<%@ Language=JavaScript %> داود تلحمي عولمة- كارل ماركس... وعولمة رونالد ريغن

 |  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

 

عولمة- كارل ماركس... وعولمة رونالد ريغن

 

 داود تلحمي

عضو قيادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

عضو المجلس الوطني الفلسطيني

رام الله – فلسطين المحتلة

 

"إن الصناعة الكبيرة أوجدت السوق العالمية، التي مهّد لها اكتشاف القارة الأميركية. وقد سرّعت السوق العالمية على نطاق هائل تطور التجارة، والنقل البحري، وطرق المواصلات"... "وتقوم البورجوازية، مدفوعة بالحاجة الى منافذ لتصريف منتوجاتها، باجتياح العالم كله. عليها أن تتمركز في كل مكان، أن تستثمر كل شيء، وأن تمد علاقاتها الى كل مكان... من خلال استثمار السوق العالمية، تعطي البورجوازية طابعاً كونياً لإنتاج واستهلاك كل البلدان. ولأسف الرجعيين الكبير، نُزَعت عن الصناعة قاعدتها القومية"، والمقصود طبعاً أنها لم تعد محصورة في حدود البلد الواحد (التعبير المستخدم في النص الأصلي للكلمة التي ترجمناها بـ"كوني" هو "كوسموبوليتي"، من كلمة "كوسموس" التي تُستخدم بمعنى "الكون"، وصفة "كوسموبوليتي" المستخدمة في "البيان الشيوعي" تحمل معنى آخر غير ذلك الذي استخدم لاحقاً في الإتحاد السوفييتي كتوصيف سلبي - الكاتب).

هذه العبارات قد تبدو وكأنها تتناول ما بات يُسمّى في العقود الأخيرة بظاهرة "العولمة". ولكنها كُتبت قبل أكثر من قرن ونصف القرن من قبل كارل ماركس وفريدريش إنغلز في كراسهما الشهير "بيان الحزب الشيوعي"، الذي يسمّى أحياناً للتبسيط "البيان الشيوعي"، الصادر في العام 1848. فهل كان ما يصفه "البيان" هو، بشكل ما، عملية "عولمة" في مرحلة معينة من تطور الرأسمالية، في عصر الثورة الصناعية الأولى؟ بالتأكيد، من الممكن إطلاق هذه التسمية. علماً بأن تعبير "العولمة" لم يظهر في التداول إلا في العقود الأخيرة.

وفي الواقع، فإن تعبير "العولمة" المستخدم حديثاً هو، بالأساس، الرديف العربي لتعبير globalization باللغة الإنكليزية، وهو التعبير الذي ظهر في مراحل مبكرة في تلك اللغة، وأُعطي مضامين متعددة. علماً بأن الترجمة العربية التي راجت، أي كلمة "العولمة"، اشتُقت في واقع الأمر من الرديف الفرنسي للتعبير الإنكليزي. وهو ما سنوضحه أدناه.

أما ما سنتناوله باختصار في هذه المقالة فهو وظيفة إستخدام تعبير "العولمة" بأصله الإنكليزي، أولاً، منذ أواخر السبعينيات وخلال الثمانينيات الماضية، وخاصة في عهد الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغن (1981-1989). ومن المعروف أن هذا الرئيس، مثله مثل وريثه الروحي اللاحق، الأقل نجاحاً، جورج بوش الإبن، لم يكن مشهوراً بسعة ثقافته وباهتمامه بمجالات المعرفة وبالقراءة والتمحيص، الى حد أنه كثيراً ما كان يخلط في بعض أحاديثه بين وقائع سياسية وتاريخية حقيقية وبين مشاهد في أفلام سينمائية رآها في الماضي، باعتباره كان خلال حوالي ثلاثة عقود ممثلاً سينمائياً (من الدرجة الثانية). وهو، مثلاً، نقل على لسان مؤسس الدولة السوفييتية لينين كلاماً، لم يجده أحد من الخبراء والمتابعين في أي من المصادر المنشورة للينين، الى أن انتبه أحد المهتمين الى ورود هذه الكلمات في أحد الأفلام الأميركية المعادية للشيوعية. ومعروف أن ريغن، الى جانب جهله الواسع، كان شديد العداء للشيوعية منذ وقت مبكر، حيث ساعد في مرحلة المكارثية على ملاحقة العاملين في مجال السينما من ذوي الميول اليسارية، أو المستنيرة. وعندما أصبح رئيساً في مطلع الثمانينيات، كان يُعطى من قبل مستشاريه ومساعديه معلومات مقتضبة جداً (حيث لم يكن يحب القراءة كثيراً) حول القضايا الرئيسية التي كان ينبغي أن يتحدث فيها، سواء في مداخلاته العلنية أو في اللقاءات السياسية التي يشارك فيها، تاركاً المجال، في العديد من الأحيان، للمحيطين به للدخول في التفاصيل في قضايا لم يكن لديه جَلَد للإطلاع عليها.

وربما كان من الظلم أن نضع اسم هذا الرئيس الأميركي في عنوان هذه المقالة مقابل اسم واحد من أكبر مفكري ومثقفي التاريخ البشري. ولكننا اخترنا ذلك لتوضيح فكرة معينة، ولأن اسم ريغن معروف أكثر من أسماء أولئك الذين كانوا وراء تبلور مفهوم "العولمة" الإقتصادية المعاصر، وساهموا في الترويج لهذه المدرسة الجديدة - القديمة من الإقتصاد الرأسمالي في النصف الثاني من القرن العشرين. وبدون أن نخوض في التفاصيل، فإن جوهر المشروع الذي أُريد لهذا التعبير أن يعكسه في التطبيقات العملية، التي مورست في الربع الأخير من القرن العشرين، هو من نتاج مدرسة إقتصادية رأسمالية يمينية كان أحد أبرز مفكريها الإقتصادي والأستاذ الجامعي النمساوي المنشأ فريدريش هاييك (1899-1992) والإقتصادي الأميركي ميلتون فريدمان (1912-2006)، الذي كان أيضاً من المستشارين المقربين للرئيس رونالد ريغن ولإدارته في الثمانينيات الماضية.

وما يهمنا هنا ليس الدخول في تفاصيل المفاهيم الإقتصادية لهذين المفكرين الإقتصاديين اللذين لعبا دوراً أساسياً، كما ذكرنا، في بلورة مدرسة "الليبرالية الجديدة"، وهي الجوهر الإقتصادي لعملية "العولمة"، كما مارستها الإدارة الأميركية في عهد ريغن وبعده، وكما مارستها، في الفترة ذاتها تقريباً، رئيسة الحكومة البريطانية مارغريت ثاتشر، الشقيقة الروحية لرونالد ريغن، التي وصلت الى سدة الحكم في العام 1979. ما يهمنا هو أن نؤكد أن استعمال تعبير "العولمة" هذا، وهو تعبير غير جديد بصيغته الإنكليزية، وله بالتالي تفسيرات متعددة، كما ذكرنا، كان له على لسان ريغن وثاتشر وظيفة "أيديولوجية"، تتمثل في التغطية على مضمونه الفعلي والمساهمة في عملية التضليل التي رافقت إطلاقه. وهذا ما سنسعى لتوضيحه.


التوسع على صعيد العالم نزعة متأصلة في النظام الرأسمالي

فعملية التطور الهائل في المجالات العلمية والتكنولوجية وفي المواصلات ووسائل الإتصال منذ أواخر القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين استمرت بشكل متسارع، إنطلاقاً من حاجة النظام الرأسمالي الدائمة "لتثوير أدوات الإنتاج"، كما ذكر ماركس وإنغلز في "البيان". فقد شهدت هذه الفترة التي أعقبت تاريخ صدور "البيان" اكتشافات واختراعات هامة متعددة متلاحقة في شتى المجالات، يُمكن رصد بعض أبرزها: الكهرباء، الهاتف، السيارة، الطائرة، الراديو (البث الإذاعي)، السينما، التلفزيون، غزو الفضاء واستخدام الأقمار الصناعية للإتصالات ولنقل المعلومات ولاحقاً نقل البرامج التلفزيونية (الفضائيات)، الحاسوب (الكومبيوتر) الذي تحول منذ أواخر السبعينيات الماضية الى أداة سهلة الإستعمال للفرد العادي والى سلعة أساسية ومتزايدة الإنتشار مع مشتقاتها وتطويراتها المتلاحقة، ومن بين أهمها شبكة الإتصالات المفتوحة الإنترنت، التي فتحت آفاقاً جديدة واسعة في مجالات الإعلام والبحث والمعرفة والتواصل على الصعيد الكوني... كل هذا الى جانب العديد من الإكتشافات والتطويرات الأخرى في مجالات السلاح والتجهيزات الحربية المتنوعة، واستخدام مصادر الطاقة الجديدة، مثل النفط ومشتقاته منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم الطاقة النووية في القرن العشرين، والإكتشافات العلمية والتكنولوجية المتعددة الأخرى.

ولأن عملية التطوير العلمي والتكنولوجي للصناعة المعاصرة مستمرة عملياً منذ أواسط القرن الثامن عشر، وبتسارع متزايد منذ أواخر القرن التاسع عشر في المرحلة التي تسمى أحياناً بـ"الثورة الصناعية الثانية"، فمن غير المنطقي اعتبار الإكتشافات أو التطويرات المتسارعة في الربع الأخير من القرن العشرين، من نمط الإنترنت وانتشار الفضائيات التلفزيونية، ووسائل الإتصالات السريعة عامة، بأنها التبرير لاستخدام تعبير "العولمة" كمرحلة جديدة نوعية في مسار التاريخ البشري وفي مضمون النظام الرأسمالي. فهي، في الواقع، جزءٌ من عملية متواصلة من التطوير التكنولوجي والعلمي التي تكثفت منذ أواسط القرن التاسع عشر وتسارعت خلال القرن العشرين، كما ذكرنا، وستبقى تتسارع في سياق التطوير المستمر لأدوات الإنتاج وابتكار السلع الإستهلاكية الجديدة، الضروري لتحقيق استمرار تنامي حركة السوق وتحقيق المزيد من الأرباح، الهدف الأول والحيوي لأرباب العملية الرأسمالية.

***
ومن الجدير ذكره أن الترجمات العربية الأولى للتعبير الإنكليزي الذي أوردناه أعلاه استخدمت كلمات أخرى، من نمط "الكوكبة" أو "الكوننة" أو "الشوملة"، استناداً الى أصل الكلمة الإنكليزية المشتقة من كلمة "غلوب" أي الكرة أو الكوكب الأرضي، أو صفة "غلوبال" أي شامل. أما كلمة "العولمة" باللغة العربية، فهي مترجمة عن الكلمة الفرنسية التي استخدمت كرديف للأصل الإنكليزي، وهي كلمة
mondialisation ، المشتقة من كلمة monde ، التي تعني "العالم". ومن الواضح أن هناك فرقاً في المعنى الحرفي بين الكلمتين الإنكليزية والفرنسية. حيث ليس هناك في اللغة الإنكليزية رديف حرفي للتعبير الفرنسي مشتق من كلمة "العالم" بالإنكليزية، وورلد. ولذلك، هناك اجتهادات وتفسيرات كثيرة حول تطور الظاهرة والمراحل التاريخية السابقة التي شهدت مثل هذه الظاهرة، أي توسع الحضارات والفتوحات والإكتشافات عبر التاريخ. ولن نخوض في هذه التفسيرات المختلفة، وسنكتفي بالعودة الى التوظيف "الأيديولوجي" للتعبير، تحديداً في تطبيقه الإقتصادي - الإجتماعي، وهو الأهم، لنكشف أحد الأهداف الأبرز للخروج بهذا المصطلح في مرحلة تاريخية معينة.

فإذا كانت التطورات العلمية - التكنولوجية المطبقة في مختلف مجالات الصناعة ومختلف مجالات الإنتاج، وفي المواصلات والإتصالات، هي تطورات طبيعية في ظل التنامي المتواصل لتطور المعرفة البشرية والجهود البحثية وتطوير استخداماتها العملية، وإن كانت بعض هذه التطويرات والإستخدامات ذات طابع تدميري مثل التطويرات في مجال السلاح، التي وصلت ذروة غير مسبوقة في تطوير واستخدام السلاح النووي منذ أربعينيات القرن العشرين، فإن مجمل هذه التطويرات في العالم الرأسمالي كانت محكومة، بالأساس، بهاجس السعي الدائم لتحقيق أرباح متزايدة والحؤول دون تضاؤل معدلات الربح. وعندما تظهر هناك بوادر لتراجع متواصل في معدلات الربح، وهي بالأساس ظاهرة متأصلة في آلية عمل النظام الرأسمالي، كما أوضح كارل ماركس في كتاباته اللاحقة، فإن ذلك يتطلب من قبل أرباب رأس المال، والشركات العملاقة والعابرة للحدود التي تكاثرت في النصف الثاني من القرن العشرين، والأنظمة السياسية التي تخدم مصالح كل هؤلاء، أن تبحث عن مخارج جديدة. وهذا ما حصل في السبعينيات الماضية، حين بدأت تظهر بوادر تباطؤ في اقتصاديات العالم الرأسمالي المتطور، وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، في وقت كانت فيه الحرب الأميركية على فييتنام مستعرة. وفي هذا السياق، أتت إجراءات "الليبرالية الجديدة"، وتم استخدام تعبير "العولمة" للتغطية على جوهر العملية، التي هي، في الواقع، عملية نهب واسعة ونقل كثيف للثروة من داخل البلدان الرأسمالية الغنية وخارجها لصالح أصحاب رأس المال وأرباب شركاتهم الكبرى.

