<%@ Language=JavaScript %> نادر المتروك مفكّر الثّورات 
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

مفكّر الثورات 

 

 

نادر المتروك

 

من المفارقة أن يكون عزمي بشارة هو أبرز، بل الأبرز، على صعيد تحليل الثورات العربيّة وتقديم الإمدادات الفكريّة اللازمة لها. هو الذي واجه حملة إسرائيلية غير مسبوقة، وابتعد قسراً عن بلده لتفادي انتقام الاحتلال الصّهيوني، وصاحبُ مدرسة تفريغ التّنين من الدّاخل؛ انتهت به الحالُ خارج وطنه السّليب، ليُقدِّم عبر الإستراتيجيا والإعلام، العونَ الممكن لتحرير العرب من «احتلال» الديكتاتوريّات. إنّ الثّورة العربيّة، على اختلاف مناشئها، هي فعْلٌ داخلي بامتياز، ولم تستطع الأنظمة أن تُقنع أحداً بخلاف ذلك. والمذهل، أنّ صُنّاع الثّورة ـــــ أي الجماهير ـــــ لم يشغلهم الالتحامُ بهاجسهم وطموحهم المؤجّل/ الدّفين المتعلّق بفلسطين، ووجّهوا أرواحهم، مرحليّاً، لحلم داخليّ مواز، لكنّه غير مُنازِع للحلم الفلسطيني. البحرينيّون فعلوا ذلك. شعبُ «اللؤلؤ» سيّرَ في السّنوات الماضية أكبر التظاهرات لنصرة القضيّة الفلسطينيّة، حتّى تبرّم البعضُ مطالباً بإعطاء الشّأن المحلّي حصّته من التّظاهر. وقد يكون شعبُ البحرين هو الشّعب العربي الوحيد الذي تقدّم نحو السّفارة الأميركيّة في بلده، ليرفع عليها علمَ فلسطين، ويسقط في هذا الطّريق أحد مواطنيه شهيداً. في ثورتهم، كما في الثّورات الأخرى، احتفظ البحرينيّون بفلسطين في رُكن خاص من قلبهم، وحرّكوا المطلبَ التّغييري المحلّي. فكيف يقرأ الثائرُ الفلسطيني ثورتهم المُهدَّدة بالتّطهير الوهّابي؟
من بين كلّ الجغرافيا السّياسيّة الجديدة؛ تتقدّمُ البحرينُ لتكون منطقة التّحليل الأصعب عند أدهى المعلّقين السّياسيين. بنسبة مفهومة، بلْورَ عزمي بشارة مقاربةً هادئة لما يجري في البحرين منذ منتصف فبراير/ شباط الماضي. شخّصَ نقاط الضّعف، وحذّرَ من المنزلقات المحتملة، وأعطى النّصائح. على هذا النّحو، حدّدَ بشارة حدودَه، ولم يذهب بعيداً كما فعلَ مع ثورتي مصر وتونس. من السّهل اتّهام بشارة بارتهانه للمكان الذي يستضيفه: قطر، وقناة الجزيرة، لكن ذلك ليس عادلاً ولا يُعطي الصّورة الكاملة. هل هو نقصٌ في المُعطيات أم رغبة زائدة في توخّي الحذر إزاء انتفاضة ليست واضحةً بعدُ الخاتمة التي تتجه إليها، لا سيما بعد التدخّل العسكري الخارجي؟ كلّ ذلك وارد، إلا أنّ الضاغط المؤثر هو «سلطة المعرفة». الميزةُ التي تُعظّمُ بشارة وتُجمّله، هي ذاتها المعوِّقُ الذي يُربكُ إسهامه التّحليلي في الشأن البحريني. لا يُبرِزُ بشارة أمله الشّخصي واسعاً في حصول تغيير ديموقراطيّ في المنامة، ويُفضّلُ الانحياز الصّارم لمهمته البحثيّة، ولجزء من هاجس قوميته «الفكريّة». بالتأكيد ليس مطلوباً التخلّي عن المهنيّة، لكنّ فعْل الثّورة في البحرين ـــــ ومثيلاتها ـــــ يظلُّ عصيّاً على النظريّة والدّرس الفكري، لأنّ الثورة بطبيعتها تقطعُ صلتها بالواقع، وتتقدّم أماماً وخلفاً، رغم المعادلات الظاهريّة وموازين القوى القاهرة. والحقُّ أنّ المبادرة الثّوريّة التي اجتاحت البحرين قبل شهرين، عوّلت على اختراق كلّ الأطر التقليديّة لفنّ الممكن. ومنذ أيّامها الأولى، استطاعت إقناعَ المعارضة ورموزها باتخاذ خطوات «راديكاليّة»، بالمقارنة مع خطابها السّياسي قبل 14 فبراير/ شباط الماضي. هذا يعني أنّ المتغيّر الجديد، والأساس، الذي دخل المعادلة السّياسيّة في البحرين، هم أولئك الطّيف الشّبابي الذي نظّم الثّورة وقادها، حتّى الآن. هذا المتغيّر لا يزال خارج القراءة، وليست هنالك معطيات واضحة ودقيقة عنه، فيما أكثر التّحليلات الشّائعة تنصبّ على الفواعل الثّابتة، وتستندُ إلى التّقديمات الرّائجة التي لم تحْسم بعدُ الانفكاك عن المرحلة السّابقة. التّقديم التّحليلي لبشارة لا ينجو من هذا الأمر، وهو لا يُلام على ذلك، لأنّ المتغيّر الشّبابي أصلاً لا يزال بعيداً عن الأنظار، والقمع الأمنيّ الشّرس ـــــ بدعم قوات الاحتلال السّعودي ـــــ أسهم في مزيدٍ من التّواري عن الأنظار. لكن من المُتاح استقراء ملامح هذا المتغيّر، من خلال الأداء التّغييري والثّوري الذي غطّى السّاحات.
استلهم شبابُ «14 فبراير» مفهومَ الثّورة السّلمية من مصر تحديداً، لكنّ التطبيق البحريني لهذا المفهوم فاقَ تجلّيه المصري، واستطاع هؤلاء إعطاء نموذج ثوري سلمي، كامل المعنى، خلال كلّ الاحتجاجات، ورغماً عن العنف الوحشي الذي أطلقته قوى الأمن والجيوش. لم يُقارب أكثر المحلّلين دلالات هذا الخيار السّلمي المطلق، ولا الوقوف على نماذجه وأشكاله المُبتكرة، وهو ما حجبَ عنهم جانباً من طبائع الحدث الجديد. الأمرُ الآخر يتعلّق بفاعليّة الشّعار التفاوضي الذي حرّكه الشّباب طوال التّدافعات الاحتجاجيّة التي عمّت البلاد، إذ كوّنوا رصيداً ضخماً من الشّعارات الجذريّة، تتابعاً مع كلّ إجراء قمعيّ تُقدم عليه السّلطات. وقد تحرّكت تلك العمليّة بالتّزامن مع منعطفات ومسيرات احتجاجيّة متدرّجة، اعتُمدت في أوقات سريعة ولقيت إقبالاً شعبيّاً فاق التوقّعات. من غير الممكن إعطاء إحاطة تحليليّة لثورة البحرين في حال إهمال هذين الأمرين، لجهة آلية عملهما وخلفيّتهما الوظيفيّة والاحتجاجيّة.
بالعودة إلى المفكّر بشارة، فإنّ صاحب «أن تكون عربياً في أيّامنا» يتوقّف عند المسألة المذهبيّة سبباً في تطويق الثّورة وسلْبها البُعد الشّعبي والوطني. في المقابل، من المهم الالتفات إلى أنّ ثورة «14 فبراير» استطاعت، بنحو غير مسبوق، أنْ تخلق أكبر إطار نفسي لقبول الآخر، والحؤول دون الانزلاق في أيّة مواجهة طائفيّة، وكان شعار «لا سنية لا شيعية وحدة وحدة وطنيّة» ـــــ ومرادفاته ـــــ ثيمة أصيلة، لا تفارق الاحتجاجات. يتأكّد التّحصين المستحدث مع استذكار الأدوات القذرة التي استخدمها النظامُ البحريني في الإجهاز على الثّورة. لأوّل مرّة في تاريخ البحرين، يُطلِق التلفزيونُ الرّسمي العنانَ لكلّ قاموس الطائفيّة والبغض المذهبي، وسمحَ لكلّ النّعوت التّكفيريّة، المستدعاة من أدبيات النّظام الوهّابي في السّعوديّة. من جهة أخرى، نفّذت الأجهزةُ الأمنيّة في البحرين أخطرَ اجتياح ميليشياوي منتصف فبراير/ شباط الماضي، وعاشت البلادُ خلالها إرهاباً وخراباً. وتعمّدت الأجهزة إظهار الأمر على أنّه غارات و«غزوات»، تنفّذها أطرافٌ تابعة لمذهب معيّن ضد القرى والمناطق التي تنتمي للمذهب الآخر. كان المُراد إشعال المخيال الشّعبي (للشّيعة) بقصص الاستباحة الطائفيّة التي جرت في القرن الماضي وما بعده، واستهدفت ترويع الأهالي وإجبارهم على الخضوع أو الهجرة.
بفضل الضخّ الشّعاراتي الذي اشتغلت عليه الثّورة وإعلامها المتنوّع؛ كان ممتنعاً حصول أيّ اشتباك حقيقي على أساس الهويّة الطائفيّة، ولن تُقدَّر قيمة هذه الممانعة ـــــ مجدداً ـــــ إلا مع ملاحظة العمليّات المنظّمة الضّخمة التي نُفّذت ومُوّلت رسميّاً لإيقاع الفتنة. لا شكّ في أنّ الغبار الطائفي عمّ البلاد، وخلق توهّمات داخلية وخارجيّة بأنّ ما يجري في البحرين ليس ثورة شعبيّة بل طائفيّة، لكن ذلك كلّه يعبّر عن المناخ المشحون الذي خُطّط له عمداً لتشويه طبيعة الأحداث. ألقى هذا الشّحنُ بظلاله على عدد من المتابعين والمراقبين الذين يستقون المعلومات من مصادر التّشويش، وتُمثّل خطبة الشّيخ يوسف القرضاوي عن البحرين نموذجاً لهذا التورّط. في المقابل، تجنّب بشارة المنزلق الأحادي الذي وقع فيه القرضاوي، وامتنعَ قدر الإمكان عن إعطاء أيّ تبرير لقمع الشّعب في البحرين، منبّهاً إلى خطورة عدم الاستجابة لمطالبه، وأنّ التدخّل الخارجي إذا أنقذ النظام الآن فلن يقوى على ذلك في المستقبل.
لكنّ الشّبهة التي تلبّست ببشارة تكمن في ثلاثة أمور: غَفْل المُحرِّك الفعلي للاستقطاب الطائفي وإظهار التدخّل العسكري السّعودي بوصفه استجابةً مانعة ـــــ لا فاعلة كما هي الحال ـــــ لهذا الاستقطاب، وعدم استنطاق الاشتغال الشّعبي الجاد في كبْح النوازع الطائفيّة والسّعي المتواصل إلى محاصرة شعارات الاستدعاء المذهبي، والتشكيك «الخافت» في ولاء المعارضة ووطنيّتها والتنبيه لارتهانها للخارج، على أساس الاستقطاب نفسه. (انظر حوار حسين جلعاد مع عزمي بشارة في الجزيرة نت، 24 آذار/ مارس 2011). المسافة الزّمنيّة الممتدة، وتبدّلات العقد السّابق؛ لا تُلغي قيمة الخلاصات المعرفيّة التي لا يزال يتمسّك بها عالم الاجتماع البحريني عبد الهادي خلف. اختصّ خلف في كشْف العوْرة المتأزّمة في جسَد النظام البحريني، منذ تلبّسه بثقافة الغزو، عندما دخل آل خليفة البحرين قبل أكثر من قرنين بوصفهم فاتحين، وأنّ الأرض وما/ منْ عليها ملْكٌ لهم، ولا أحد يُنازعهم عليه، وأنّهم حينما يُعطون النّاسَ فمن باب المكرمة لا الحقّ، فهؤلاء ليسوا مواطنين بل رعايا. ولأجل ترتيب أوضاعهم وحفْظ حكمهم، لجأ آلُ خليفة، بحسب خلف، إلى تفعيل أدوات ضابطة عدّة، وعلى رأسها «التّشطير العمودي» للمجتمع، أي «الإبقاء على انقسام المجتمع والمؤسّسات الاجتماعيّة في متوزايات مفصولة بعضها عن بعض»، («بناء الدّولة في البحرين»، خلف، ص31). مع اختلاف الدرجة؛ لم يتوقف هذا التّشطير المفبرك، لكنّه اتخذ أخيراً ظهوراً طاغياً وأكثر «مكارثيّة». ومن علامات ذلك، إسقاط الحاجة إلى الوسطاء ونظام الوكلاء في أوساط الطائفتين، وانحسار الخطاب المعتدل واختلاق اصطفافات طارئة (تجمّع الوحدة الوطنيّة برئاسة الشّيخ عبد اللطيف المحمود) لتأدية مهمة محدّدة هي «إشعار الجميع باستحالة الالتقاء»، أي إطلاق النّظام التّشطيري على أوْجه، وإعلان «التّطهير» على أساس الهويّة الطائفيّة.
طوال التّاريخ، وجد النّظام أنّ استمراره رهنٌ بتوزيع الانقسامات وتنشيطها، مثلما هي الحرب الأهليّة والطائفيّة؛ فلا يُتاح إشعالها بوجود طرفٍ واحد وتمنّع الآخر، كذلك إنهاء الطائفيّة، فهي مهمّة مقرونة بمهمّة بناء الدّولة، ولا تكون إلا بتوافق الطّرفين. لذلك فإنّ بقاء بناء الدّولة مهمةً غير منجزة ـــــ بتعبير خلف ـــــ يُرادفُ عدم إنجاز المؤسّسة الوطنيّة الجامعة. طالما تفاقم شعور النّظام المرضي بالحاجة إلى تشطير المجتمع لحفْظ وجوده وهيبته، فلا سبيل لنجاح الأهالي في مشاريع الوحدة والتّقريب. هكذا أفشلت تجربة هيئة الاتحاد الوطني في خمسينيّات القرن الماضي، وأجهضت الأحلام المتتالية التي استمرّت في إحيائها


/ الاخبار 12/4/2011

* كاتب بحريني

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا