<%@ Language=JavaScript %>
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

 

الحساء الإمبريالي المرّ لقمة الثماني

 

نبيل نايلي
 

لا يختلف اثنان أن الحكومات الموقتة هي حكومات تصريف أعمال فحسب، ولا تملك لا الصلاحيات ولا التفويض الضروري للبت في الاستراتيجيات الكبرى ناهيك عن توقيع المعاهدات الاقتصادية والمصادقة على اتفاقيات «الشراكة الدائمة» أو «طويلة الأمد». من هذا المنطلق، يحقّ لنا أن نسأل، وقمة مجموعة الثماني قد أنهت أشغالها وصاغت بيانها الختامي، من فوّض البعثة التونسية وعلى رأسها الوزير الأوّل الموقّت والسيد الياس الجويني المكلّف الموقت بالإصلاحات الاقتصادية، المصادقة على بنود الشراكة وطلب ديون تمتد فترة سدادها إلى سنوات لتثقل كواهل أجيال مثقلة أصلاً؟ هل تم عرض الخطط على ثوار تونس قبل الحضور وتمثيلهم في قمة عنوانها «عالم جديد، أفكار حديثة»؟ هل نوقشت الخيارات واتُّفق على نهج معيّن قبل الحضور إلى «لاس فيغاس» فرنسا، مدينة دوفيل، Deauville، الشهيرة بدور القمار، لتمثيل ثوار تونس ومصر وضحايا الغبن ممن طحنتهم خيارات أملتها الهيئات الدولية نفسها التي تستجير بها حكومة القائد السبسي الموقتة وتأتمنها على مستقبل تونس وأجيالها؟ أليس هو القائل: «إن الحكومة ليست شحّاذاً يستجدي العون مهما كان مصدره؟».
نسي جنابه ما ورد في حوار أجرته معه صحيفة لوموند الفرنسية، Le Monde ، بتاريخ 20 ماي 2011، يومها صرّح: «تونس تطلب مساعدة ملموسة من المجتمع الدولي... لقد قدّمنا خطة مدروسة بعناية، مدعّمة بالأرقام، واضحة الأهداف وبجدولة مضبوطة. إذا كانت مجموعة الثماني قد وجهت لنا الدعوة فذلك لأنها تعيرنا شيئاً من الاهتمام».
لا أحد في تونس اطّلع على تفاصيل ما يسمّيه سعادة الوزير الموقت بـ«الخطة المدروسة» ولا شرح لمسحوقي سياسات السوق المتغوّلة التي تُعمّدها قمم نادي الأغنياء ويرسمها أباطرة مسك الشعوب من بطونها ودهاقنة النهب المنظّم، الذين يستجديهم، ما هي «الأهداف الواضحة» التي قدّمها كضمانات مسبقة لديون ستخلّد بذمّة أبناء تونس. تلك الضمانات التي ستعمّر بعده، ولن يكون بمقدور الحكومات المنتخبة المقبلة، مهما بلغت وطنيتها وثوريتها أن تتنصّل منها ولا من تبعات النّهج الذي يحاول هؤلاء ترسيخه في سباق محموم مع الزمن وتحت غبار كثيف من التوظيف المغرض لفزاعات «الفلتان الأمني»، واحتمال التلويح بورقة «الفراغ الدستوري» ومسرحية تسلّل عناصر تنظيم القاعدة وأخيراً التباكي على خسارة عائدات «الموسم السياحي» وهروب المستثمرين الأجانب.
يجري ذلك على مرأى ومسمع من الأحزاب والحركات السياسية التي تستنزف كل طاقاتها من أجل حملات انتخابية استباقية، غير مضمونة النتائج، من جهة، والخوض في صراعات دونكيشوتية ونقاشات هي أقرب إلى البيزنطية، من جهة أخرى.
هكذا خلا المجال لهؤلاء، يرسمون لنا خارطة تونس المقبلة في ورشات البنك الدولي وصندوق النقد والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، في جلسات قمة مجموعة الثماني لاستحضار أرواح الاستعمار المقنّع والتبعية.
دوائر النّهب المُعولم التي فاجأها الحراك الثوري العربي، في تونس وباقي الأقطار، ليربك نظرياتها السياسية، ويسفّه جهد ترسانات دبابات فكرها، ذلك الجراد الساهر على اغتصاب العقول وتدجين الشعوب من خلال برامج الاستنساخ المنظّم، Cloning.
هؤلاء يُمنحون اليوم فرصة التقاط أنفاسهم لاستدراج المارد الثوري العربي نحو قمقمه من جديد، من خلال التلويح بجزرة «المساعدات» و«القروض» و«الاستثمارات»، وعود لفظية وغير مكتوبة لا تلزم من لا عهد له ولا ميثاق سوى مصالحه الحيوية.
سلُوا منكوبي تسونامي عن الأرقام الفلكية التي وُعدوا بها ولم يروا منها سوى السراب الخادع. أولئك خُدعوا وقد كانوا مجرّد ضحايا جديرين بالشفقة، فما بالك بثوار يريدون تغيير وجه التاريخ؟ ما لم يستطيعوا إجهاضه بالتدخّل العسكري المباشر تحت أكذوبة ما يُسمّى بـ«التدخّل الإنساني»، يئدونه بـ«حبوب منع الحمل الثوري» الاقتصادية وبفيروس الديون السيادية ناخر المناعة الوطنية الوليدة. هكذا وأمام خلوّ ساحات التحرير من ثوارها، بعد أن سلّموا أعناقهم للأوصياء، ومقاولي السياسة، تكتمل تدريجياً حلقات الالتفاف والاحتواء الامبريالي الأفعواني. ذلك ما حذّر منه الكاتب والمفكّر طارق علي، أخيراً في مقال «من يعيد صياغة العالم العربي؟»، الصادر بالغارديان البريطانية، بقوله: «المرحلة الأولى من ربيع العرب انتهت، أما المرحلة الثانية وهي محاولة سحق واحتواء الحركات الشعبية الحقيقية فقد بدأت...».
في زهو وفخار يزفّنا الرئيس الفرنسي ثمن «الربيع العربي» الذي قدّره أعضاء نادي الثماني بأربعين مليار دولار، تتكفّل بنصفها بنوك التنموية، أما النصف الآخر فوقع توزيعه كالتالي: دول الثماني التزمت بمبلغ 8 مليارات، منها 1 مليار ستدفعه فرنسا، 1,3 مليار متخلّد بذمّة الاتحاد الأوروبي، أما البقية ففي عهدة بعض الدول الخليجية.
من صنعوا الثورة طالبوا فقط باسترجاع ما تجمّده هذه الدول «السخية جدّاً» من أرصدة وصناديق سيادية كانت ولا تزال لأعوانهم، بدعمهم ووفق توجيهاتهم وأوامرهم. أموالنا التي تفوق بكثير ما يبتزوننا به، والتي يماطلون في إعادتها وقد لن تعود. لا يغرنّكم قول هذا الأوباما وهو يتلو عليكم تعاويذه: «نحن ملتزمون بالاضطلاع بكل ما يلزم من أجل دعم الشعوب المتعطّشة للديموقراطية وسنعمل على دعم المسؤولين الذين ينتهجون طريق الإصلاح الديموقراطي»، ولا معسول قول ديفيد كاميرون: «رسالتنا بسيطة وواضحة: نحن نقف إلى جانبكم وسنساعدكم في بناء ديموقراطيتكم، سندعم اقتصادكم، وسنؤازركم بكل الطرق المتاحة لأن البديل عن النجاح في هذا المسار هو المزيد من التطرّف الذي ألحق كثيراً من الأذى بعالمنا»، فذلك ممّا صمّ آذاننا ولم يعد ينطلي سحره إلا على المازوشيين من عرب الواقعية السياسية.
لقد تعلّمنا من تجارب الماضي المريرة أن هذه المؤسسات الدولية وهذه الهيئات لا مروءة لها ولا فضل وما تمدّه باليمين تسترجعه مضاعفاً ومغمّساً بالبارود أو بالدم، باليسار. فالعرض المقدّم والقروض «الميسّرة» مشروطة بالتوصيف العائم الحمّال الأوجه، فيما ورد بقولهم: بذل الجهول الإصلاحية «المناسبة»، المناسبة لمن التبس عليه القول، فيلطّلع على ما جاء بتصريح رئيس البنك الدولي روبرت زوليك، Robert Zoellick : «إن المساعدة المالية التي ستحصل عليها تونس من المصرفين سيتم توجيهها لتنفيذ إصلاحات في مجال «الحكم الرشيد والشفافية». لم يبق لزوليك «الحريص جداً» على مستقبل تونس، غير المطالبة بالانضمام لمجلس تحقيق أهداف الثورة!
يا سادة هذه القروض هي عنوان خطف الثورة وحرفها عن المسار المراد، وإفراغها من مضامينها الأخلاقية، وأهدافها وتطلّعات صانعيها. لقد علّمتنا التجارب المرّة مع مؤسسات كهذه أن المقايضة البخسة كثيراً ما كانت على حساب السيادة والثقافة والهوية والخيارات الاقتصادية التي نخرت القطاع العام وعبّدت الطريق لطهاة الحساء الإمبريالي المرّ، شركات النهب عابرة القارات. كما سرّعت في عمليات التفريط بالمؤسسات والشركات الوطنية، وحالت دون رغبة الحكومات تنفيذ برامج إصلاح جادة ووطنية. نائب محافظ البنك المركزي المصري، السيد هشام رامز يغالط نفسه والجمهور حين يصرّح: «لن نتلقّى بالقطع تعليمات من أي جهة، سنضع البرنامج الذي نراه في صالح مصر، لن نتلقى أي تعليمات... . إنهم يحاولون فقط مساعدتنا متوقّعين ما نحتاج إليه، لكن القول قولنا وليس قولهم، وهذا واضح جداً». لا هشام رامز ولا محافظ تونس سمعا توني بلير وهو يفضح ما يخفيه دافيد كاميرون وبقية أعضاء «دوائر النّهب المُعولم»، حين أوصى بضرورة أن يكون «التحوّل الديموقراطي مُسيطراً عليه وخادماً للمصالح الغربية لا متصادماً معها». فهل نعقل؟
هل قدرنا أن يكون «سقف حراكنا الثوري محكوماً بتغيير رأس النظام فقط لا التبعية للأجنبي الذي حمى النظام ذاته ودعمه حتى استنفد صلاحياته؟ الحكومات «الانتقالية» التي سلّم لها الثوار أعناقهم والبلاد تسير على نهج الحكّام المخلوعين في علاقتهم مع الأجنبي ومع رموز التغوّل الرأسمالي، فكان المخاض مجرّد تغيير باهت في الوجوه لا في جوهر الحكم وشروطه؟ هل كانت أحلام ميادين التحرير وما ضحى الثوار والشهداء من أجله تغييراً شاملاً أم مجرّد «تحسين لشروط التبعية»، بالإذن من الكاتب والمحلل السياسي فيصل جلول؟ ألا يوضّح لنا السيد الجويني مغزى قوله: «على تونس تقديم مخطط عمل مُقنع» كفيل بتحفيز بلدان مجموعة الثماني على التحرّك لفائدتها وإطلاق إشارة واضحة لمختلف الهيئات الدولية (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي...)، لتعبئة رؤوس أموال والمضي لمساعدة البلاد على إنجاح مسارها الانتقالي»؟ بالهيئات الدولية يقصد جنابه، تلك التي كانت حتى عهد قريب تطلق على تونس صفة «المعجزة الاقتصادية» و«النموذج» الذي وجب الاحتذاء به، ألم تكن هذه المؤسسات على علم بالوضع الاقتصادي في تونس، يا سعادة الخبير الاقتصادي؟
هل من ردة فعل واعية ومسؤولة على هذا السخاء وهذه المساعدات والقروض والمشاريع التي يعدون بها حكومات انتقالية توقّع باسمنا جميعاً صكوك الارتهان والاستدانة من دون أن يرفّ للثوار جفن؟؟ أليست هذه الدول وهذه البنوك من أملت اقتصاد «الحساء الامبريالي» ومددت في عمر الأنظمة التي خدمتها حتى انتهت مدة صلاحياتها؟ هؤلاء المنشغلون بالتأخير أو التقديم، الجمهورية أم الخلافة، السافرة أم المنقّبة، أما آن لهم أن ينتبهوا لمن يقرّر لهم مصير توجهاتهم الاقتصادية ويورّثهم التزامات وتعهدات هي المقابل الذي أملته هذه المؤسسات... متى كان لمصاصي الدماء مروءة وضمير؟ سلوا أبناء تونس، أيتام الثورة المغدورة، ممّن لفظتهم قوارب الموت ليجدوا أنفسهم، حفاة عراة، يهيمون على وجوههم في شوارع باريس التي لا تبعد كثيراً عن دوفيل، عن الجود والسخاء الأوروبي!!!
ما ترسمه هذه الدوائر بمساعدة حكومات كهذه، هو بعض ما يتهدّد «الرّبيع» العربي، كما حذّر مطاع صفدي، «لاسترداده نحو أظلم شتاء دامٍ أسود سَبَقَه وعطّل مسيرتَه بين كل موسمٍ ثوري مُجهض، وآخر حاصدٍ للشوك والعوسج. كأنمّا لا زهرة واحدة واعدة بربيع آخر، قد لا يأتي أبداً». ما دام ثمة «هناك كثير من الصباحات قد لا يكون بينها صباح حقيقي»، على حد قول فلسفة شرقية قديمة.
شهداء ثورتي مصر وتونس ينتفضون في ثراهم، متى ينتفض «الأحياء»؟
 


([)
باحث في الفكر الاستراتيجي، جامعة باريس

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا