<%@ Language=JavaScript %> قيس عبد الله ملامح الانتفاضة العراقية الراهنة والمواقف المعلنة منها
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

ملامح الانتفاضة العراقية الراهنة والمواقف المعلنة منها

 

 

قيس عبد الله

 

لعل أهم ما يواجه المرء في النظر إلى الانتفاضة الحالية في العراق هو قلة وضبابية الإعلام عنها وكأنها محاصرة عن قصد، ومن جهة أخرى عدم وضوح مرجعياتها وخطابها ومطالبها النهائية. غير أن من أهم ما يميزها هو تعرضها إلى نقد وتشويه مقصودين حتى قبل انطلاقها، وهذا ما يهمنا معالجته هنا. فما أن أعلنت مجموعة من الشباب عن دعوتها للتظاهر في ساحة التحرير حتى جاءت الملاحظات التي تنتقدها قبل أن تبدأ، وتشكك في جدواها وتقترح عليها التريث على طريقة كل الحكام العرب الذين ثارت عليهم شعوبهم، وأن الصحيح فعل كذا وكذا والمطالبة بهذا أو ذاك.. وكل ذلك من اقصى أقاصي أوروبا بموجب الحق الإلهي اليساري الذي تضفيه هذه الشخصيات على ذواتها. ولكن ما أن انطلقت المظاهرات وبددت المخاوف حتى صار هؤلاء قادتها الروحيين.

من جانب آخر ظهرت ملاحظات تشكك بفئات داعية للتظاهر وتدعوها بالمشبوهة وتدين رفع بعض المشاركين علم النظام الذي أسقطه الغزو وتدعوه جهاراً نهاراً "علم صدام". ورغم أن الرجل تدخل في غير صلاحياته وخط بيده عبارة "الله أكبر" بين نجوم العلم الثلاث، إلا أن هذا العلم ظل معترفاً به كعلم للدولة الوطنية، وقد ظلت المقاومة المسلحة تقاتل تحت ظله والفعاليات المعادية للغزو ترفعه. أما العلم الذي جاء بديلاً عنه، والذي يدعو إليه هؤلاء المشككون فهو علم الاحتلال، الذي فرضه الزعيمان الكرديان وأصرا عليه. والذي حصل أن علم المحتل حافظ على العبارة التي فرضها صدام حسين فيما ألغى النجوم الثلاث الرامزة للوحدة العربية. تنطلق هذه الدعوة الصريحة للتطبيع مع العدو وعمليته السياسية من موقع الانتماء لليسار وحجتها أن هذا العلم وضع على قبر صدام. هذه الدعوة تتجاهل كل الشهداء الذين لفهم هذا العلم بعد أن سقطوا ضحية العلم الجديد ومن يمثلهم. وفي كل الحوال ومن التجربة المعاشة لا تتوفر دائماً أحدث الأزياء ولا الترف لدى المتظاهرين، ولا يحتاج المرء لأية مواصفات خاصة ليقر أن هذا أسوأ الأوقات لمناقشة مسألة علم الدولة التي لم تتحرر من الاحتلال بعد. من وجهة نظر شخصية لدينا علم الجمهورية العراقية الذي أقرته ثورة الرابع عشر من تموز بديلاً عن العلم الملكي، غير أن هذا الأمر بيد المتظاهرين المتعرضين لرصاص أصحاب العلم الجديد وليس بيد الأوصياء عليهم من أوروبا. والتجربة الليبية ساطعة لمن يشاء أن يبصر، حيث فرض الثوار علم البلاد الأصلي على العالم أجمع شاء أم أبى.

الأمر الآخر استنكار هتاف "كذاب نوري المالكي" وعزوه إلى بعض المندسين، والواقع يقول أن المشاهد التي عرضت على قنوات إخبارية مختلفة ومن مدن عراقية عديدة كانت متفقة على هذا الشعار، وواقع الأمر أن المالكي كذاب ولسنا هنا ملزمين بتقديم أدلة، فالملزم هو من يبرئه من هذه التهمة، فلماذا الحرص عليه وهو العميل الرخيص والخائن المنفذ لإرادة العدو وهو الإرهابي الذي أغرق مدن الجنوب بالدماء وهو صاحب السجون السرية وهو وهو... فما هو وجه مجاملته في هذا المقام؟ من نسي منا الشعار الواصف لنوري السعيد وصالح جبر بالحذاء ورباطه، والذي صار جزء من التراث السياسي الشعبي في العراق؟

أما الأصوات التي اتهمت الداعين إلى التظاهر بتقليد واقع غير واقعهم فتتجاهل ايضاً الحصار المعرفي الشديد المحيط بالعراقيين منذ  عقود الإعلام الموجه لنظام البعث إلى عقد الإعلام الموجه للاحتلال، وقطاعات كبيرة من الشباب العربي عامة تظن فعلاً أن هناك أهمية لعيد فالنتين في أوروبا أو أن له اي معنى اجتماعي، وتحمل الدعايات الغربية التبسيطية محمل الجد وتتخذها مثلاً، لذا جاءت بعض الدعوات تحت هذا المسمى. وإذا كانت التسمية غير موفقة وفيها تبسيط مقلق، فقد اختفت الزهور والعيد منذ مواجهة النظام للمتظاهرين بالعنف كما حدث قبلها في مصر.. ودعم التظاهرات وتشجيعها باتجاه وقوفها على واقع أشد صلابة كفيل بإنجاحها وإغنائها وتعميق مطالبها وتأكيد صوابها، على عكس التشكيك بها وبجدواها.

ثم هناك النقد الموجه لشعارات الندم على الانتخابات وربما كان هذا أغرب الدعوات، والتي تقول بتشفٍ خليق بالأعداء: من الذي أجبرهم على هذا الخطأ؟ هذا المنطق يقطع الطريق على من أخطأ ويحرم عليه العودة إلى جادة الصواب، ثم يحرم عليه الانتفاض على النظام كبديل للانتخاب، ولا يقول  من ثم ما الذي "يأمر" به المتظاهرين. نحن نعرف في أية ظروف جرت الانتخابات وما رافقها من اغتيالات وتفجيرات ورشاوى وتهديد، ومن خارج جحيم الاحتلال ليس من حق كائن من كان التدخل في حق المواطن في انتخاب أهون الشرين لعزل الشر المطلق، وهذا  ما نفعله تماماً في أوروبا في انتخاب الوسط لعزل اليمين عند الأزمات.

وهناك أيضاً من يحكم بفشل هذه التظاهرات لعدم مشاركة التيار الصدري بها!! هذا المنطق مقلوب تماماً، فمن قال إن التيار الصدري لم يشارك بها؟ هل يعني هذا أن المتظاهرين آلاف من الاوراق البيض غير ذات التوجهات القومية أو الدينية أو الطبقية؟ ثم من قال إن التيار الصدري هو شخص مقتدى الصدر؟ وهل هذه الاختزالية أي شيء غير تضليل متعمد؟ والأمر في جوهره –وإولى علامات ظفره – تجاوز المرجعيات المذهبية (والطائفية التكفيرية كما في عبارة "البعث الكافر" في حالة مقتدى الصدر). والحديث عن هذا التيار أو ذاك في هذا الصدد حديث خارج السياق.

****

إن من حق الانتفاضة العراقية الحالية التمعن في ملامحها ونتائجها الأولى؛ وينبغي النظر إليها باعتبارها آلية مطلبية في ظل احتلال عسكري مباشر يتخذ القوة المسلحة المباشرة في التعامل مع مقاوميه، وهي ليست الآلية الموكلة بإنهائه بقدر ما هي جهد مدني مهم موازٍ لمقاومته عسكرياً، أولى علامات صوابه كان إعلان المنظمات المقاتلة تعليق عملياتها لمنع النظام من اتخاذها ذريعة لتجريم المتظاهرين وضربهم، ثم في معاودتها لها وقد تنكر النظام لدعواته وسفك دم المتظاهرين وجرحهم واعتقلهم.

غير أن الأهمية القصوى لهذه الانتفاضة تتجلى في دعوتها المتخطية للخطاب الديني واتخاذ الوطنية العراقية مرجعية وحيدة مما جعل من شعارات إسقاط المحاصصة والتقسيم والطائفية تحصيل حاصل. والأمر الفائق في أهميته هو إرغامها المرجعية الدينية المتخاذلة على كشف وجهها الحقيقي في الاصطفاف ضدها والدعوة لمقاطعتها، ولعل أهم نصر حققه المنتفضون هو تجاهل دعوة مقتدى الصدر لمنح حكومة الاحتلال فرصة ستة أشهر والمشاركة في استفتاء أثبت بؤسه، ثم في إنهاء أسطورة التيار الصدري المشارك في العملية السياسية ومنقذها في كل أزماتها منذ معارك الفلوجة والنجف، ومغذي آلة الذبح الطائفي بمادتها البشرية. لقد أسقط المتظاهرون منذ يومهم الأول الدعامة الرئيسية للعملية السياسية، وكان منظر أسقاط الكتل الكونكريتية الحاجزة بين الأحياء وما رافقه من هزج شعبي تجلياً لرفض هذا الشعب لتقطيعه على أسس طائفية، ويذكر في رمزيته بإسقاط تمثالي الجنرال مود والملك فيصل الأول في بغداد صبيحة الرابع عشر من تموز عام ثمانية وخمسين.

ثم أن الهازئين بشعار الندم على الانتخابات، ذلك الذي يبشر بمقاطعتها أو تخريبها أو تقديم مرشحين من صفوف الشعب بما يعرفه الضحايا المعذبون في الداخل المحتل في الجولات المقبلة، هؤلاء الهازئون يتجاهلون قيام ثقافة تاريخية كاملة على أساس الندم على خذلان الإمام الحسين بن علي مما ظل دافعاً للتمرد على الظلم ودعوة لنصرة المظلوم عبر القرون. إن كل ما يقوله المنتفضون في شعار قطع الإصبع البنفسجي هو أنهم تعلموا الدرس المر وأنهم جزء من التاريخ الحي وليسوا أطفالاً ينتظرون الأوامر النازلة من علٍ.

ثم أن الانتفاضة العراقية جاءت استجابة لانتفاضات عربية ممتدة من المحيط إلى الخليج ومن شمال العراق إلى جنوب اليمن، وهي استمرار لانتفاضة الجنوب العراقي في الصيف الماضي فيما عرف بانتفاضة الكهرباء، وليست استجابتها للنهضة العربية الراهنة سوى إعلان عن وفائها لانتمائها للأمة الواحدة في التمرد على الواقع المحلي وليست تقليداً لأحد أو اندفاعاً طائشاً من حيث المبدأ، وهذا بحد ذاته مسمار في نعش العملية السياسية ومشروعها الشرق أوسطي السيء الصيت. إن تزامن تظاهرات الشمال الكردي مع نظائرها لدى الشركاء العرب في وطنهم الكبير وتماهي مطالب الطرفين، وحتى استخدام مفردات عربية في الهتاف يحمل في طياته بشائر حل المشكلة القومية على أساس التشارك في الهموم التاريخية ويعطي لحق تقرير المصير معنى إيجابياً ويعيق الكيان الفدرالي الحالي من التحول إلى قاعدة معادية للعرب شمالي بلادهم على شاكلة الكيان الصهيوني في فلسطين. وليس على المرء سوى متابعة الرسائل القصيرة (أس. إم. إس.) الواردة من كردستان إلى القنوات الإخبارية والتي تشد أزر شعب عمر المختار كما فعلت مع شعبي مصر وتونس ليقع على طبيعة ضمائر شعوب المنطقة، والإرهاص بإمكانية تعاون واقعي في التحرر على أسس مشاركة حقيقية. لقد خرجت كذلك تظاهرات في شوارع جارتنا إيران تؤيد ثورة أمتنا على أعدائها، في وجه من يدعو هذا البلد العريق الشريك في صنع التاريخ "جارة السوء".

ويمكن تسجيل الظاهرة فائقة الأهمية في مشاركة النساء العراقيات المركزية في الانتفاضة، إنْ من حيث العدد أم من حيث الدور، فقد اضطلعن بدور قيادي وإعلامي مشرف، من مختلف الفئات العمرية، ومن الشرائح المتضررة بالذات؛ العمال والكسبة وأدنى الطبقة الوسطى من موظفين وطلبة، ومن الأرامل وزوجات المعتقلين وبالأزياء المألوفة. أما الطبقات المستفيدة من النظام، بنسائها من مومياوات البرلمان بزيهن الغرائبي المدعي للحشمة في قلب وسخ العملية السياسية، فقد استجابت لنداء التعقل وتعاونت مع دعوة الصدر، وزار ممثلوها المتظاهرين لاستلام عرائض "ترحمهم"، ليعاملوا معاملة الكلب في المسجد.

لكن للاحتلال آلياته التي أثرت على حجم التظاهر إضافة إلى التردد المتوقع في جو اليأس والإرهاب والتفجيرات المرافق للغزو، فقد قلص من حجم التظاهر منع التجول وقطع الطرق وليس الجميع قادراً على السير لأميال عديدة للالتحاق بتظاهرة. ولئن كان ذلك فعالاً في العاصمة فإن مدن الجنوب والوسط قد نجحت في أطلاق مظاهراتها المتناسبة مع تعداد سكانها، وقد بدأت آليات البدائل تتجلى في تظاهر الأنباريين خارج الرمادي بعد منعها في المدينة. وفي الأسبوع الثالث لانطلاق الانتفاضة يبدو مجرد إصرارها على الاستمرار نجاحاً في حد ذاته سيزيد من قسوة النظام في قمعها والكشف أكثر وأكثر عن زيف دعواته الديموقراطية. إن اللافتات القائلة بلا ديموقراطية دون عدالة اجتماعية إعلان عميق عن وعي العراقيين بواقعهم وسبل معالجته، وعن إمساكهم بالخيوط الأولية لتحررهم الناجز.

بقي أن نقول إن هذه المظاهرات لم تطالب –عدا استثناء جانبي لوحظ مبكراً وجرى التحذير منه- بإسقاط نظام لا رجاء فيه إضافة إلى كونه قائماً على معاداة الشعب، واستمراره موت بطيء، فهذا من شأن المقاومة المسلحة... وهذه أن أرادت النجاح في مشروعها فإن عليها أن تستند إلى مرجعية من أرض الواقع تتخطى الحاجز المذهبي أو الجغرافي... والمرجعية الوطنية تكشف عبر المتظاهرين عن وجهها وترغم عدوها على الامتثال، وبرلمانييه على التبرير.. وموظفيه ومحافظيه على الاستقالة.    

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا