<%@ Language=JavaScript %> محمد سيد رصاص أزمة اليسار السّوري (الماركسيون نموذجاً)
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

أزمة اليسار السّوري

 

(الماركسيون نموذجاً)

 

 

محمد سيد رصاص

[ محاضرة ألقيت في الرقة:آذار2002]

 

-1-

يقصد بمصطلح (اليسار)، هنا، الحزب الشيوعي السوري وما أفرزه من تنظيمات واتجاهات بعد انشقاق عام 1972، ومن اتجه إلى الماركسية من أفراد أو تنظيمات كانت تتبنى الاتجاه القومي العروبي بين عامي 1967-1972: هذا لا يعني إقصاءً للآخرين، من ناصريين أو بعثيين أو (حزب العمال الثوري العربي) الذي اتجه من البعث إلى الماركسية منذ النصف الأول من عقد الستينيات، بقدر ما يعود الأمر إلى غايات بحثية تتعلق بظواهر محددة من اليسار، ذات طابع يساري ماركسي ارتبطت بموسكو أو حاولت التمرد عليها، أو كانت بالأصل في موقع متفارق معها ثم اقتربت بهذا الشكل أو ذاك منها، يراد دراستها، هنا.

 

بداية، إذا أردنا مقارنة التجربة الشيوعية السورية مع غيرها من التجارب العربية، فإننا نجد أن الحزب الشيوعي السوري لم يجد مرتكزاً اجتماعياً محدداً في النسيج المجتمعي السوري، بخلاف الشيوعيين السودانيين الذين وجدت لهم امتدادات مجتمعية قوية بين الفئات الحديثة (عمال-طلاب-نساء-مزارعي الجزيرة-الخريجين)، أو العراقيين الذين وجدت امتدادات قوية لهم بين العمال، وكذلك ضمن الطلاب خلال فترة (1941-1961) قبل أن يدخل حزب البعث العراقي في طور القوة ابتداءً من التاريخ الأخير، أو إذا شئنا المقارنة من خلال الواقع السوري، بخلاف حزب البعث الذي وجدت له، منذ بداياته وعبر تركيزه على المسألتين الزراعية والقومية، جذور اجتماعية قوية بين الفلاحين والفئات الوسطى، وبالذات ضمن شريحة الطلبة من الأخيرة.

تجاهل الحزب الشيوعي السوري المسألة الزراعية، ووقف في موقع التضاد من المسألة القومية، نظرياً أولاً، ومن ثم سياسياً كما ظهر في فترة الوحدة، فيما صدم الشارع السوري في موقفه من القضايا العربية، كما حصل يوم قرار تقسيم فلسطين. وهو إذا حصلت له فترات من القوة والمدّ الاجتماعي كما في فترة 1945-1947، أو 1956-1958، أو 1967-1972، فقد كان ذلك ناتجاً عن الإعجاب والانبهار بسجل السوفيات ضد النازية وعن المراهنة على قوة كبرى جديدة يمكن أن يستغلها العرب ضد بريطانيا وفرنسا كما حاولوا مع هتلر، فيما كان ذلك ناتجاً في الخمسينيات عن موقف السوفيات المؤيد للعرب في حرب 1956، بينما نتجت قوة الشيوعيين السوريين، في النصف الثاني من الستينيات، عن تداعيات حرب حزيران وما ولدته من هزيمة للتيار القومي الحاكم، من البعث وعبد الناصر في سورية ومصر، وما أدى إليه ذلك من ابتعاد الكثيرين عن الحركات القومية إما باتجاه الماركسية أو نحو التيار الديني.

لم يؤد ذلك إلى استقطاب الشيوعيين السوريين لطبقات أو فئات اجتماعية محددة يرتكزون عليها، في بلد لم يكن فيه التصنيع متجذراً وما أدى إليه هذا من ضعف الطبقة العاملة، الشيء الذي جعلها غير قادرة على أن تكون رافعة للحزب، كما حصل في تجربة الشيوعيين الفرنسيين مثلاً، مع العلم أن الحزب الشيوعي السوري لم يكن، طوال تاريخه، قوياً بين العمال، ولم تتجاوز نسبتهم، حتى في فترات مدّه، بين أعضاء الحزب نسبة (13%) كما حصل في المؤتمر الثالث للحزب (حزيران 69). بل كان الأمر مؤدياً إلى تسرب مثقفين وطلبة وموظفين أو مستخدمين، كانوا كلهم من أفراد الفئات الوسطى المدينية التي شكلت القاعدة الاجتماعية لأحزاب وحركات أخرى مثل الناصريين والإخوان، وعندما وجد الشيوعيون السوريون امتداداً في الريف فقد كان ذلك بعد دخول التحديث إليه بين عامي 1958-1963 وضمن نفس الفئات الوسطى ولكن ذات المنشأ الريفي.

إذا أردنا التحدث عن فئات اجتماعية وجد الحزب قاعدة قوية فيها، فيمكن الإشارة، في هذا الصدد، إلى الأكراد، إذا اعتبرناهم فئة اجتماعية أو جماعة قومية، في دمشق وعفرين والجزيرة، وقد ظل الحزب قوياً بينهم إلى أن دخلت الأحزاب الكردية على خط المنافسة معه منذ السبعينيات، وقد كانت نسبة الأقليات القومية، من أكراد وشركس وأرمن، عالية في الحزب، وقد ذهبت الغالبية الكاسحة منهم مع خالد بكداش في انشقاق عام 1972.

بعد هزيمة حزيران 1967، نشأت ظاهرة الخروج من الأحزاب القومية (القوميين العرب الاشتراكيين العرب بعث 23 شباط بعد عام 1970) إلى الاتجاه الماركسي، ولكن نحو اتجاه يتخالف مع الشيوعيين الكلاسيكيين، هو أقرب إلى ظواهر (اليسار الجديد)، ونحو رموز مثل (تروتسكي) و(غيفارا)، ويأخذ موقفاً نقدياً وضدياً من التجربة السوفياتية، ويلاحظ بأن معظم من أتى إلى هذا الاتجاه قد كانوا من منشأ ريفي، في ريف اللاذقية وحمص وحماه أو في بلدة السلمية، وكانت نسبة القاعدة الاجتماعية المدينية ضعيفة عندهم، حيث كان تواجدهم في مدن دمشق وحلب متركزاً أساساً بين الوافدين من تلك المناطق إلى هاتين المدينتين وكذلك في اللاذقية وحمص، مع استثناء حماه التي وجد لهم فيها أفراد مدينيون عديدون شكلوا فيما بعد قيادات، أتت بمعظمها من تنظيم (الاشتراكيين العرب) بقيادة أكرم الحوراني.

 

 

-2-

كان (الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي) من أبرز الظواهر التي أفرزها اليسار السوري في العقود الثلاثة الأخيرة، وقد تميز هذا الحزب بثلاثة أشياءٍ، الأمر الذي يمتد بأبعاده إلى نطاق اليسار العربي: 1- الاستقلالية عن السوفيات، على الأقل في التنظيم والسياسة، وإن ظل الأمر غائماً على صعيد الفكر. 2- رسم السياسة من خلال التفاعل المستقل مع القضايا العربية والمحلية، وليس من خلال ما تتطلبه المصالح السوفياتية، 3- مبادرة هذا الحزب، من دون اليسار السوري كله، إلى المصالحة مع مفهوم (الديمقراطية)، ابتداءً من عام 1978، بعيداً عن (الديمقراطية الشعبية)، أو عن ربطه مع مفهوم (الديمقراطية الاجتماعية)، مما شكّل منعطفاً في تاريخ اليسار السوري (إن لم نقل العربي) الذي سيطرت عليه، منذ أن طرح السوفيات مفهوم (الديمقراطية الثورية) في عام 1963، اتجاهات عدائية للنزعة البرلمانية، وللديمقراطية السياسية بمعناها البرجوازي، وإلى اعتبار الأخيرة "جوفاء" إن لم ترتبط بإزالة الاستغلال الاجتماعي، أو كانت مجردة من التوجه نحو "أفق اشتراكي".

ولكن هذا الحزب لم يستطيع أن يقدم مفهوماً للماركسية [أو يستعير إن لم يستطيع الابتكار] مختلفاً عن ما هو موجود عند السوفيات، وظلت تتنازعه، طوال تاريخه، مدارس ماركسية شتى تمتد من ستالين إلى غرامشي وما بينهما، بالترافق مع اتجاهات للتفارق عن الماركسية ظهرت بذور لها منذ السبعينيات، ثم نمت كثيراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. كما أن هذا الحزب، الذي استقل تنظيمياً عن السوفيات وكذلك سياسياً، قد ظل محتفظاً بالشكل اللينيني للتنظيم، أو بالأحرى بطبعته الستالينية التي وُرِّثت للأحزاب الشيوعية العالمية، بحيث أن الحزب الذي كان رائداً في طرح الديمقراطية، كبرنامج سياسي، قد كان في الوقت نفسه مفتقداً للديمقراطية في علاقاته، وزاد ذلك في فترة العمل السري بعد عام 1980، كما أن القيادة التي تولت الأمور، بعد حملة عام 1980، قد تركته حزباً سائباً من الناحية الفكرية ولم تحاول (أو لم يكن بمقدورها ذلك من حيث الأهلية والإمكانيات) سدّ النقص في هذا المجال والذي وجد منذ بداية تكوّن هذا الحزب، مما جعل هذا الحزب عندما تلاقى أعضاؤه، في المؤتمر التداولي (آذار 2001)، يجد نفسه في وضعية حزب أصبحت توجد فيه مدارس فكرية مختلفة ومتناقضة، ولم يكن الأمر مقتصراً على وجود تيارات، مما يمكن أن يوجد في أي حزب شرط أن تتوفر الديمقراطية في علاقاته التنظيمية الداخلية.

إن مسألة إنتاج ماركسية مختلفة، مثل ما فعل الشيوعيون الطليان عبر (غرامشي) أو الصينيين عبر (ماو)، لا يمكن أن تتحقق، فقط، عبر التفاعل السياسي مع قضايا مثل (الوحدة العربية) أو (قضية فلسطين)، وكذلك مسألة تَبْيِئَةْ الماركسية عربياً وسورياً، كما كان يؤمل منذ بداية تكونه، وهما شيئان لم يستطع تحقيقهما هذا الحزب في فترة السوفيات، ولا أن يستغل انهيارهم، وتداعياته على أتباعهم السابقين، من أجل تحقيق ذلك، مما جعله في النهاية يفشل في إنشاء ماركسية عربية من دون الكرملين، على طراز كاثوليكية بلا فاتيكان، وهو ما أدى إلى جعله، بالنهاية، نهباً لفوضى فكرية، زادت آثارها أخيراً مع الاختلافات الظاهرة في أحزاب (التجمع الوطني الديموقراطي) حول تقييم المرحلة الجديدة في سوريا، مما لم يكن موجوداً في أحزاب المعارضة السورية تجاه السلطة السابقة، وبشكل جعل التعارض والتناقض ممتداً إلى السياسة أيضاً.

-3-

كانت (الحلقات الماركسية)، في النصف الأول من عقد السبعينيات، ومن بعدها (رابطة العمل الشيوعي) في عام 1976، قد بدأتا من نقطة ماركسية متفارقة وبعيدة عن الماركسية السوفياتية، مما كان شاملاً للفكر والسياسة معاً، مع محاولة للابتعاد، منذ البداية، عن الشكل التنظيمي الشيوعي الكلاسيكي.

كانت (الحلقات) و(الرابطة) أقرب إلى أفكار (اليسار الجديد)، الذي نما في الغرب مع إعادة إحياء (تروتسكي) من قبل ماندل ودويتشر، وكذلك عبر ظواهر مثل (غيفارا) و(ريجبيس دوبريه)، وزاد ذلك مع الثورة الطلابية في عام 1968، وأفكار (هربرت ماركوز)، وهي عبر محاولتها لإيجاد ابتعاد بين فكري لينين وستالين، لم تجد نفسها، عبر ذلك، في موقع قريب من غرامشي و(الشيوعية الأوروبية)، بل كان ميل الأخيرة إلى النزعة البرلمانية سبباً لابتعاد ظواهر (اليسار الجديد) عنها، وقد ظهر ذلك، أكثر ما ظهر، أثناء محاولة استخلاص (اليسار الجديد) لدروس سقوط أليندي، في تشيلي، بخريف عام 1973.

يلاحظ في هذا الإطار، أن الكثير من تنظيمات (اليسار الجديد)، مثل (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) و(الجبهة الشعبية)، و(رابطة العمل الشيوعي)، قد كانت تنطلق من منطلقات ماركسية مفارقة للسوفيات، ثم كانت تنتهي للقاء معهم سياسياً، في البدء، وفكرياً بالمنتهى. وقد لوحظ ذلك، منذ عام 1979، على (الرابطة)، في المواقف المتعلقة بأريتريا، وكمبوديا، وأفغانستان، فيما على صعيد مفهوم التنظيم فقد ظهر اتجاه، منذ ذلك التاريخ، للتركيز على كتاب لينين "ما العمل؟"، وللابتعاد عن كثير من المفاهيم الانتقادية لمفهوم التنظيم اللينيني، مثل مفهوم روزا لوكسمبورغ حول "المجالس"، أو عن بعض الاتجاهات التروتسكية الرابطة بين مفهوم التنظيم في "ما العمل؟" وبين الظاهرة الستالينية، حيث كان هذان الطرحان يملكان قوة كبيرة في (الحلقات)، بخلاف فترة (الرابطة)، وإن كان من الضروري، في هذا الصدد، تسجيل تحمّل (رابطة العمل)، ومن بعدها (حزب العمل) في عام 1981، لعملية وجود تيارات متباينة، ولوجود كثير من ظواهر الديمقراطية في الحياة الداخلية التنظيمية.

إلا أن ذلك لم يترافق مع تبني (الرابطة)، أو (حزب العمل)، لمفهوم (الديمقراطية) بمعناه السياسي البرجوازي، حيث اعتبرت (الرابطة) [العدد 15، من "الراية الحمراء"، أيار 78] أن هناك رابطاً عضوياً بين (الثورة الاشتراكية) و(الديمقراطية)، وقد استمر ذلك في (البرنامج السياسي) الصادر عن المؤتمر التأسيسي لحزب العمل (آب 81) عندما اعتبر أن "الثورة البرجوازية قد أنجزت في سورية وأن الثورة القادمة هي الثورة الاشتراكية" (ص31)، وأن "المرحلة الراهنة "هي مرحلة سيادة البرجوازية في السلطة والسوق" (ص29)، الأمر الذي نجده، أيضاً في ورقة مقدمة من قيادة حزب العمل حول (مشروع ورقة عمل وطني) في عام 1984، من خلال الدعوة للاقتصار على "الحريات السياسية للجماهير وقواها الوطنية.. [والاقتصار على] الإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين الوطنيين" (ص2).

عملياً أدى ذلك إلى رؤية المرحلة السياسية عبر تحديد (نمط الإنتاج)، [الشيء الذي يقترب من رؤية ستالين في فترة التشدد اليساري التي سادت أجواء الكومنترن، بين عامي 1928 و1935، تحت شعار (طبقة ضد طبقة)]، مما كان يؤدي إلى طرح مهام اشتراكية للمرحلة، ولو كان ذلك يتلون، على صعيد التكتيك، مع طروحات انتقالية نحو الإطاحة بسلطة الطبقة السائدة، كما نجد في الطرح، الذي قدم في (الأعداد: 35-36-37 من "الراية الحمراء"، آب-أيلول79)، الداعي إلى (جبهة شعبية متحدة)، تمثل العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة، ولكن بدون أن يدخل في ذلك طرح (الديمقراطية السياسية)، أو يتخلله، مما كان منطقياً في رؤية تعتبر أن المرحلة هي في إطار مهمات ما بعد برجوازية، مطروحة على "الشيوعيين" و"الديمقراطيين الثوريين".

-4-

أدت هذه المآلات الفكرية( أي فوضى فكرية في حزب معارض للسوفيات ونهايات سياسية فكرية سوفياتية عند حزب آخر بدأ من نقطة معاكسة) إلى أن يكون وقع انهيار السوفيات كبيراً عند كل الفصائل الماركسية والشيوعية السورية، حيث لم يقتصر ذلك على حزبي خالد بكداش ويوسف فيصل اللذين انشقا في عام 1986 لأسباب ذات طابع تنظيمي أساساً، ولو حاول الأخير إعطاء انشقاقه عن بكداش تلونات فكرية لم يستطع بلورتها حتى الآن بعد عقد ونصف من الزمن على ذلك.

عبر ذلك يمكننا تفسير كيف أن ظواهر كانت، قبل عام 1991، في موقع "اليسار المتطرف" و"الطروحات الطبقية" - أصبحت، بعد هذا التاريخ، من أنصار (الديمقراطية) المتحمسين، ومن دون إلباسها أي محتوى اجتماعي، أو تتجه، الآن، إلى طرح ديمقراطي، مربوطاً بالعلمانية، مع التسليم بأن المرحلة، الراهنة والقادمة، هي ذات طابع برجوازي محض من حيث الطرح والمهام.

هذا في (حزب العمل) ، فيما في (المكتب السياسي)، الذي كان حزباً سياسياً تنظيمياً بدون فكر ينظمه طوال تاريخه، فقد وجدت، كنتيجة لذلك، طروحات تدعو إلى "حزب ينتظم على أساس الأهداف السياسية فقط"، أو إلى (كحلٍ وسط) حزب تكون فيه "المصادر المعرفية متعددة"، في بدعة لم يوجد قبلها سوى ظاهرة واحدة في العالم هي (حزب التجمع) المصري، التي لا يمكن لأصحابها أنفسهم أن يقولوا بأنها تجربة ناجحة، فيما كل أحزاب المعمورة تنتظم وتسوس خطها وممارستها من خلال مصدر معرفي محدد يمكن أن ينفتح على المصادر المعرفية الأخرى أو يستجلبها لصالحه، إلا أنه لا يتعايش معها في حزب واحد، فيما يمكن، بالعكس، أن تتعايش طروحات سياسية مختلفة في حزب واحد، بينما لا يمكن أن يتعايش فكران، وإذا وجدت الحالة الأخيرة فهذا طريق ملكي إلى انشقاق الحزب المعني أو انفراطه.

كذلك وجدت في الحزب الأخير، أي (المكتب السياسي)، طروحات تدعو إلى فصل (الأيديولوجيا) عن (الفكر)، تأثراً بنوع من الموضة الفكرية درجت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وهي نزعة لا أحد يأخذها بجدية في الغرب (وهي تعود بمنابعها إلى كتاب "نقد العقل السياسي" لريجيس دوبريه الذي كتبه في عام 1981 بعد خيبته إثر تجربته مغ غيفارا في بوليفيا) فيما فاشت مثل فقاعة الصابون في العالم العربي، وبالذات عند أتباع موسكو القدماء، أو عند ماركسيين ويساريين آخرين يريدون أن يتخذوا محطة انتقال محددة باتجاه توجه آخر، لاحقاً.

هل هذا كله، من خلال تلك الطروحات السالفة، هو فكر مراجعة، أم فكر أزمة؟..

عندما قدم (برنشتين) مراجعته لفكر ماركس، في عام 1898، فإنه أول ما بدأ برفض ونبذ الأساس الفلسفي عند ماركس وهو الديالكتيك، ثم عندما انتقل إلى السياسة فقد قدم تصوراً لتحول لا يأتي عن طريق (الثورة) بل (الإصلاح)، وقد أدى ذلك كله به، إلى أن يصبح في موقع فلسفي معرفي آخر، حيث يستمد الاتجاه الاشتراكي-الديمقراطي أسسه المعرفية من الوضعية والكانطية الجديدة بعيداً عن الهيجلية-الماركسية، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يستورد، عبر مصدره المعرفي هذا، شيئاً من رؤية ماركس للاقتصاد، ولو افترق مع تصور الأخير للسياسة وأهدافها عند حزب عمالي في مجتمع رأسمالي متقدم، أو اختلف مع تصور الشيوعيين، لاحقاً، للحزب، كما أصبح عليه الحال بين الشيوعيين والاشتراكيين-الديمقراطيين في فترة ما بعد عام 1917.

لم يفعل الماركسيون العرب، والسوريون تحديداً، ذلك في فترة (ما بعد موسكو): أي، بعبارة أخرى لم يقوموا بمراجعة لماركسيتهم السابقة تجعلهم في موقع فكري آخر جديد، وكذلك لم يقوموا بمراجعة لفكرهم، في إطار الخيمة ذاتها وتحتها، تتيح لهم تجديد ثوبهم في إطار نفس الاتجاه، كما فعل لينين مع ماركس، أو غرامشي في إطار ماركسي آخر متفارق مع لينين.

بدون ذلك فإن الأمر يدخل في إطار تخبطات فكرية، وفي إطار حركية فكر مأزوم لم يعرف، بعد، إلى أين سيتجه، مما يجعله يطلق تلك القنابل الدخانية، الأمر الذي يعبر عن مرحلة انتقالية لم يعرف، بعد، أصحاب هذا الفكر المأزوم إلى أين سيتجهون، مما جعلهم يطلقون تلك الطروحات التي تعبر عن فكر أزمة، أكثر مما هو فكر مراجعة، سواء كان المقصود بالمراجعة هو اتجاه نحو الخروج من الدائرة الفكرية المعنية إلى أخرى (باعتبار أن الاتجاهات الفكرية السياسية تعتمد على أشجار لا تلتقي، وإنما يمكن أن تتفاعل، مثل ماركس، وجون ستيوارت ميل، وفيخته، وبرنشتين، وحسن البنا، وليس على أغصان هذه الشجرة أو تلك مثل دوبريه وغيره)، أم باتجاه التجدد والمراجعة ضمنها.

ليست هذه النهايات الفكرية عند فصيلين ماركسيين، كانا بالأصل على افتراق مع السوفيات، أفضل كثيراً من نهايات فصيلي بكداش ويوسف فيصل، سواء الوضع الذي هو أشبه بالشوربة الفكرية عند الأخير، أم الستالينية المتصلبة في بقايا حزب بكداش وما انتهى إليه من حزب أريد حفظ قيادته لعائلة معينة، مما أدى إلى انشقاق كبير(عند صهر العائلة) على خلفية تلك المسألة التنظيمية، من دون أن يكون لذلك مرادف على صعيدي الفكر والسياسة، على الأقل حتى الآن.

أخيراً، كخاتمة لهذا البحث، هناك سؤال يطرح ويفرض نفسه، على ضوء هذا المسار وما آل إليه من مآلات: إلى أين يتجه اليسار السوري الماركسي؟... ثم: هل أن خروجه من أزمته الفكرية التي دامت أكثر من عقد حتى الآن، بعد أن عاش أزمة تنظيمية- سياسية منذ عام 1972، سيكون على شكل انتقال إلى موقع فكري آخر، أم لا؟.. وإذا حصل الأمر الأخير: فما تداعيات الأمر على صعيد الخارطة السياسية السورية، التي كان الماركسيون، منذ عام 1954، أحد القوى السورية الرئيسية الثلاث المتصدرة للساحة السياسية، طوال المراحل اللاحقة التي أعقبت التاريخ المذكورة؟...

 

 

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا