<%@ Language=JavaScript %> يوسف مكي أوروبا من الانكفاء إلى العودة مجدداً للمسرح
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

 

أوروبا من الانكفاء إلى العودة مجدداً للمسرح

 

 

يوسف مكي

 

نحاول في هذه القراءة تقديم تحليل تاريخي، للعوامل التي دفعت بأوروبا إلى الحضور بقوة، في التحولات التي ارتبطت بما يدعى ربيع الثورات العربية، بعد انكفاء استمر قرابة أربعة عقود . لماذا تراجع الدور الأوروبي في الوطن العربي؟ وما العوامل التي أدت إلى بروزه من جديد؟ وأين يكون موقع ذلك في المشاريع الاستراتيجية الكبرى التي طرحتها الإدارات الأمريكية مؤخراً بشأن المنطقة؟ هذه الأسئلة ستكون محاور لمناقشتنا في هذا الحديث .

 

في هذا السياق، يجدر التذكير بالحربين الكونيتين، فقد عكستا حجم التنافس المحموم بين القوى الكبرى للهيمنة على العالم . ولأن الحروب هي أحد التعابير عن صراع الإرادات، فإن ما ينتج عنها لن يكون سوى اتساق مع المعطيات الجديدة، وأهمها بروز نظام دولي جديد معبر عن عناصر القوة الفاعلة في صناعة وتوجيه القرار السياسي في العالم . إن ذلك يعني انتقال مركز الجاذبية، في صناعة القوة، والتعبير عن ذلك بآليات ومصطلحات ومفاعيل جديدة .

 

في ما يتعلق بمنطقتنا، أفرزت نتائج الحرب الكونية الأولى جملة من الحقائق عبرت عن اتجاهات ما بعد الحرب . فقد وضعت عصبة الأمم المشرق العربي، تحت الانتداب والوصاية والحماية . وهي مسميات بدلالات تاريخية، فما قبلها كان الاستعمار غير المقنع، المتماهي مع حق الفتح . وحق الفتح يعني، أن من يستولي على أراض بقوة السلاح، يملك حق فرض نفوذه عليها، حتى يأتي من ينازعه هذا الحق، بذات منطق القوة . مفردات الحماية والانتداب والوصاية، هي إذاً، متقدمة على قانون الغاب السابق . إنها تعني استمرار الهيمنة، بأغطية أخلاقية، هي النهوض بشعوب المنطقة وجعلها قادرة على الدخول في عصر التنوير الأوروبي، وكان ذلك بمنزلة التعديل الجوهري على اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت المشرق العربي بين البريطانيين والفرنسيين .

 

تزامن ذلك بصدور وعد بلفور، بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود . وقد سارع الكونغرس الأمريكي، إلى الاعتراف بهذا الوعد، ومطالبة الرئيس ويلسون بتبنيه، من منظور يتسق مع حق الأمم في تقرير المصير . وذلك يجرنا إلى ماهية النظام الدولي الذي أسس بعد الحرب الكونية الأولى . فقد أريد له أن يكون محطة انتقال، في عناصر القوة، من القوى التقليدية، إلى القوة الصاعدة، غير المثقلة بتركة الاحتلال للدول الأخرى، والتي ترفع شعار الحرية في وجه الشيوعية . . القوة التي عبر ويدرو ويلسون عن مشروعها الإمبراطوري أفضل تعبير . فالهدف إذاً، ليس الحرية أو حق تقرير المصير، في حد ذاتهما، ولكن كبح جماح القوى التقليدية التي أنهكتها الحرب، والتيسير لعملية التسليم والتسلم المزمع حدوثها في ظرف أفضل، فليس بعد الوصاية أو الحماية أو الانتداب سوى الاستقلال .

 

والأمريكيون لديهم تجربة تاريخية كبيرة يعتد بها في هذا المجال، فقد خاضوا حرباً ضروساً لتحرير العبيد، بقيادة أبراهام لينكولن، أفرغت الولايات الجنوبية من رقيق المزارع، ونقلتهم إلى الولايات الشمالية، للعمل بالمصانع، بطريقة لم تختلف كثيراً، من حيث المعاناة والانسحاق الإنساني، عن حياتهم السابقة . ولم تجانب رواية “ذهب مع الريح”، الحقيقة كثيراً، وهي تحكي لنا تفاصيل الحرب الأهلية .

 

هنا أيضاً في الوطن العربي، تأخذ تعابير الحرية والديمقراطية، أشكالاً تقترب من تلك التجربة . فقربان حقوق الإنسان والتحديث هو تشريد شعب فلسطين، وإقامة كيان مصطنع على أرضها يكون عازلاً بين العالم العربي المتوحش، وبين أوروبا المتحضرة، ويعزل شرقي الوطن العربي عن مغربه .

 

وتستمر قوى الهيمنة الجديدة بتذكيرنا بمآثرها، فهي وحدها التي تستطيع حمايتنا من الاستعمار التقليدي ومن الشيوعية، والهدف هو ترسيخ منطق إزاحة الخصوم والحلفاء في آن معاً عن الطريق . وهذا المنطق هو الذي سرّع في استقلال عدد من البلدان العربية، بعد الحرب الكونية الثانية، لتسقط بأشكال مغايرة في حظيرة التبعية للقوة الجديدة الصاعدة .

 

ولأن ما يحكم العلاقات الدولية هو الصراع، وليس التعايش، فقد صيغت استراتيجيات عسكرية جديدة، تؤمن استمرار الصراع، وفي الوقت ذاته، تمنع التشابك المباشر بين القوى التي تنتج السلاح النووي، ومن هنا سادت في الحقبة الباردة ما أطلق عليها “الحروب بالوكالة” . وقد استمر هذا النمط من الحروب طوال الحرب الباردة التي تواصلت لخمسة وأربعين عاماً، وانتهت بسقوط حائط برلين .

 

انقسمت أوروبا إلى نظامين سياسيين: رأسمالي في غربها، واشتراكي في شرقها، وانكفأ الشطران، داخل حدود القارة، أحدهما تحت حماية المظلة النووية الأمريكية، وانخرطت بلدانه في الحلف الأطلسي (الناتو)، والشطر الشرقي بقي أسيراً تحت القبضة السوفييتية، وارتبط بحلف وارسو .

 

أمست بلدان أوروبا بحاجة إلى إعمار ما خلفته الحرب من خراب ودمار، ولم يكن بإمكانها منفردة، أن تواجه مصاعبها الاقتصادية . وقد وعى الأمريكيون مأزق حلفائهم، فطرحوا مشروع مارشال لإعمار أوروبا، وكان ثمن ذلك أن تترك القارة الأوروبية للأمريكيين مسؤولية إدارة السياسة الدولية . وقد وضع الأمريكيون بمشروعي مارشال و(الناتو) حجر الأساس للسوق الأوروبية المشتركة، ولوحدة أوروبا لاحقاً .

 

في العالم الثالث، تميز الإيقاع الذي ماجت به معظم بلدانه، بالسعي إلى التحرر من ربقة الاستعمار الذي جثم عقوداً طويلة على تلك البلدان . وطغت شعارات الحرية والاستقلال، وتعززت العلاقة بين هذه البلدان بتشكيل كتلة عدم الانحياز . وقد حرض على بروز حركات التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وعي قياداتها بمشروع الإزاحة الأمريكي، حيث رأت فيه فرصة ذهبية، لطرد قوى الاحتلال وتحقيق الاستقلال .

 

وهكذا يمكن القول إن أهم ملامح السياسة الدولية بعد الحرب الكونية، هي هيمنة الثنائية القطبية، وإزاحة الاستعمار التقليدي وانكفاء أوروبا نحو الداخل، وتصاعد مطالب الاستقلال، وحروب بالوكالة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، واندماج بلدان أوروبا عسكرياً واقتصادياً .

 

هذه اللوحة البانورامية، اعترضتها بعض الاستثناءات، فقد أصبح العالم مرات عديدة مهدداً باندلاع حروب نووية بين القطبين الأعظمين . حدث ذلك في أثناء الحرب الكورية في الخمسينيات، وفي أزمة الصواريخ الكوبية عام ،1959 وأثناء معركة العبور عام ،1973 لكن الحكمة تغلبت وتراجعت احتمالات تلك الحروب . ومن جهة أخرى، لم تحل الهيمنة الأمريكية على أوروبا الغربية، دون بروز بعض النزعات الاستقلالية في القارة، وبشكل خاص في فرنسا الديغولية، إلا أنها بقيت محدودة، ولم تؤد إلى خروج أي من دولها عن مشروع الهيمنة الأمريكي .

 

على أن ذلك لا يمنع من القول إن هذه النزعات الاستقلالية، بقيت كامنة منتظرة فرصتها التاريخية، لتطل برأسها بقوة بعد نهاية الحرب الباردة، ولتصوغ المقدمات لصورة أوروبا القديمة بسياساتها الجديدة التي تتداعى بقوة في ربيع الثورات العربية، والتي ستكون محور حديثنا المقبل بإذن الله .

 

 

الخليج,21/07/2011

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرور