<%@ Language=JavaScript %> جهاد بزي بعض من حكاية «جمول» يرويها أحد مجهوليها (1) عدنا إلى عشيرتنا الحمراء.. نحن الذين هُزمنا في أول السطر
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

بعض من حكاية «جمول» يرويها أحد مجهوليها (1)

 

عدنا إلى عشيرتنا الحمراء.. نحن الذين هُزمنا في أول السطر

 

جهاد بزي

معسكر تعبئة للحزب الشيوعي عشية الاجتياح (من أرشيف «الشيوعي»)

 

وجه رضا منحوتٌ نحتاً. أسمر بأنف حاد وشفتين رقيقتين وذقن عريضة مرسومة وخدين غائرين يشيان بنحول صاحبهما وسنوات عمره التي قفزت لتوها عن الخمسين. عينان صغيرتان تائهتان دوماً بين العبوس والابتسام. وكما العينان، فالوجه الوسيم تائه بين ثقل قسوة ضابط الجيش وخفة سخرية المقاتل..
ورضا أمضى حياته كذلك، تائهاً بين المقاتل والمدني، مغلباً واحدا على الآخر حيناً ولابساً كلاهما حيناً آخر. والابـن الســابق للحـزب الشـــيوعي اللــبناني، ســيظل على هذا التيــه الرقيق بين «الشيوعي» المؤدلج اسـتاذ التاريخ والجغرافيا الذي يترك مهنته ليتلقى دورات عسـكرية ويصير كادراً، وبين الجنوبي الذي يفهمه الناس ويفهمهم، بلا ادعاء لغتهم وبلا تصنع اللهجة.
ذو السيرة الطويلة في «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» راوٍ ممتاز، غير أنه يظل على حذر من أن يكون الضوء عليه وحده ظلماً لغيره من جرحى وأسرى ومقاومين قاموا بما عليهم في زمن ثم أكملوا حيواتهم مجهولين بلا إحساس بغبن، اضافة إلى من استشهد بالطبع. المسؤول في المقاومة، في الثمانينيات، سيشترط قبل أن يحكي أن يكون الهدف أولا وأخيراً إعطاء «جمول» وناسها بعضاً من حقهم. وحين سيحكي لساعات كثيرة، سيظل أميناً لهذا الشرط.
في ما يلي الحلقة الأولى من بعض من سيرة «جمول»، كما رواها رضا.

خفّ القصف عن النبطية. هذا القصف المتصل المجنون المستمر منذ أيام هدأ، فخرجت ورفيقي من بيته. مشينا نتفقد الشوارع، ونتنفس. من بعيد، رأينا دباباتين وحولهما عناصر، وقدرنا أنهم فلسطينيون. تحركت الآليتان قبل أن نصل إليهما. تابعنا إلى الحي حيث بيتي وبيوت رفاق عدة. دوى صوت رصاص هناك قبل ان تمر سيارة يقول من فيها إن إسرائيل صارت في النبطية. الدبابتان كانتا إسرائيليتين إذاً. ونحن الذين تقطعت سبل اتصالنا ببعضنا وبالآخرين من القوى لم نكن نعرف أن الأمر على وشك النهاية، وأن الاسرائيليين يحكمون احتلالهم.
كنا في السادس من حزيران 1982 في واحد من ايام القيامة وقد بُعثر المقاتلون وبُعثرت الأحلام والشعارات ودم الابرياء والجدران والعقائد.
صعدت إلى بيتي وجلبت سلاحي ونزلت. قبل شهرين علّقت، انا الكادر العسكري في الحزب الشيوعي اللبناني، عضويتي في منظمة النبطية، لأسباب عديدة. هذا صباح جديد ولا وقت لدينا. كان على الشيوعيين تنظيم أمورهم. انضوينا في مجموعات ووزعنا المهام على بعضنا. ذهبت وبضعة شبان إلى كفررمان ومن هناك مشينا خارجين من الجنوب، «عشيرة حمراء» لا تدري إلى أين تذهب.
مشينا كيف ما اتفق في سيارات قليلة. أحمد* المقاتل في الحزب ومعه زوجته وأولاده الثلاثة. فاديا الحامل. أمل، وعلى يدها ابن أخيها عمره اسبوعان، حملته ومشت لا أحد يدري إلى أين وآخرون. خليط غريب في ترحال يكاد يشبه ذاك المسير الأربعيني العتيق للفلسطينيين شمالاً. وصلنا إلى جبل لبنان، وبعضنا يحكي، بسوريالية، عن هجوم معاكس. حين وصلنا إلى الجبل، كنا مقاتلين ومدنيين، في ثماني سيارات وشاحنات. كنت أفكر في الاشياء كلها معاً: كيف أؤمن الحليب للرضيع، وكيف أحافظ على حياة الناس تحت سماء بلا أمان.. وكيف وكيف.
نمنا في عمّاطور الشوفية بين بيتين لرفاق لنا هناك. صباح اليوم التالي أكملنا الى بحمدون عبر الباروك. منها قررنا المتابعة إلى المروج. هناك نزلنا في مساحة ترابية، وقسمت المهام على من معي، لكي نتدبر شؤوننا والاهتمام بالأسلحة التي معنا. في تلك الليلة وصل الإسرائيليون إلى ضهر البيدر. أين نذهب الآن؟ بقاعاً، في طرق لا أحد يدري بها إلا أحد الرفاق، حتى نصل إلى جديتا. كانت قيادة الحزب عادت إلى التواصل معنا، والامين العام جورج حاوي حكى معنا لاسلكياً. يومها قيل لنا «إننا لم نعد وحدنا»، وإن الاتحاد السوفياتي «تدخل بثقله لإيقاف الحرب»، وإن المطلوب «هو الصمود والصبر».
وبينما المعنويات ترتفع، حصد الطيران الاسرائيلي كل قواعد الصواريخ السورية في السهل. ومع أن الجيش السوري قاتل براً وجواً، إلا أنه تعرض في البقاع لضربات اسرائيلية قصمت ظهر ألويته هناك. لا شيء بشّر بأي خير.
نحن ظللنا نتنقل شرقاً، لننتقل بعدها شمالاً صوب بعلبك. لم يعد معنا مدنيون وتطور «انسحابنا التكتيكي» ليصير «انسحاباً استراتجياً»، كما اتفقنا في حينها، متهكمين من حالتنا. وصلنا إلى بعلبك، وتابعنا من هناك إلى عرسال حيث انقسم أهلها إلى طرفين واحد مع بقائنا في القرية وآخر ضده، وكادا يتقاتلان إلى أن غادرنا إلى جرد المنطقة. هناك نشرت الآليات والعناصر في رقعة واسعة وتموهنا ما استطعنا، فإذا ما ضُربنا، فلن نقتل كلنا على الاقل. الآليات الأربع التي ركنت بالقرب منا للجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، تلاصقت ونام عناصرها تحتها. احتاج الاسرائيليون إلى غارة واحدة ليقضوا عليها.
لم يعد أمامنا إلا انتظار ما لا ندريه. الجنوب والبقاع الغربي وقسم كبير من الجبل احتلوا، وبيروت الغربية صارت تحت الحصار. قررت أن أعود إلى النبطية. تفككت العشيرة الحمراء، وعدت مع رفاق لي إلى الجنوب في شاحنة محملة بالبيض. أخبرت «أبو جمال» فحسب. هو قاسم بدران، القيادي الشيوعي الجنوبي الذي سيكون من ابرز قادة «جمول» ويستشهد لاحقا في الغارة الإسرائيلية على مركز الحزب الرئيسي في دير الرميلة (1989).
بت ليلتي عند صديقي وقمت صباحاً نازلا الى شوارع النبطية على عادتي. صعدت إلى بيتي الذي كان الجيران رفعوا عليه علماً ابيض، نزعته ما صعدت إلى السطح. بحثت عن السلاح المخبأ في البيت، فوجدته، وهناك ألغام وصواعق ولغم اسرائيلي جاهز. لم يصل أحد إلى هذه الأغراض الثمينة.
رحت استكشف الحياة الجديدة التي يغلف قشرتها أمان وهدوء من المستحيل أن يكونا حقيقيين. ليس عادياً ولا طبيعياً أن تأتي الباصات السياحية الإسرائيلية إلى النبطية، وينزل الإسرائيليون منها مدنيين، يلتقطون الصور ويتبضعون. ليس عادياً أن يأتي هؤلاء ليتفرجوا علينا. لا بد أن هناك خللاً ما.
كان علينا أن نفعل شيئاً، لكن بهدوء وبطء. بدأت من لقمة العيش. انا الذي كنت في سلك التعليم قبل ان اتفرغ في الحزب، اقمت بسطة خضار مع رفيق لي. وفي السوق أبيع البطاطا وأحتك بالناس وأسمعهم، ويسمعونني، انا ورفاقي من الشيوعيين المعروفين أصلاً.
الحذر الذي يلتجئ إليه الناس تحت الاحتلال وعيون عملائه، السريين منهم والعلنيين، راح يكسر بما يشبه الإشارات. بإبداء رئيس مخفر الدرك، الذي لطالما صادرنا دوره كمسلحين، الخوف من أن أعتقل، وعرضه علي المساعدة لكي اغادر المدينة. اللحام الذي لم يعرف عنه حبه للشيوعيين، بادر حين زرته برفع صوته محيياً «الرفيق»، ولما هممت بإعطائه ما على الحزب من دين له، رفض أخذ المال مهدداً. رفض المال بمفهومه، كان فعل تضامن على طريقته.
بائع المشروبات الروحية رمى البضاعة الاسرائيلية التي فرضها عناصر كبير العملاء آنذاك سعد حداد في الشارع. ماجد استعار رشاشاً ودخل الى المقهى في النبطية مطلقا النار إلى سقفه مهدداً: «ليكو يا اخوات الكذا.. يللي بدو يقول انو الشيوعيين خلصوا من النبطية بدي...».
لاحقاً قرّعته. قلت له إن ما فعله كان مطلوباً لكن هذا هو حجمه. هذا أمر لن يتكرر. كنا بدأنا نكسر حاجز الخوف، وهذه المرة لم نعد وحدنا. صحيح، لكن ليس الاتحاد السوفياتي من صار معنا. لا. نحن عدنا إلى أنفسنا. هناك احتلال سنقاومه.
كل واحد فينا عرف أن بإمكانه أن يفعل شيئاً. هذه بداية جيدة بعد نهاية سريعة ساحقة. أنا كنت متفائلاً.
نحن الذين هُزمنا في أول السطر، عرفنا أن السطر امامنا ما زال طويلاً.
 

(1) كل الأسماء في هذا النص مستعارة، بلا أي دلالات تشير إلى أصحابها الأصليين، ما خلا تلك المقرونة بأسماء شهرة. كما انها ليست حركية من التي تطلق على المقاتلين لإخفاء أسمائهم الاصلية.

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا