<%@ Language=JavaScript %> مشيل كيلو استقرار أم إصلاح ؟
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

استقرار أم إصلاح ؟

 

 

مشيل كيلو

دمشق – سوريا

 

تتصارع في العقل السياسي السوري أولويات تبدو في الظاهر متناقضة، مع أنها في الواقع مترابطة/ متكاملة، أهـمها قاطــبة المفاضلة بين الاستقرار والإصلاح. يقول العقل الرسمي: إن الاستقرار شرط الإصلاح، فلا إصلاح دون استقرار. هذا ما كانت قد قالته قبل نيف وشهر الدكتورة بثينة شعبان، مستشارة الرئيس للشؤون الإعلامية والسياسية، وأكد عليه في خطبته الأخيرة الدكتور بشار الأسد، وهو يستعرض أوسع برنامج إصلاح قدّمه النظام منذ عام 1966 إلى اليوم.

الاستقرار شرط الإصلاح، فهو يجب أن يسبقه إذن، وإلا كان الإصلاح محالاً، خاصة أن من يطالبون بتحقيقه من المواطنين لا يمنحون الجهات الرسمية الفرصة الكافية لإنجازه، بسبب نزولهم إلى الشارع. هذا ما يقوله كثير من المسؤولين. بالمقابل، تبين الوقائع أن الاستقرار دام في سوريا طيلة نيف وثلاثين عاماً من دون أن تكون هناك أية محاولة من جانب النظام للقيام بأي إصلاح. أما أسباب الامتناع عن الإصلاح فقد تباينت، بعد عام 2000، بين الهجوم على برج التجارة العالمي، والجفاف، والغزو الأميركي للعراق، وعدوان تموز الصهيوني على المقاومة ولبنان، ثم على حماس في غزة، ومثلت مسوغات تم إيرادها بذريعة الحفاظ على الاستقرار. ومع أنني أعتقد أن النظام قام بإصلاح جدي بين عامي 2003 و2006، أدى إلى تحول جذري في سياساته الخارجية وخـياراته الداخلية، فإن هذا لا يغير شيئاً من حقيقة أنه كان هناك استقرار خلال نيف وثلاثة عقود لم يستغله النظام كي يقوم بإصلاح «هادئ ومتدرج وآمن ومدروس وبطيء»، حسب ما قاله في وصف الإصلاح المنشود كاتب هذه المقالة في آب من عام 2000، بعد شهرين على وصول الدكتور الأسد إلى سدة الرئاسة. واليوم، يقدم الاستقرار باعتباره شرطاً لا غنى للإصلاح، مع أنه كان سائداً إلى ما قبل أشهر قليلة فقـط، عندما أحال الرئيس الإصلاح إلى الجيل التالي، وتحدّث عن صعوبـة تحقيقه على الصعيد السياسي بصورة خاصة، ودليله أن مجتمعنا ليس جاهزاً بعد للإصلاح ولا يطالب بإنجازه أصلاً. قال الرئيس هذا وهو ينفي أن تكون سوريا تونس أخرى!

 ... واليوم، والمجتمع يطالب بأعلى صوته بالإصلاح وينزل إلى الشارع من أجل تحقيقه، وبينما يقرّ الرئيس بشرعية المطالب الإصلاحية، يكرر الوزير المعلم الفكرة التي تقول بأولوية الاستقرار على الإصلاح في مؤتمر صحافي عقده يوم الأربعاء الماضي، اتسم بطريقة غريبة في التفكير عبرت عن اليأس أكثر مما جسدت التبصر، عندما قال إننا سننسى وجود أوروبا على خارطة العالم، وسنتجه جنوباً وشرقاً - كأن خصمه الغربي ليس موجوداً بقوة هناك أيضاً - وأردف رداً على سؤال حول مطالبة المعارضة بوقف العنف: «إن كانوا حريصين على وقف العنف، فليوقفوه»، في اتهام مباشر للمعارضة بالوقوف وراء العنف، في حين كرر مرات متعددة مطالبتها بالاشتراك في الحوار الوطني، وأنكر أن تكون هناك أزمة في سوريا، عندما سأل صحافياً ذكر الأزمة: عن أية أزمة تتحدث؟ فكأننا مع الوزير أمام الصيف والشتاء على سطح واحد، أو كأن أولوياته تداخلت بعضها مع بعض، فصارت إستراتيجيته الجديدة، التي وعد بأن تحقق لنا النصر، تتجسم في القطيعة مع الجزء المتقدم والقريب من العالم، شريكنا التجاري الأكبر، الذي كنا نقول إلى البارحة إنه لا يستطيع الاستغناء أو الابتعاد عنا، بعد أن أرغمناه على الانصياع لنا بالطريقة التي أردناها بعد عام 2008!
ما علينا. هناك مشكلة في الرؤية تترتب عليها مشكلة في الأولويات، تعبر اليوم عن نفسها من خلال القول بأسبقية الاستقرار على الإصلاح. بينما يسارع النظام إلى تقديم مشروع إصلاح هدفه الرئيس استعادة الاستقرار، كأنما يقرّ ضمنا أن الإصلاح شرط الاستقرار وليس العكس، كما قال الصوت السوري الآخر، المعارض، مراراً وتكراراً منذ عام 2000 إلى اليوم، ويقول في أيامنا هذه أيضاً، مع الشارع.

لم يكن ما عاشته بلادنا استقرارا بمعنى الكلمة الحقـيقي، فالاستقرار لا يعني الصمت والخمود، بل هو نتاج تفاعل أساسه الحرية التي تنضوي في إطار مشتركات جامعة يحترمها الفرد، وتلـتزم بها الجماعات المجتمعية والسياسية، وتسهر على رعايتها وتطـويرها الدولة، وتخدمها السلطة. هذا النمط من الاستقرار هو ما كانت بلادنا تفتقر إليه، بينما كانت تعيش في صمت الخائف، الذي لا يطالب بحقوقه ليس لأنه بلا حقوق، بل لاعتقاده أن المطالبة تهدد أمنه الشخصي ووجوده، وتفقده ما بقي له من هوامش ضيقة للعيش والعمل. ومع أن «سوريا المستقرة»، التي لم يقلع نظامها عن التغني باستقرارها مرّت بأوقات شديدة الاضطراب بين عامي 1963 و1982، ثم أخذت أشكالاً غير عنيفة تمثلت في قطيعة حقيقـية بين النظام وأقسام متزايدة من الشعب في الحقبة التالية لها، بينما وصلت أواخر السبعينيات إلى صدام مسلح دام نيفاً وعامين، ولعب دوراً خطيراً لم يدرس بعد في التطورات التي عاشتها سوريا منذ ذلك التاريخ إلى الآن، وترك بصماته على طابع السلطة ومراكز القرار فيها، وعلاقات مكوناتها الداخلية مع بعضها من جانب ومع الشعب من جانب آخر، مع أنها بقيت حية في نفوس السوريين، الذين استعادوها بقوة خلال الأحداث الأخيرة، فغدت موضوعاً دائماً في أحاديثهم وتحليلاتهم ومواقفهم.

خلال تلك الفترة الطويلة، لم يعتقد النظام بضرورة الإصلاح، لأن تجربته في «البناء الاشتراكي» كانت في مراحلها الأولى، ولأن الجيش آمن أنه ناب عن الشعب وحقـق كل ما كان يمكن أن يريده من إصلاح، عندما قام بـ«الحركة التصحيحية»، وأن الأولوية يجب أن تكون من ذلك التاريخ فصاعداً للاستقرار، ما دام الإصلاح قد أنجز وحقق ليس ما كان السوريون يطلبونه، بل كل ما كان يمكن أن يطمحوا إليه. الغريب أن هذه القناعة الخاطئة، التي لم تهزها أحداث 1979-1982 المأساوية، استمرت حتى بعد أن بدأ الرئيس الراحل حافظ الأسد يتحدث عن ضـرورة «تصحيح التصحيح»، وأبدى تذمره واستياءه من أوضاع البلد وسيطرة الأجهزة على الدولة والمجتمع في خطبة ألقاها أمام مجلس الشعب. والأغرب أن الأسد الابن بقي صامتاً طيلة قرابة خمسة أعوام على الإصلاح، الذي أجراه في السياستين الخارجية والداخلية، ولعب دوراً كبيراً في إثارة حركة الاحتجاج الراهنة، أي في تقويض «الاستقرار» المطلوب سلطوياً، بما أنه توجه بقوة نحو مالكي الثروة والمال في الداخل، قربهم أحدهم من الآخر إلى درجة التحالف، وأدار ظهر سوريا للمجال القومي ودمجها في سياق إقليمي تصدّرته دولة بنت حساباتها جميعها على ضعف العرب وإضعافهم، فبدا وكأن سياسة العهد الجديد تقطع مع الداخلين السوري والعربي - يعدنا المعلم الآن بقطيعة إضافيــة مع الجزء الأكبر من العالم - وتبدل دور سوريا التاريخي، وتعتدي على مصالح الكثرة الشعبية العاملة والمنتجة في الريف والمدينة، وصولاً إلى الحال الراهن.

يقول النظام بأولوية الاستقرار، ثم يناقض نفسه حين يسارع إلى تقديم عروض الإصلاح ومسوداته، كأنه يؤمن بعكس ما يقول. بقي أن يقبل النظام ما تقوله احتجاجات هذه الكتلة الكبيرة من المواطنات والمواطنين السوريين، وملخصه رفض أي إصلاح يعيدها إلى نمط الاستقرار الذي كان سائداً قبل منتصف شهر آذار الماضي، وقام على ضرب من موت شتوي مديد حرمت قطاعات شعبية واسعة خلاله من حقوقها الرئيسة، بما في ذلك حقها في أن يكون لها صوت مسموع. من هنا، تريد هذه القطاعات الشعبية إصلاحاً يتيح لها أعظم قدر من الحرية والعدالة والمساواة، تكون هي لا السلطة حامله والمنتفع الأكبر منه، تنطوي معه، وإن بصورة تدريجية وخلال فترة متوافق عليها صفحة السلطوية: صفحة إنتاج المجتمع انطلاقا من السلطة وبدلالتها، وتنفتح صفحة المجتمعية: إنتاج السلطة انطلاقا من المجتمع المدني، مجتمع المواطنين الأحرار والمنتجين وبدلالته، فيكون الاستقرار مصلحة شعبية ووطنية أكيدة، أرضيته إصلاح يعزز الاستقرار، ويخرج البلد من أزمته الكبيرة التي تفرخ أزمات لا تنقطع حلقاتها، ويعيش المواطن في نظام ديموقراطي آمن وحر، يجعله صاحب صوت مسموع وإرادة وطنية جامعة.

في الخطاب السائد، يسبق الاستقرار الإصلاح. في الواقع: لا استقرار بلا إصلاح: يسبق الإصلاح الاستقرار ويصير شرطاً له. عندئذ، لن نكون مخطئين إن نحن كررنا للمرة الألف: الإصلاح وليس العنف المنظم مدخلنا إلى الاستقرار، والعنف يقوض الاستقرار لأنه يقيد فرص الإصلاح، ويضع السلطة في مواجهة قطاعات متزايدة من الشعب، ويعيد إنتاج الأزمة من حيث يظن أنه ينهيها، بعد أن يزيدها عقيداً وخطورة. أخيراً: أليس تخبطاً ما بعده تخبط أن يريد بعض أهل النظام الإصلاح سبيلا إلى الاستقرار، وإن قالوا غير ذلك، بينما يقوض بعضه الآخر الاستقرار، بمحاولته فرض الاستقرار بالقوة على من يطالبون بالإصلاح، مع أن هؤلاء لا ينتهكون الاستقرار بنزولهم إلى الشارع، وإنما يعيدون تعريفه في ضوء إصلاح لم تعد الأسلحة والرؤوس الحامية قادرة على منعه أو قهر المطالبين به؟
لا استقرار بلا إصلاح: هذه هي المعادلة التي ستفتح أبواب سوريا نحو حوار وطني جدي فيه نجاتها. بغير ذلك، لن تقود الرغبة في فرض الاستقرار بالقوة إلا إلى تدمير فرص الإصلاح والمصالحة الوطنية، وتقويض وجود الدولة والمجتمع، وتالياً الوطن!

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا