<%@ Language=JavaScript %> صلاح حسن الموسوي  صورة المثقف الملتزم

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

صورة المثقف الملتزم

 

 

 

 

 

 

 

 

صلاح حسن الموسوي * 

 

في آلام فارتر يتحدث الشاعر الألماني الكبير غوته بلسان بطل روايته حول السبيل الذي يهدي الإنسان إلى السعادة، ويصل في واحده من مكابدات بطله العنيفة والمؤلمة إلى تجلي الحكمة الراسخة بعقم وسقم الأنا الشاردة بين الأمكنة، الباحثة عن السعادة في حدود الذات المتوحدة والمسكونة بهموم الترحال والنفي الطوعي المتواصل، ويجد الحل في الخروج من ضيق الأنا والاندكاك بالآخر، بالصورة البدائية المتمثلة بالعائلة ورابطه الغرائزي المتين أو التسامي والتحليق بقوة الوعي في الفضاءات الأكثر رحابة ورقي كالوطن والشعب والإنسانية، وتتركز الصورة هنا بشخوص (الأنبياء) الذين كانت حركتهم تحت أعلى السقوف ونقصد سقف الإنسانية وبلغت تضحياتهم في سبيل الآخر نقطة الذروة حيث جاءت الصورة القرآنية لتعبر عن هذا العطاء وثوابه اللامتناهي بالآية (ولسوف يعطيك ربك فترضى)..

 

ينطبق هذا المعنى بدرجة عالية على المثقف الذي يهتم ويتحمل مسؤولية القضايا التي لا تعنيه بصورة مباشرة ويتمازج نتاجه وإبداعه مع قيم الحرية المقدسة ومبادئ الالتزام الاجتماعي والسياسي والدفاع عن القضايا العادلة، وأرخ البعض لولادة المثقف بالمعنى الحديث مع الموقف الشجاع للروائي الفرنسي إميل زولا وصدامه مع المؤسستين السياسية والعسكرية في منتصف القرن التاسع عشر عبر مقالته الشهيرة (إني اتهم) التي دافع فيها عن الضباط اليهودي الفرنسي دريفوس الذي اتهم ظلماً بجريمة الخيانة العظمى بحسب قناعة زولا التي تعرض بسببها إلى الكثير من المعاناة والمضايقات، وعلى صعيد البلدان والشعوب تعد الثقافة آخر الحصون التي يحتمي بها أبان النكبات والهزائم لاستنهاض روح الصمود والمقاومة وتعويض الخسارة في ميادين السياسة والاقتصاد والحرب لاختزانها على ثوابت الوجود والديمومة لهذه الشعوب، وباعتبار المثقف الحقيقي والملتزم كائن أخلاقي يجوس في أحلامه خارج زمن (الآن) ولا يقيده في الحركة المعيار البراغماتي وحسابات الربح والخسارة المادية، وتشير إحداث الحرب العالمية الثانية إلى احتفاظ جهاز الغستابو الألماني بقائمة بأسماء عشرات المثقفين البولنديين تتم تصفيتهم فور اجتياح الجيوش النازية لبولندا ولا يستغرب فهم النازيين العميق لدور المثقفين الحاسم في مقاومة الاحتلال وقد شاع عن احد أعوان هتلر مقولته (أضع يدي على مسدسي عندما اسمع بكلمة الثقافة).

 

يتردد حالياً في أوساط الليبرالية الجديدة مفهوم (موت المثقف) كصرعة ثقافية غربية جديدة تضاف إلى ما سبقها من مقولات ما بعد انتهاء الحرب الباردة كـ (موت الأيديولوجيا) و(نهاية التاريخ) وولادة (الإنسان الأخير) من رحم العولمة القادرة على إلغاء اختلاف الهويات بين سائر البشر وتوحيدهم عبر تنشيط الرغبات المشتركة للمتعية والاستهلاك الفوري، وتلعب تكنولوجيا الاتصال المتطورة وعلى رأسها التلفزيون الدور الأعظم في بعث إيديولوجيا ناعمة حسب تعبير المفكر الفرنسي بيار بورديو تتمثل في الجرعات اليومية من الصور التي يبثها التلفزيون، جرعات تحل منطق الإغراء محل منطق الإقناع تدمج كل شيء بالترفيه والاستعراض. وتسعى الليبرالية الجديدة التي تعد الايدولوجيا الرسمية للعولمة أو (الأمركة) إلى سلب المحتوى الإنساني لتعريف غرامشي (للمثقف العضوي) وحصره في دور الخادم لمؤسسات رأس المال العملاقة وتبرير سعارها الربحي وتجميل حروبها من اجل السيطرة على مقدرات البلدان الضعيفة، وقد تفننت وسائل البث التلفزيوني الأمريكي في تسويق الحروب الأمريكية بأشبه ما تكون إلى اللعبة الالكترونية المسلية عبر إخماد طاقة المعارضة والرف لمشاهد الرعب والتقتيل وتخدير المتلقي وإدهاشه بفنون التكنولوجيا وإبداعات الصناعة الحربية الأمريكية عبر أداء طائرة الشبح ودقة صواريخ التوماهوك.

يؤشر العقد الراهن وسني التسعينات التي سبقته طغيان للخطاب الليبرالي في الثقافة العربية ساعد عليه التراجع الكبير للأطروحة اليسارية والخشية من التمدد الأصولي الذي غلب على المساحة الأكبر من الشارع العربي وتطور وسائل الاتصال خصوصاً البث التلفزيوني والشبكة العنكبوتية (الإنترنت) التي ساعدت كثيراً في التواصل مع تطورات الثقافة الغربية، إضافة إلى عامل الهجرة الكثيفة من الدول العربية إلى الولايات المتحدة وبلدان أوروبا الغربية مما حول نسبة عالية من المثقفين العرب هناك الى محاكين لقراءة الغرب للقضايا والمشاكل العربية، ولا نعني بكلامنا افتقار تاريخ المنطقة للفكر الليبرالي ونشاط الأحزاب الليبرالية وتؤكد مجريات الإحداث في المنطقة إبان المرحلة الاستعمارية بداية القرن العشرين الدور المحوري للبرجوازية الوطنية ومثقفيها وأحزابها الليبرالية في مقاومة النفوذ الأجنبي وبلورة الوعي الوطني والقومي كما في تجربة حزب الوفد في مصر والحزب الوطني الديمقراطي في العراق وتجارب أخرى كثيرة في الوطن العربي، إلا إن المقارنة بين التجربة الديمقراطي في العراق وتجارب أخرى كثيرة في الوطن العربي، إلا أن المقارنة بين التجربة السابقة والحالية، انبعاث الأولى من رحم التكون الاجتماعي والاقتصادي للبلدان العربية والتي كانت تمر بمراحل التبلور الطبيعي للمجتمع العصري وتأسيس الدولة الوطنية بعد تحقيق النصر ضد الهيمنة الاستعمارية، في حين انتمت الغالبية من حملة الليبرالية الجديدة سابقاً إلى التيار اليساري الإصلاحي والذي عايش الخيبات منذ خمسينيات القرن الماضي ،ولجأت الغالبية منهم إلى دول أوربا الغربية، ولم تتورع أسماء مشهورة في هذا التيار عن التأييد العلني لعودة الاستعمار الكولونيالي إلى المنطقة العربية كما حصل في تأييد الاحتلال الأمريكي للعراق ودخول إعداد منهم في اللجان الأمريكية بصفة مستشارين للحكومة والجيش الأمريكي قبل اجتياح العراق عام 2003، ومن بين هذه الأسماء الكاتب العراقي فالح عبد الجبار الذي يعمل معهده (معهد الدراسات الإستراتيجية) في بيروت والممول أمريكيا إلى التخصص في جوهر ثقافة العولمة ونزعتها لإدغام الهويات الوطنية في النموذج الأمريكي عبر تفتيت الكيانات الوطنية على أسس طائفية وعرقية ويتمثل دور المعهد بانجاز البحوث والدراسات حول المكونات الفرعية وتقديمها إلى المتروبول الرأسمالي في واشنطن، ومن المؤاخذات الأخرى على كتابات الليبرالية العربية الجديدة الاستسهال وخفة الوزن والخلو من العمق الفكري وارتكاز معظم كتاباتهم على شتم الجماهير والاستخفاف بمشاعرها، وتحكم فوبيا الإسلام السياسي بأخلاقية تناولهم لقضايا الأمة، والمثال في مزايدة شاكر النابلسي على الصهاينة إثناء زيارته لجامعة بن غوريون واتهامه العرب والإعلام العربي بالإرهاب وتفضح كتابات عزيز الحاج الحالية عصابه الشخصي وشعوره العميق بالنبذ نتيجة لتاريخه المدوي في الفشل السياسي والتخاذل الأخلاقي أيام كان احد القادة البارزين للعمل الشيوعي في العراق.

 

تتطلب موجة (اللبرلة) الطاغية حالياً في المشهد الثقافي العراقي وقفة تأملية ناقدة تضع في أولويات حسابها موقع الأجندة والأهداف الخارجية المرسومة للعراق، وشحذ العقل التحليلي والمقارن لفرز شحنات الأيدلوجيا والعواطف المحركة لهذه الموجة وتقييم ادعائها بالحياد الديمقراطي، ولابد من الاعتراف بفشل الثقافة العراقية قبل الاحتلال وبعده في صيانة المكون الوطني للذات العراقية ووقايتها من مصير التشظي على مساحات البنى الطائفية والعشائرية السابقة لوجود الدولة الوطنية الحديثة بفعل ظروف القهر الاستثنائي التي مرت على البلاد، وثمة من يشخص الأسباب بافتقار هذه الثقافة للقاعدة المعرفية الرصينة وطغيان الشعري بذاتيته ونرجسيته المعروفة، أو رثاثة المثقف الأيدلوجي العراقي وسوء تربيته الحزبية، وهناك من يلقي باللائمة على عاتق قوى القهر الخارجي والمحلي خصوصاً إبان الحصار الذي اجتمعت فيه إرادة التجويع الأمريكي مع أدوات قهر النظام مما أدى بنسبة عالية من المثقفين إلى مغادرة العراق والاستقرار في المنافي الأوروبية، وقد أوجز احد الكتاب العراقيين عمق الانفصال الوجداني بين مثقفي الخارج وإنسان الداخل المحاصر بالفارق المعيشي الكبير بين الطرفين إلى الحد الذي يتجاوز فيه اللاجئ مستوى الطبقة الوسطى أبان الرفاه الاقتصادي في حقبة سبعينيات القرن الماضي.

 

بعد كل هذه أعوام من الاحتلال الأمريكي للعراق وتفجر المخاطر المهددة لاستمراره بجغرافيته الحالية، يتوجب على المثقف النهوض بمهام وطنية تاريخية عديدة، في مقدمتها التصدي لمشاريع التقسيم على أسس طائفية وعرقية بواسطة إنتاج الأفكار وإبداع الرؤى القادرة على إعادة اللحمة للنسيج الاجتماعي والإرهاص للمشروع الوطني المناسب لوزن العراق الحضاري ومكانته الإقليمية والدولية، وأداء الدور المحوري في المقاومة السلمية للاحتلال المعلن أو المتخفي خلف المعاهدات والاتفاقيات وتصدر حركة القوى الاجتماعية الرافضة لنفوذه، وإخضاع (العملية السياسية الديمقراطية) لأدوات النقد والتفكيك الثقافي للتفريق بين الزبونية السياسية للخارج وحساسية الإخلاص الوطني، كما تتضمن مهمة المثقف العراقي المحاكمة للأطروحة الأمريكية بخصوص المجتمع المدني ومنظماته التي نمت كالفطر في الجسد العراقي وأساءت إلى قضايا (المطلبية المشروعة) بالتفتيت والخضوع لحسابات الربح والخسارة المادية. وتضيع العولمة بآلياتها الإعلامية والثقافية المزيد من الحيوية لدور المثقف العراقي الملتزم في ترصين وعي الفرد والجماعة المعرضة باستمرار لقصف هذه الآليات ودفقها المعلوماتي المتواصل.

 

 قد تحسب العديد من المهام التي ذكرناها ضمن اجرائيات العمل السياسي المباشر، وان انشغالات المثقف الرئيسية تتمحور حول هموم الإنتاج والإبداع الفكري والفني، ولا نختلف على صحة هذا التشخيص بشرط المسؤولية عن الدفاع وصيانة  الهوية الوطنية وإعادة الثقة للذات العراقية باستحضار الأزمان المشرقة في مسيرة الثقافة العراقية الحديثة والتنويه بسيرة الآباء المؤسسين لهذه الثقافة، الذين جمعوا بين العطاء الفكري أو الأدبي وممارسة النضال الوطني، فالمثقف لا يرضى بالواقع حاكماً عليه بل يسعى حثيثاً للارتقاء الدائم به، يتصدى للسياسي الردئ ويعطي نفسه الحق بالمزايدة النبيلة على السياسي الجيد لأبنية التخريب أو التكسب الشخصي، بل للدفع صوب المثل الوطنية والإنسانية العالية، وفي لحظات الانتصار لا يتخفف المثقف الحقيقي من عبء صليبه ولا يغفل عن مصير القتل والسجن المتشرد المتربص به، وكثيراً ما رسمت لنا تجارب الثورات وحركات التحرر الشعبية نهايات قاسية لمنظرين ومثقفين أسسوا للوعي النهضوي والثوري وأوقدوا جذوة الكفاح الجماهيري وبعد تحقق النصر حتمت آمال المثل وأحلا م الكمال الصدام مع رفاقهم من القادة السياسيين الذين انتقلوا للتو من الثورة إلى الدولة ،ورسالة المثقف العراقي هي رسالة ثورية بامتياز لبناء المجتمع الجديد وتأسيس الدولة الطبيعية، وذلك لارتكاز مهمة الوعي الثقافي الحاد على هدف الإسراع بردم هوة الزمن التي تعمقت بفعل التأمر الخارجي والنكوص الشعبي وفصمت الفرد العراقي عن خواص مواطنيته وخيرات وطنه، وأيضا مقاومة إجراءات التفتيت العولمية التي يقع مستقبل العراق في صدارة تجاربها.

 

*رئيس تحرير مجلة  المتابع الستراتيجي

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

 

 

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال