستعماري لأكثرية
السكان العظمى في الكرة
الأرضية من قبل قبضة من
البلدان "المتقدمة" – كل ذلك
أدّى، من جهة، إلى جعل مختلف
الاقتصاديات الوطنية ومختلف
الأراضي الوطنية، حلقات من
سلسلة واحدة اسمها الاقتصاد
العالمي، وأدى من جهة أخرى
إلى تقسيم سكان الكرة الأرضية
إلى معسكرين: إلى قبضة
البلدان الرأسمالية
"المتقدمة" التي تستثمر
وتضطهد المستعمرات الشاسعة
والبلدان التابعة، إلى أكثرية
عظمى من البلدان المستعمرة
والتابعة المضطرة إلى القيام
بنضال في سبيل التحرر من
النير الاستعماري (راجع
"الاستعمار").
من هنا استنتاج ثانٍ: احتدام
الأزمة الثورية في البلدان
المستعمرة، وتعاظم عناصر
التمرد أكثر فأكثر ضد
الاستعمار على الجبهة
الخارجية، جبهة المستعمرات.
الموضوعة الثالثة – إن
الامتلاك الاحتكاري ل"مناطق
النفوذ" وللمستعمرات، وتطور
البلدان الرأسمالية تطوراً
غير متساوي مما يؤدي إلى نضال
وحشي من أجل تقسيم العالم
تقسيماً جديداً بين البلدان
التي تمَّ لها الاستيلاء على
أرض والبلدان التي ترغب في
نيل "حصتها"، والحروب
الاستعمارية من حيث هي
الوسيلة الوحيدة لإعادة
"التوازن" المفقود - كل ذلك
يؤدي إلى احتدام النضال على
الجبهة الثالثة، بين الدول
الرأسمالية، مما يضعف
الاستعمار ويسهل اتحاد
الجبهتين الأوليتين ضد
الاستعمار: الجبهة
البروليتارية الثورية وجبهة
تحرير المستعمرات (راجع
"الاستعمار").
ومن هنا استنتاج ثالث: حتمه
الحروب في عهد الاستعمار،
وحتمية تكتل الثورة
البروليتارية في أوروبا مع
ثورة المستعمرات في الشرق،
فتؤلف الاثنتان جبهة الثورة
الموحدة العالمية ضد جبهة
الاستعمار العالمية(11).
إن جميع هذه الاستنتاجات
تجتمع، لدى لينين، في هذا
الاستنتاج العام بأن
"الاستعمار هو عشية الثورة
الاشتراكية"(12) (مقدمة كتاب
"الاستعمار، أعلى مراحل
الرأسمالية"، المجلد 19، صفحة
71، الطبعة الروسية).
وتبعاً لذلك، يتغير ذات الشكل
الذي توضع به مسألة الثورة
البروليتارية، مسألة طبيعية
هذه الثورة، ومداها، وعمقها؛
تتغير اللوحة الإجمالية
للثورة بوجه عام.
فقبلاً، كان تحليل الظروف
التي تسبق الثورة
البروليتارية يجري عادة من
وجهة نظر الوضع الاقتصادي
لهذا البلد أو ذاك مأخوذاً
بمفرده. أما الآن، فإن هذا
الشكل في معالجة القضية لم
يعد كافياً. فينبغي الآن
مجابهة الأمر من وجهة نظر
الحالة الاقتصادية في مجموع
البلدان، أو في أكثريتها، من
وجهة نظر الحالة الاقتصادية
في مجموع البلدان، أو في
أكثرها، من وجهة نظر حالة
الاقتصاد العالمي، لأن مختلف
البلدان ومختلف الاقتصاديات
الوطنية لم تعد وحدات تكفي
نفسها بنفسها، بل أصبحت حلقات
في سلسلة واحدة أسمها
الاقتصاد العالمي، لأن
الرأسمالية القديمة
"المتمدنة" تطورت إلى
استعمار، والاستعمار هو نظام
عالمي قائم على الاستعباد
المالي والاضطهاد الاستعماري
لأكثرية السكان العظمى في
الكرة الأرضية من قبل قبضة من
البلدان "المتقدمة".
قبلا، جرت العادة أن يتناول
الكلام وجود أو غياب ظروف
موضوعية لأجل الثورة
البروليتارية في مختلف
البلدان، أو، على الأصح، في
هذا البلد المتطور أو ذاك.
أما الآن. فإن وجهة النظر هذه
لم تعد كافية. فينبغي الكلام
الآن عن وجود أو غياب ظروف
موضوعية لأجل الثورة في مجموع
نظام الاقتصاد الاستعماري
العالمي، من حيث هو كل، وعلى
هذا، فأن وجود بعض بلدان غير
متطورة بصورة كافية من
الناحية الصناعية، في جسم هذا
النظام، لا يمكن أن يكون
عائقاً لا يُذلل في وجه
الثورة، ما دام النظام
بمجموعه، أو على الأصح لأن
النظام بمجموعه، قد نضج لأجل
الثورة.
قبلا، كانت العادة أن يجري
الكلام عن الثورة
البروليتارية في هذا البلد
المتطور أو ذاك، من حيث هي
مقدار بذاته، مقدار مطلق يكفي
نفسه بنفسه، ويعارض جبهة
وطنية معنية للرأسمال، كما هي
الحال في قطبين متعارضين
متقاطرين. أما الآن، فأن وجهة
النظر هذه لم تعد كافية
فينبغي الكلام الآن عن الثورة
البروليتارية العالمية، ذلك
لأن جبهات الرأسمالية الوطنية
المختلفة أصبحت حلقات في
سلسلة واحدة أسمها جبهة
الاستعمار العالمية التي
ينبغي أن تعارضها الجبهة
المشتركة للحركة الثورية في
جميع البلدان.
قبلا، كانت الثورة
البروليتارية تعتبر نتيجة
للتطور الداخلي وحده في بلد
معين. أما الآن، فإن وجهة
النظر هذه لم تعد كافية فالآن
ينبغي اعتبار الثورة
البروليتارية قبل كل شيء
كنتيجة لتطور التناقضات في
النظام العالمي للاستعمار،
كنتيجة لانقطاع سلسلة الجبهة
الاستعمارية العالمية في هذا
البلد أو ذاك.
أين ستبدأ الثورة؟ أين، في أي
بلد قبل غيره، يمكن خرق جبهة
الرأسمال؟
هناك حيث الصناعة أكثر
تطوراً، حيث البروليتاريا
تؤلف الأكثرية، حيث الثقافة
أكثر، والديمقراطية أكثر،...
هكذا كان الجواب قبلاً، بوجه
عام.
غير أن النظرية اللينينية عن
الثورة تعارض ذلك وتجيب: كلا!
ليس بالضرورة هناك حيث
الصناعة أكثر تطوراً، الخ.
فأن جبهة الرأسمال ستُخرق
هناك من حيث سلسلة الاستعمار
أضعف، لأن الثورة
البروليتارية هي نتيجة
لانقطاع سلسلة الجبهة
الاستعمارية العالمية في أضعف
مكان فيها، وعلى هذا، فمن
الممكن أن يحدث أن البلد الذي
بدأ الثورة، البلد الذي خرق
جبهة الرأسمال، هو، من
الناحية الرأسمالية، أقل
تطوراً من البلدان الأخرى
التي هي أكثر تطوراً والتي
بقيت مع ذلك في نطاق
الرأسمالية.
في عام 1917، كانت سلسلة
الجبهة العالمية الاستعمارية
في روسيا أضعف منها في
البلدان الأخرى، وهناك انقطعت
وفتحت الطريق للثورة
البروليتارية. فلماذا؟ لأن
روسيا كانت تجري فيها اكبر
ثورة من الثورات الشعبية،
ثورة تسير في رأسها
بروليتاريا ثورية لديها مثل
هذا الحليف الجدي الذي هو
ملايين الفلاحين المضطهدين
المستثمرين من قبل كبار ملاكي
الأراضي. لأن خصم الثورة هناك
كان ذلك الممثل البشع
للاستعمار، وهو القيصرية
المحرومة من كل وزن معنوي
والتي استحقت حقد جميع
السكان. لقد حدث أن كانت
السلسلة في روسيا اضعف، رغم
أن روسيا كانت، من الناحية
الرأسمالية، أقل تطوراً،
مثلاً، من فرنسا أو ألمانيا،
من انكلترا أو أميركا.
وأين ستنقطع السلسلة في
المستقبل القريب؟ كذلك هناك
حيث ستكون أضعف. ليس من
المستبعد أن تنقطع السلسلة
مثلاً في الهند. ولماذا؟ لأن
هناك بروليتاريا ثورية فتية
ملتهبة، ولها حليف هو حركة
التحرر الوطني، وهو حليف خطير
الشأن دون جدال، وجدي دون
جدال. ولأن الثورة، في هذا
البلد، لها هذا الخصم المعروف
عند الجميع وهو الاستعمار
الأجنبي المحروم من كل نفوذ
معنوي والذي استحق حقد جميع
الجماهير المضطهدة
والمستثمرين في الهند.
كذلك من الممكن تماماً أن
تنقطع السلسلة في ألمانيا،
لماذا؟ لن العوامل التي تعمل
في الهند مثلاً، بدأت تعمل في
ألمانيا أيضاً. ومن الواضح أن
الفرق العظيم بين مستوى تطور
الهند ومستوى تطور ألمانيا لا
يمكن إلا أن يترك طابعه على
سير الثورة وعلى مخرجها في
ألمانيا.
ولهذا يقول لينين:
"... إن البلدان الرأسمالية
في أوروبا الغربية ستكمل
تطورها نحو الاشتراكية... لا
عن طريق "نضج" متساوي
للاشتراكية لديها، بل عن طريق
استثمار دول لدول أخرى، عن
طريق استثمار أول دولة مغلوبة
في الحرب الاستعمارية، ويضاف
إليه استثمار كل الشرق. غير
أن الشرق، من جهة أخرى، قد
دخل نهائياً، بسبب هذه الحرب
الاستعمارية الأولى نفسها، في
الحركة الثورية، وأنجز
نهائياً في فلك الحركة
الثورية العالمية" ("من الخير
أقل ولكن أحسن"، المؤلفات
الكاملة، المجلد 27، صفحة 415
– 416).
وبكلمة، ينبغي، كقاعدة عامة،
أن تنقطع سلسلة الجبهة
الاستعمارية، هناك حيث حلقات
السلسلة هي أضعف، وعلى كل
حال، ليس من ضروري أن تنقطع
هناك حيث الرأسمالية أكثر
تطوراً، وحيث النسبة المئوية
للبروليتاريا هي كذا، ونسبة
الفلاحين كذا، وما إلى ذلك.
ولهذا، فإن الحسابات
الإحصائية عن النسبة المئوية
البروليتارية في تركيب
السكان، في هذا البلد بمفرده
أو ذاك، تفقد فيما يتعلق بحل
مسألة الثورة البروليتارية،
تلك الأهمية الاستثنائية التي
كان يعزوها إليها، بطيبة
خاطر، فقهاء الأممية الثانية
الذين لم يفهموا ما هو
الاستعمار والذين يخافون
الثورة كما يخافون الطاعون.
وبعد، فإن أبطال الأممية
الثانية كانوا يؤكدون (وما
زالوا يؤكدون) أن بين الثورة
الديمقراطية البرجوازية من
جهة، والثورة البروليتارية من
جهة أخرى، هوة، أو على كل
حال، سوراً مثل سور الصين
يفصل أحداهما عن الآخر بفترة
من الزمن طويلة كثيراً أو
قليلاً، نعمل فيها البرجوازية
التي تصل إلى الحكم عن تطوير
الرأسمالية، بينما تكدس
البروليتارية قواها وتستعد
"للنضال الحاسم" ضد
الرأسمالية. ويقدرون هذه
الفترة، عادة بعشرات السنين،
إن لم يكن بأكثر من ذلك. فهل
بنا من حاجة إلى البرهان على
أن "نظرية" سور الصين هذه هي،
في ظروف الاستعمار، خالية من
كل معنى علمي وأنها ليست، ولا
يمكن أن تكون، سوى وسيلة
لتغطية ولتزيين الشهوات
المعادية للثورة لدى
البرجوازية؟ وهل بنا من حاجة
إلى البرهان بأنه، في ظروف
الاستعمار الذي يحمل في صلبة
بذرة الاصطدامات والحروب، في
ظروف "عشية الثورة
الاشتراكية"، حين تتحول
الرأسمالية "المزدهرة" إلى
رأسمالية "محتضرة" (لينين)،
بينما الحركة الثورية تتعاظم
في جميع بلدان العالم، وحين
يتحالف الاستعمار مع جميع
القوى الرجعية دون استثناء،
حتى مع القيصرية ومع نظام
القنانة، وبذلك يجعل من
الضرورة تكتل جميع القوى
الثورية، ابتداء من الحركة
البروليتارية في الغرب إلى
حركة التحرر الوطني في الشرق،
وحين يصبح تحطيم بقايا
الأنظمة الإقطاعية غير ممكن
بدون نضال ثوري ضد الاستعمار،
- هل بنا من حاجة على البرهان
بأن الثورة الديمقراطية
البرجوازية، في بلد متطور إلى
حد ما، لا يمكن، في مثل هذه
الظروف، إلا أن تقترب من
الثورة البروليتارية، لا يمكن
إلا أن تتحول الأولى إلى
الثانية؟ لقد برهن تاريخ
الثورة في روسيا، بوضوح، أن
هذه النظرية صحيحة ولا جدال
فيها. وليس من العبث أن يكون
لينين، منذ عام 1905، على
أعتاب الثورة الروسية الأولى،
قد صور في كراسة "خطتان"
الثورة الديمقراطية
البرجوازية والثورة
الاشتراكية كحلقتين من سلسلة
واحدة، كلوحة واحدة جامعة
لمدى الثورة الروسية:
"ينبغي على البروليتاريا أن
تقوم بالثورة الديمقراطية إلى
النهاية بل تضم إليها جماهير
الفلاحين لسحق مقاومة
الأوتوقراطية بالقوة، وشل
تذبذب البرجوازية. وينبغي على
البروليتاريا أن تقوم بالثورة
الاشتراكية بأن تضم إليها
جماهير العناصر شبه
البروليتارية من السكان لسحق
مقاومة البرجوازية بالقوة وشل
تذبذب الفلاحين البرجوازية
الصغيرة. تلك هي مهمات
البروليتاريا، هذه المهمات
التي يصورها جماعة "الايسكرا"
الجديدة بشكل بالغ الضيق في
جميع مقاييسهم وجميع قراراتهم
عن مدى الثورة."(لينين،
المجلد الثامن، صفحة 96).
ولا أتكلم هنا عن مؤلفات
لينين الأخرى الحديثة التي
تظهر فيها فكرة تحويل الثورة
البرجوازية إلى ثورة
بروليتارية بصورة أبرز مما في
"خطتان"، من حيث هي، أعني هذه
الفكرة، أحد أحجار الزاوية في
النظرية اللينينية عن الثورة.
يعتقد بعض الرفاق، كما يظهر،
أن لينين لم يصل إلى هذه
الفكرة إلا في عام 1916،
وأنه، قبل ذلك، كان يعتبر أن
الثورة في روسيا ستنحصر في
النطاق البرجوازي، وأن الحكم،
بالتالي، سينتقل من أيدي جهاز
ديكتاتورية البروليتاريا
والفلاحين إلى أيدي
البرجوازية، لا إلى أيدي
البروليتاريا. ويقال بأن هذا
التأكيد قد تسرب حتى إلى
صحافتنا الشيوعية. فعليّ أن
أقول أن هذا التأكيد خاطىء
تماماً، وأنه لا يطابق الواقع
أبداً.
في وسعي أن ارجع إلى خطاب
لينين المعروف الذي ألقاه في
المؤتمر الثالث للحزب في عام
1905، وصف فيه ديكتاتورية
البروليتاريا والفلاحين، التي
هي انتصار الثورة
الديمقراطية، بأنها ليست
"تنظيم النظام"، بل هي "تنظيم
الحرب" (تقرير عن اشتراك
الاشتراكية الديمقراطية
بالحكومة المؤقتة الثورية، في
المؤتمر الثالث لحزب العمال
الاشتراكي الديمقراطي في
روسيا، المجلد السابع، صفحة
264).
وفي وسعي أن أرجع بعد ذلك إلى
مقالات لينين المعروفة "عن
الحكومة المؤقتة" (عام 1905)،
وفيها يشرح الإمكانيات
المقبلة لتطور الثورة الروسية
ويضع أمام الحزب مهمة "العمل
بشكل لا تكون معه الثورة
الروسية حركة بضعة أشهر، بل
حركة سنين عديدة، وأن لا تؤدي
فقط إلى تنازل القابضين على
زمام الحكم عن بعض الإصلاحات
الطفيفة، بل أن تؤدي إلى
القضاء تماماً على هذا الحكم"
– وفي هذه المقالات، يشرح
لينين هذه الإمكانية المقبلة
ويربطها بالثورة في أوروبا
ويقول متابعاً:
"وإذا استطعنا بلوغ ذلك،
فعندئذ... عندئذ سيلهب الحريق
الثوري أوروبا، وسينهض العامل
الأوروبي بدوره، وقد ضاق
ذرعاً بما يلقاه من عذاب من
الرجعية البرجوازية، فيرينا
"كيف يكون الشغل"، عندئذ يعود
النهوض الثوري في أوروبا
فيحدث رد فعل مقابل في روسيا
ويجعل من عهد مدته سنوات
ثورية عديدة، عهداً مدته
عشرات عديدة من السنين
الثورية..." ("الاشتراكية
الديمقراطية والحكومة المؤقتة
الثورية"، المجلد السابع،
صفحة 191).
ويمكنني أن أرجع، بعد ذلك،
إلى مقال لينين المعروف،
المنشور عام 1915، والذي يقول
فيه:
"أن البروليتاريا تناضل بتفان
في سبيل الاستيلاء على الحكم،
في سبيل الجمهورية، في سبيل
مصادرة الأراضي ... في سبيل
إشراك "الجماهير الشعبية غير
البروليتارية" في تحرير روسيا
البرجوازية من نير
"الاستعمار" العسكري الإقطاعي
(- القيصرية). وستستفيد
البروليتاريا حالاً(13) من
تحرير روسيا البرجوازية من
نير القيصرية ومن سلطة كبار
الملاكين العقاريين على
الأرض، ستستفيد البروليتاريا
من ذلك لا لأجل مساعدة
الفلاحين الأغنياء في نضالهم
ضد العمال الزراعيين، بل لأجل
القيام بالثورة الاشتراكية
بالتحالف مع بروليتاريي
أوروبا". ("خطتا الثورة"،
المجلد الثامن عشر، الصفحة
318).
وفي استطاعتي أخيراً أن أرجع
إلى مقطع معروف من كراس
الثورة البروليتارية والمرتد
كاوتسكي وفيه يستشهد لينين
بالمقطع المذكور أعلاه عن مدى
الثورة الروسية في كتاب خطتان
ويصل إلى الاستنتاج التالي:
"أن كل شيء قد جرى على الضبط
كما قلنا، أن مجرى الثورة قد
صدق صحة تفكيرنا.. ففي
البداية مع "كل" جماهير
الفلاحين ضد النظام الملكي،
ضد كبار ملاكي الأراضي، ضد
الإقطاعية (وبذلك تبقى الثورة
برجوازية، ديمقراطية
برجوازية). وبعدئذ مع
الفلاحين الفقراء، مع أشباه
البروليتاريين، مع جميع
المستثمرين، ضد الرأسمالية
بما فيها أغنياء الريف
والكولاك والمحتكرون، وبذلك
تصبح الثورة اشتراكية. أما أن
يراد إقامة سور صيني بصورة
مصطنعة بين الواحدة والأخرى
والفصل بينهما بأي شيء سوى
درجة استعداد البروليتاريا
ودرجة اتحادها مع الفلاحين
الفقراء، فتلك هي غاية ما
يمكن أن يصل إليه تشويه
الماركسية وابتذالها وإحلال
الليبرالية محلها". (المجلد
23، صفحة 391).
إن ذلك يكفي فيما اعتقد.
وقد يقال لنا: حسناً، ولكن
مادام الأمر كذلك، فلماذا
حارب لينين فكرة "الثورة
الدائمة (المستمرة)"؟
ذلك لأن لينين كان يقترح
"الاستفادة إلى النهاية" من
الكفاءات الثورية لدى جماهير
الفلاحين واستخدام طاقتها
الثورية عن آخرها لتصفية
القيصرية تصفية تامة
وللانتقال إلى الثورة
البروليتارية. هذا، في حين
يكن أنصار الثورة الدائمة
يفهمون دور جماهير الفلاحين
العظيم الأهمية في الثورة
الروسية، كانوا يستصغرون قوة
الطاقة الثورية لدى جماهير
الفلاحين، كانوا يستصغرون قوة
البروليتاريا الروسية
وكفاءتها على جر جماهير
الفلاحين وراءها. وهكذا جعلوا
من الأصعب قضية تحرير جماهير
الفلاحين من نفوذ البرجوازية،
قضية جمع جماهير الفلاحين حول
البروليتاريا.
ذلك لأن لينين كان يقترح
تتويج عمل الثورة بانتقال
الحكم إلى البروليتاريا.
بينما أنصار الثورة "الدائمة"
يبغون البدء رأساً بحكم
البروليتاريا، فما كانوا
يدركون أنهم بذلك يغمضون
أعينهم عن هذا "الواقع
البسيط" وهو بقايا الإقطاعية
ولا يحسبون حساب هذه القوة
العظيمة الأهمية التي هي
جماهير الفلاحين الروس، ما
كانوا يدركون أن سياسة كهذه
ما كان من الممكن إلا أن
تعرقل قضية كسب جماهير
الفلاحين إلى جانب
البروليتاريا.
وإذن فلينين لم يكن يحارب
أنصار الثورة "الدائمة"، حول
قضية استمرار الثورة، إذ أن
لينين نفسه كان يتمسك بوجهة
نظر الثورة المستمرة، بل كان
يحاربهم لأنهم كانوا يستصغرون
دور جماهير الفلاحين، الذين
هم أعظم احتياطي
للبروليتاريا،ولأنهم ما كانوا
يفهمون فكرة زعامة
البروليتاريا.
وليس في المستطاع اعتبار فكرة
الثورة "الدائمة فكرة جديدة.
فقد صاغها ماركس، للمرة
الأولى، حوالي عام 1850، في
رسالته الشهيرة إلى عصبة
الشيوعيين. ومن هذه الوثيقة
أخذ "الدائميون" عندنا فكرة
الثورة المستمرة. وجدير
بالذكر أن "الدائميين" عندنا،
حين اخذوا هذه الفكرة عن
ماركس، عدلوها بعض الشيء،
وبتعديلهم إياها "أفسدوها"
وجعلوها غير صالحة للاستخدام
العملي. فكان لا بد من يد
لينين المجربة البارعة لإصلاح
هذا الخطأ، ولأخذ فكرة ماركس
عن الثورة المستمرة بشكلها
الصافي، وجعلها أحد أحجار
الزاوية في النظرية اللينينية
عن الثورة.
وهاكم ما يقوله ماركس بصدد
الثورة المستمرة (الدائمة)،
بعدما عدَّد في رسالته سلسلة
من المطالب الديمقراطية
الثورية التي يدعو الشيوعيين
إلى انتزاعها، قال ماركس:
"في حين أن البرجوازيين
الديمقراطيين يريدون، بتحقيق
أكثر ما يمكن من المطالب
المتقدم ذكرها، إنهاء الثورة
على أسرع وجه، تقوم مصالحنا
ومهمتنا نحن على جعل الثورة
دائمة، مادامت جميع الطبقات
المالكة، المالكة كثيراً أو
قليلاً، لم تقص عن الحكم، وما
دامت البروليتاريا لم تستول
على سلطة الدولة، ومادامت
جمعيات البروليتاريين في جميع
أقطار العالم الرئيسية، وليس
في بلد واحد فقط، لم تتطور
بصورة كافية لوقف المزاحمة
بين بروليتاريي هذه الأقطار،
ومادامت قوى الإنتاج، القوى
الحاسمة على الأقل، لم تتمركز
في أيدي البروليتاريين".
وبكلمة أخرى:
أ) إن ماركس لم يقترح قط أن
تبدأ الثورة في ألمانيا، خلال
أعوام 1850 – 1860، بالسلطة
البروليتارية رأساً، وذلك على
الضد من خطط "دائميينا"
الروس؛
ب) إن ماركس كان يقترح فقط
تتويج عمل الثورة بالسلطة
البروليتارية للدولة، وذلك
بإسقاط جميع أقسام البرجوازية
عن سدة الحكم، واحداً بعد
آخر، خطوة خطوة، ومن ثم، بعد
أن تصبح البروليتاريا في
الحكم، اشعال حريق الثورة في
جميع الأقطار. وكل ذلك ينطبق
تماماً على ما علَّمه لينين
وما حققه في مجرى ثورتنا
سيراً على نظريته عن الثورة
البروليتارية في ظروف
الاستعمار.
وينتج من ذلك أن "دائميينا"
الروس لم يستصغروا فقط دور
جماهير الفلاحين في الثورة
الروسية، وكذلك أهمية فكرة
زعامة البروليتاريا، بل هم
عدّلوا فكرة الثورة "الدائمة"
عند ماركس (بإفسادها) وجعلوها
غير صالحة للاستخدام العملي.
لهذا كان لينين يتهكم على
نظرية "دائميينا" فينعتها
بأنها "فريدة" و "رائعة"،
ويتهمهم بأنهم لا يريدون
"التفكير في الأسباب التي
جعلت هذه النظرية الرائعة على
هامش الحياة طوال عشرة
أعوام". (من مقال كتبه لينين
عام 1915، بعد عشرة أعوام من
ظهور نظرية "الدائميين" في
روسيا. راجع "خطتا الثورة"،
المجلد 18، صفحة 317).
لهذا كان لينين يعتبر هذه
النظرية نصف منشفيكية، قائلاً
بأنها "تستعير من البلاشفة
الدعوة إلى نضال البروليتاريا
الثوري الفاصل، وإلى استيلاء
هذه الأخيرة على السلطة
السياسية، وتستعير من
المنشفيك "إنكار" دور
الفلاحين" (المرجع نفسه).
تلك هي الوضعية فيما يتعلق
بفكرة لينين عن تحويل الثورة
الديمقراطية البرجوازية إلى
ثورة بروليتارية، وعن استخدام
الثورة البرجوازية للانتقال
"حالا" إلى الثورة
البروليتارية.
ولنتابع. في السابق، كانوا
يعتبرون من غير الممكن انتصار
الثورة في بلد واحد، إذ كانوا
يعتقدون أن الانتصار على
البرجوازية يقتضي عملاً
مشتركاً من البروليتاريين في
مجموع الأقطار المتقدمة، أو
في معظم مثل هذه الأقطار، على
الأقل. أما الآن، فوجهة النظر
هذه لم تعد تطابق الواقع.
الآن، ينبغي الانطلاق من
إمكانية مثل هذا الانتصار،
لأن تطور مختلف الأقطار
الرأسمالية في ظروف
الاستعمار، بصورة غير متساوية
وعلى قفزات، وتطور التناقضات
الحادة في داخل الاستعمار،
مما يؤدي إلى حروب محتمة،
ونمو الحركة الثورية بل كذلك
إلى ضرورة انتصار
البروليتاريا في بلدان
منفردة. وأن تاريخ الثورة في
روسيا لبرهان مباشر على ذلك.
ولكن من المهم أن لا ننسى هنا
أن خلع البرجوازية لا يمكن
تحقيقه بنجاح إلا عندما تجتمع
بعض الشروط التي هي ضرورية
بصورة مطلقة، والتي بدونها
يكون بلا جدوى حتى مجرد
التفكير في استيلاء
البروليتاريا على السلطة.
وها كم ما يقوله لينين بصدد
هذه الشروط في كراسه مرض
الطفولة:
"إن قانون الثورة الأساسي،
الذي أثبتته جميع الثورات،
ولاسيما الثورات الروسية
الثلاث في القرن العشرين، هو:
لا يكفي، لأجل الثورة، أن
تشعر جماهير المستثمرين
والمضطهدين باستحالة العيش
كالسابق، وأن تطالب بتغييرات.
فينبغي، لأجل الثورة، أن يكون
المستثمرون لم يعد في
استطاعتهم أن يعيشوا ويحكموا
كالسابق. فعندما يصبح "الذين
تحت" لا يريدون العيش
كالسابق، و"الذين فوق" لا
يستطيعون الحكم كالسابق.
عندئذ فقط تستطيع الثورة أن
تنتصر. ويمكن التعبير عن هذه
الحقيقة بصورة أخرى في
الكلمات التالية: أن الثورة
غير ممكنة بدون أزمة وطنية
عامة (تتناول المستثمَرين
والمستثمِرين معاً)(14) .
فإذن لأجل الثورة، ينبغي،
أولاً، أن تكون أكثرية العمال
(أو، في كل حال، أكثرية
العمال الواعيين، المفكرين،
النشيطين سياسياً) قد فهمت
فهماً تاماً ضرورة الثورة،
وأن تكون مستعدة للموت في
سبيلها، وينبغي، ثانيا،ً أن
تعاني الطبقات الحاكمة أزمة
حكومية من شأنها أن تجر إلى
الحياة السياسية حتى أكثر
الجماهير تأخراً..، وأن تضعف
الحكومة وتجعل من الممكن
للثوريين خلعها بسرعة"
(المجلد 25، صفحة 222).
غير أن خلع سلطة البرجوازية
وإقامة سلطة البروليتاريا في
بلد واحد، لا يعنيان بعدُ،
ضمان انتصار الاشتراكية
التام. أن البروليتاريا في
البلد المنتصر، بعد توطيد
سلطتها، وجرّ جماهير الفلاحين
وراءها، في وسعها ومن واجبها
أن تبني المجتمع الاشتراكي.
ولكن هل يعني هذا أنها بذلك
تحقق انتصار الاشتراكية
التام، النهائي؟ وبعبارة
أخرى، هل يعني هذا أنها
تستطيع، بقوى بلدها وحدها، أن
توطد الاشتراكية نهائياً
وتضمن البلاد تماماً ضد
التدخل، وبالتالي، ضد إعادة
النظام الرأسمالي؟ كلا،
طبعاً. فلأجل هذا، من الضروري
أن تنتصر الثورة في بعض
البلدان، على الأقل. ولذلك
فأن تطوير ومساندة الثورة في
الأقطار الأخرى هما مهمة
أساسية على الثورة المنتصرة.
لذلك ينبغي للثورة في البلد
المنتصر أن لا تعتبر نفسها
كمقدار نفسه بنفسه، بل كعون،
كوسيلة لتعجيل انتصار
البروليتاريا في الأقطار
الأخرى.
لقد أفصح لينين عن هذه الفكرة
بكلمتين، إذ قال أن مهمة
الثورة المنتصرة هي القيام
"بأقصى ما هو ممكن التحقيق في
بلد واحد لأجل تطوير ومساندة
وأيقاظ الثورة في جميع
الأقطار" (الثورة
البروليتارية والمرتد
كاوتسكي، المجلد 23، صفحة
385).
تلك هي، أجمالاً، الخطوط
المميزة للنظرية اللينينية عن
الثورة البروليتارية.
(8)إشارة التأكيد مني ج.
ستالين.
(9) Empiriocriticisme et
Materialisme.
(10) Trade Unionisme : تيار
انتهازي في حركة العمال يرمي
إلى صرف الطبقة العاملة عن
النضال السياسي بدعوى حصر
اهتمامها بالقضايا الاقتصادية
– هيئة التعريب.
(11) المتروبول (Metropole)،
كلمة تطلق على البلد
الاستعماري المسيطر بالنسبة
للمستعمرات والأقطار التابعة
له. فانكلترا هي المتروبول
بالنسبة لكينيا والملايو،
مثلا، وفرنسا هي المتروبول
بالنسبة لبلاد السنغال
ومدغسكر، الخ.- هيئة التعريب.
(12) إشارة التأكيد مني – ج.
ستالين.
(13) إشارات التأكيد مني ج.
ستالين.
(14) إشارة التأكيد مني – ج.
ستالين.
|