وهذه العملية تجسدت، في البلدان الرأسمالية المتطورة، بهجمة واسعة على القوى اليسارية وعلى النقابات العمالية وعلى القطاع العام للدولة، وعلى المكتسبات التي حققتها قطاعات الشغيلة والقطاعات الشعبية الأخرى في مجالات الضمانات الإجتماعية، وحتى على الحقوق والمكتسبات في مجال الحريات الديمقراطية، التي جرى ويجري الإلتفاف عليها وتفريغها عملياً من مضمونها بأساليب شتى، سبق وتحدثنا عنها في كتابات سابقة. كما تجسدت، في بلدان العالم الأقل تطوراً إقتصادياً، بفرض تطبيقات "الليبرالية الجديدة" بأشكال أقسى، عبر دفعها الى ما أُسمي بعمليات الإصلاح الهيكلي للإقتصاد، بدءً بخصخصة مؤسسات القطاع العام، أحياناً لصالح رأس المال الأجنبي، الى جانب رفع الدعم الحكومي عن السلع الأساسية المستهلكة شعبياً، وإطلاق العنان لحرية تصرف رأس المال الخارجي، والمحلي التابع له في الغالب، وفتح حدود الدول المعنية أمام تدفق السلع والرساميل وصفقات الشراء الآتية خاصةً من البلدان الغنية، بما يقود الى مزيد من استغلال البلدان الأفقر ونقل مزيد من الثروة من بلدان "الجنوب" ضعيفة أو محدودة التطور الإقتصادي الى "الشمال" المتطور.

وعملية النهب المزدوجة هذه، في البلدان الغنية والفقيرة في آنٍ واحد، تمثلت أيضاً في نقل المزيد من الصناعات التي تحتاج للأيدي العاملة الكثيفة من البلدان المتطورة إقتصادياً الى البلدان الأفقر التي تتوفر فيها الأيدي الأدنى كلفةً، مما زاد، بطبيعة الحال، من البطالة في هذه البلدان المتطورة، والى استغلال مكثف للأيدي العاملة في البلدان الأفقر.

وبعد انهيار الإتحاد السوفييتي وبلدان تجارب التحول الإشتراكي الأوروبية الأخرى منذ أواخر الثمانينيات الماضية، شمل هذا "الإجتياح" الجديد بلدان الشرق الأوروبي وجمهوريات آسيا الوسطى التي كانت جزء من الإتحاد السوفييتي، وبالطبع بقية بلدان العالم. وتمت مأسسة العملية كلها من خلال مؤسسات دولية مثل "منظمة التجارة الدولية"، التي تأسست في العام 1995، وكذلك طبعاً مختلف المؤسسات المالية والإقتصادية الأخرى المعروفة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وتتالت اتفاقات التجارة الحرة بين البلدان المختلفة في هذا السياق، من نمط اتفاقية "نافتا" بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك التي بدأ العمل بها منذ العام 1994، والنظم الداخلية للإتحاد الأوروبي بين أعضائه واتفاقاته مع البلدان الأخرى، الى جانب العشرات من اتفاقات التجارة الحرة الثنائية والجماعية في أنحاء العالم.

وهكذا، فإن ماركس وإنغلز، اللذين تحدثا عن اتساع نطاق نشاط وعمل رأس المال في كل زاوية من زوايا العالم، مع التركيز على نزعة رأس المال لتسويق سلعه، بشكل أساسي، في زمنهما، سجّلا إحدى ظواهر نزعة "العولمة" المستمرة والمتأصلة في النظام الرأسمالي، دون أن يستخدما الكلمة ذاتها تحديداً (جرى استخدام تعبير "كوسموبوليتي" في "البيان الشيوعي"، كما أوردنا أعلاه). وهذه العولمة اتخذت نطاقاً أوسع في أواخر القرن العشرين وعبر مجالات أكبر، وذلك من خلال اجتياح واسع للرساميل والإستثمارات وعمليات الشراء الواسعة، ونقل واسع لصناعات كاملة الى بلدان "الأطراف" الأقل تطوراً، في عصر غلبة الجانب المالي في العملية الرأسمالية المعاصرة على جانب الإنتاج المادي الفعلي. وهي العملية التي انتهت الى ما انتهت اليه مؤخراً مع انفجار الأزمة الإقتصادية الكبرى منذ العام 2007.

وهكذا، وبعد أن كان العالم يشهد منذ التسعينيات الماضية حركات مناهضة للعولمة، أصبحت لاحقاً تحمل أسماء أوضح مثل مناهضة العولمة الرأسمالية، أو مناصرة "العولمة البديلة" لصالح الشعوب، في مرحلة كانت فيها الرأسمالية المالية في ذروة مجدها بعد أن تمت الإطاحة بتجربة التحول الإشتراكي في الإتحاد السوفييتي وبلدان أوروبا الشرقية، أظهرت الأزمة الإقتصادية الكبرى الحالية، وهي الأكبر والأعمق منذ أزمة الثلاثينيات الماضية، أن العلة ليست محصورة في مظاهر هذه المرحلة الأخيرة التي سُميت بمرحلة العولمة، ولا في صيغتها الإقتصادية، "الليبرالية الجديدة"، وحدها. ولذلك باتت تنشأ وتتحرك من جديد حركات تدعو لمناهضة الرأسمالية كنظام، وليس فقط مظاهرها الحديثة.

وكان دعاة "العولمة" الرأسمالية يستهدفون، في ما استهدفوه، الإطاحة ببقايا تطبيقات "المدرسة الكينزية"، نسبة الى الإقتصادي البريطاني جون مينارد كينز، الذي كان يدعو الى تشجيع إستهلاك المواطنين من خلال دعم دخل الفئات الشعبية وإيجاد مجالات عمل جديدة وتوفير شبكات الحماية الإجتماعية التي تحول دون الإنهيارات الإقتصادية وما يمكن أن تجرها من "قلاقل"، وهي الإصلاحات التي طُبقت في الولايات المتحدة في عهد فرانكلين روزفيلت، ثم على نطاق واسع في أوروبا الغربية وفي مناطق أخرى بعد الحرب العالمية الثانية. هذه الإصلاحات "الكينزية" فتحت المجال أمام مرحلة ازدهار إقتصادي واسع في البلدان الرأسمالية المتطورة، أميركا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان، استمرت عملياً زهاء الثلاثة عقود، ويُطلق عليها في بعض الأدبيات الغربية أحياناً تعبير "الثلاثين المجيدة". الى أن قادت إنكماشات السبعينيات الإقتصادية، التي دق ناقوسها الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون بوقف ارتباط الدولار بالذهب في العام 1971 عبر إجراء إحادي الجانب، الى ظهور بواكير هذه التحولات "الليبرالية الجديدة"، التي أُريد لها، كما ذكرنا، أن تعيد إنعاش ثروة أصحاب رأس المال وشركاتهم على حساب إفقار قطاعات واسعة من البشر.

وهو التطور الذي بدأت ردة الفعل الواعية الأهم عليه على النطاق الإقليمي في القارة الأميركية اللاتينية منذ أواخر القرن المنصرم. في وقت نشط فيه عدد كبير من المفكرين والإقتصاديين ومن القوى اليسارية الجذرية في بلدان العالم المختلفة للتحذير من ذيول هذه السياسات الجديدة، الى أن أظهرت الأزمة الإقتصادية التي انفجرت في العامين 2007-2008، وبشكل صارخ، أن المشكلة الفعلية ليست محصورة في تطبيقات "الليبرالية الجديدة"، وإنما هي في النظام الرأسمالي نفسه، الذي ظهر أخيراً، وبشكل ساطع، بأنه ليس حتماً "نهاية التاريخ".

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

 

 صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org 

 
 

 

لا

للأحتلال