<%@ Language=JavaScript %> د. دينا شحاته مريم وحيد محركات التغيير في العالم العربي
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

 

محركات التغيير في العالم العربي


 

 د. دينا شحاته*

  مريم وحيد **

 

 شهدت المنطقة العربية في الأشهر الأربعة الماضية ما لم تشهده طيلة عقود طويلة. فبعد أن ظل العالم العربي  خارج موجات التغيير والتحول الديمقراطي المتتابعة -مما دفع البعض إلي الحديث عن وجود استثناء عربي في هذا  المجال أو عن وجود تناقض بين الثقافة العربية وقيم الديمقراطية- بدأ العالم العربي في الشهور الأخيرة يشهد  بدايات تفكك بنية النظم السلطوية بفعل انتفاضات شعبية بداية في تونس ومصر، ثم في ليبيا، والأردن، والبحرين،  واليمن، والعراق، وعمان. وأيا كانت أسماء ساحات الاحتجاجات (ميدان التحرير، دوار اللؤلؤة، شارع الحبيب  بورقيبة، ساحة التغيير) فالهدف ظل واحدا وهو سقوط الأنظمة السلطوية، سواء كان كليا عن طريق تغيير شامل  للنظام، أو جزئيا عن طريق إدخال بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية.

وبالرغم من الاختلافات المهمة بين النظم العربية، خاصة بين النظم الملكية والنظم الجمهورية، وبين الدول المنتجة للنفط والدول المصدرة للعمالة، فإن هذه النظم كانت تتفق في الكثير من السياسات والخصائص، ولذلك كانت مطالب القوي الثائرة متشابهة إلي حد بعيد. وقد تركزت هذه المطالب علي إطلاق الحريات السياسية، وتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. تشابهت أيضا استجابة النظم العربية لهذه الثورات بشكل كبير، حيث اتهم الثوار بالخيانة والعمالة، وتم استخدام العنف والترهيب. كما تشابهت تصريحات المسئولين العرب التي أكدت أن كل دولة عربية لها خصوصيتها، مثلما صرح وزير خارجية الجزائر، 'مراد مدلسي'، بأن 'الجزائر ليست تونس، والجزائر ليست مصر'(1). وسيف الإسلام القذافي الذي أكد أن ليبيا ليست كمصر وتونس، ووزير الخارجية المصري السابق 'أحمد أبوالغيط' الذي قال إن مصر ليست تونس(2). ولكن علي أرض الواقع، فإن ما حدث في تونس تكرر إلي حد كبير في مصر، وبدأت تحركات علي الطريق نفسه في ليبيا واليمن، مما قد يشكل بداية نحوالتحول الديمقراطي والحرية والعدالة الاجتماعية. كما بدأت بعض دول الخليج العربي، مثل عمان والبحرين، تشهد حراكا اجتماعيا واسعا ومطالبات بإسقاط النظم الحاكمة.

وسنحاول في السطور القادمة أن نلقي الضوء أولا: علي أهم الدوافع المحركة للقوي السياسية والاجتماعية المختلفة للثورة، ثانيا: علي أهم القوي التي شاركت في الاحتجاجات، مع الأخذ في الاعتبار أن تلك الثورات كانت ثورات شعبية، وأن كافة طوائف الشعب شاركت فيها. ثالثا وأخيرا: دراسة حالة أربع دول عربية هي تونس، وليبيا، واليمن، والبحرين.

أولا- محركات التغيير في العالم العربي :

أسهمت عدة عوامل في ظهور الانتفاضات والثورات الشعبية في العالم العربي، علي رأسها أن الشباب (الفئة العمرية بين 15 و29 سنة) يشكل أكثر من ثلث سكان العالم العربي بما يعرف بالطفرة الشبابية. وتعاني تلك الفئة أشكالا متعددة من الإقصاء والتمييز جعلتها ساخطة علي الأوضاع الراهنة. وبالرغم من الثروات البشرية والطبيعية الهائلة التي تتمتع بها المنطقة العربية، فإنها شهدت في العقود الأخيرة خللا كبيرا في منظومة توزيع الثروة، حيث استأثرت نخب ضيقة ذات ارتباط وثيق بالسلطة بمقومات الثروة، بينما همشت قطاعات واسعة من المجتمعات العربية. وقد تزايدت تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، مع التوجه لتبني آليات السوق والتجارة الحرة، وتراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة. كما تعاني المنطقة العربية القمع، والاستبداد، وغياب الحقوق والحريات، وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، مع تركيز السلطة في يد نخب ضيقة مرتبطة بالحزب أو الأسرة الحاكمة.

وقد أدت حالة الاختناق السياسي الذي تشهده المنطقة العربية إلي ظهور عدد كبير من الحركات الاحتجاجية، بعضها ذات صبغة سياسية أو اجتماعية، وبعضها ذات صبغة دينية أو عرقية. من ناحية أخري، فشلت معظم الدول العربية في تحقيق الاندماج الوطني بين الجماعات الدينية والعرقية والإثنية المختلفة، وتعرضت معظم الأقليات (أو الأغلبيات المهمشة) في العالم العربي لمظاهر الإقصاء والتمييز الديني والثقافي والاجتماعي. وفي السنوات الأخيرة ومع تزايد مظاهر القهر السياسي والاجتماعي في العديد من الدول العربية، وتصاعد دور قوي إقليمية وخارجية، بدأت هذه الجماعات تتحرك للمطالبة بحقوقها الثقافية والسياسية، أو للمطالبة بالانفصال بشكل جزئي أو كامل عن الدولة الأم. وأخيرا، أسهم التدخل الخارجي المتصاعد لقوي إقليمية وخارجية في الشئون الداخلية للمنطقة العربية في تعميق حالة الضعف والانقسام التي تشهدها دول المنطقة. وسنتناول هذه العوامل فيما يلي بشئ من التفصيل.

الطفرة الشبابية :

تشهد المنطقة العربية ما يعرف بالطفرة الشبابية، حيث يمثل الشباب في المرحلة العمرية من 15 إلي 29 سنة أكثر من ثلث سكان المنطقة. وتعاني هذه الفئة العمرية مظاهر إقصاء اقتصادي واجتماعي وسياسي، جعلتها في مقدمة الفئات المطالبة بالتغيير والمحركة له. وتعد البطالة من أهم المشاكل التي يعانيها الشباب في العالم العربي، حيث ترتفع مستويات البطالة إلي 25% بين الشباب مقارنة بالمتوسط العالمي 14.4%. وتتركز نسب البطالة بشكل كبير في أوساط الشباب المتعلم الحاصل علي تعليم عال، حيث يمثل الشباب المتعلم نحو 95% من الشباب المتعطل عن العمل في العالم العربي. كما ترتفع نسب البطالة بشكل كبير في أوساط الشابات المتعلمات، حيث تشغل المنطقة العربية موقعا متدنيا بين مناطق العالم من حيث إدماج المرأة في سوق العمل. يعاني الشباب أيضا تدني مستويات الأجور، وسوء ظروف العمل، حيث يعمل نحو 72% من الشباب في القطاع غير الرسمي. وقد أثر كل ذلك بالسلب في الظروف الاجتماعية للشباب في الوطن العربي، حيث تفشت ظاهرة العنوسة، وتأخر سن الزواج بشكل كبير. ووفقا للتقارير الدولية، فإن أكثر من 50% من الذكور في المرحلة العمرية من 25 إلي 29 لم يسبق لهم الزواج، وهي النسبة الأعلي بين الدول النامية. ومن ناحية أخري، يعاني الشباب في العالم العربي إقصاء سياسيا واضحا، حيث أدي غياب الحريات السياسية والمدنية، وضعف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان إلي انصراف الشباب عن المشاركة السياسية من خلال القنوات الشرعية(3).

ولكن في السنوات الأخيرة، ومع انتشار وسائل الإعلام البديلة وأدوات الاتصال الحديثة، والقنوات الفضائية، مثل قناة الجزيرة، والهواتف المحمولة والإنترنت، بدأ الشباب في العالم العربي يؤسسون لأنماط مشاركة جديدة مكنتهم من تجاوز العديد من القيود التي فرضتها النظم العربية علي حريات التعبير والتنظيم. لجأ الشباب إلي شبكات التواصل الاجتماعي وإلي المدونات للتواصل مع بعضهم بعضا، وللتعبير عن عدم رضائهم عن الأوضاع القائمة، وكذلك لتنظيم فعاليات احتجاجية نجحت في كسر حاجز الخوف الذي فرضته النظم العربية علي شعوبها لعقود طويلة.

التهيمش الاقتصادي والاجتماعي :

بالرغم من الثروات البشرية والمادية الهائلة التي تتمتع بها دول المنطقة، فإن النظم العربية أخفقت في تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. لا تزال قطاعات واسعة من الشعوب العربية تعاني الأمية، والبطالة، وتدني مستويات الدخل، وغياب الخدمات والمرافق، كما أن الفجوة بين الطبقات والمناطق في الدولة الواحدة في اتساع مستمر. وقد أدي تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وتفشي الفساد بشكل واسع، واستئثار نخب ضيقة مرتبطة بالسلطة بعوائد التنمية إلي تزايد حالة السخط السياسي والاجتماعي، وظهور حركات احتجاجية علي نطاق واسع في العديد من الدول العربية. ومع اتجاه عدد من الدول العربية إلي تبني سياسات التحرير الاقتصادي واقتصاد السوق في السنوات الأخيرة، تراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدول العربية بشكل ملحوظ، مما أثر بالسلب في قطاعات واسعة كانت تعتمد بشكل كبير علي دعم الدولة. وقد تزايدت بالتالي مظاهر الفقر والتهميش، واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل ملحوظ، وشهدت عدة دول عربية تصاعدا في وتيرة الاحتجاجات العمالية والفئوية المطالبة برفع الأجور، ومحاربة الفساد، والغلاء، وتحسين الظروف المعيشية للعمال.

ومن الملاحظ أن معدلات التنمية البشرية -طبقا لتقرير الأمم المتحدة الإنمائي- لا تعكس الواقع في عدد من الدول العربية. فالجماهيرية الليبية تأتي في الموقع 53، وهذا يمثل مستوي مرتفعا في التنمية البشرية. أما تونس، فتقع في الموقع 81، ومصر في الموقع 101.

وفي هذا الصدد، يقول جلال أمين: 'في (تونس وليبيا)، حدث تحسن في المؤشرات التي يعلق عليها الصندوق (النقد الدولي) أهمية، ويقيس بها النجاح والفشل، بينما حدث تدهور في المؤشرات التي يتجنب الصندوق الكلام عنها، ولا يعيرها اهتماما في توزيع عبارات الثناء أو النقد: معدل نمو الناتج القومي يرتفع، ومعه متوسط الدخل، والاستثمارات الأجنبية تزيد. (حدث هذا في تونس في العشرين سنة الماضية، وبدأ يحدث في مصر منذ ست سنوات). ولكن حدث التدهور الشديد في ثلاثة أمور لا يحب الصندوق أو المؤسسات المإلية الدولية الحديث عنها إلا مضطرة وهي: زيادة البطالة، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وزيادة انكشاف الاقتصاد أمام المتغيرات العالمية، ومن ثم زيادة تأثره بما يحدث في الخارج من تقلبات. كانت النتيجة أن تونس، بعد أكثر من عشرين عاما من تطبيق سياسة الصندوق، زاد الناتج القومي فيها بمعدل يفوق 5% سنويا (أي أكثر بنحوالخمس مما حدث في مصر)، ولكن زاد أيضا معدل البطالة بشدة، فأصبح أكبر من معدل البطالة في مصر بنحو 50% (14% من إجمإلي القوة العاملة بالمقارنة ب- 9% في مصر، طبقا للإحصاءات الرسمية التي يرجح أنها أقل بكثير من الحقيقة في الدولتين). كذلك، اتسعت بشدة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فأصبحت أكبر بكثير منها في مصر (أغني 10% من السكان في مصر يحصلون علي 8 أضعاف ما يحصل عليه أفقر 10% من السكان، بالمقارنة ب- 13 ضعفا في تونس)، طبقا لإحصاءات الأمم المتحدة عن سنة 2007/2008. والأرجح أن الحقيقة أسوأ هنا أيضا بكثير، إذ إن كثيرا مما يحصل عليه الأغنياء لا يري ولا يحسب'(4).

غياب الحريات السياسية :

تتعرض الدول العربية منذ نهاية الحرب الباردة، خاصة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، لضغوط داخلية وخارجية متزايدة لتبني إصلاحات سياسية وديمقراطية حقيقية تؤدي إلي إطلاق الحريات السياسية والمدنية، وحرية تشكيل الأحزاب والجمعيات والاتحادات، وإلي وضع ضمانات تضمن نزاهة الانتخابات وحرية الصحافة الاعلام. إلا أن الدول العربية لم تستجب لهذه الضغوطات، واكتفت بإدخال بعض الإصلاحات الشكلية التي لم تغير من مضمون المنظومة السلطوية. وحتي الدول التي سمحت بقدر أكبر من التعددية السياسية، مثل المغرب والكويت ومصر، فقد اعتمدت علي ترسانة واسعة من الأدوات القانونية والأمنية والإدارية لتقييد الحريات والأحزاب والإعلام ومنظمات المجتمع المدني. وقد أدي امتناع الدول العربية عن تبني إصلاحات سياسية حقيقية إلي انصراف المواطنين عن المشاركة في العملية السياسية، وإلي ضعف وترهل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.

كما نتج عن انغلاق المجال السياسي اتجاه المهتمين بالشأن العام، خاصة من أبناء الطبقة الوسطي المتعلمة، إلي المشاركة من خلال قنوات بديلة، وفي مقدمتها الحركات الدينية والعرقية والمناطقية، والتي تحولت إلي أهم فاعل سياسي في مواجهة النظم المستبدة في معظم الدول العربية. وفي السنوات الأخيرة، ظهر أيضا العديد من الحركات الاحتجاجية ذات أرضية سياسية ومطلبية نشأت خارج الأطر المؤسسية وخارج الشرعية القانونية، ورفضت تلك الحركات أن تشارك في المنظومة السياسية التي فرضتها الدولة علي معارضيها، وتبنت خطابا يتجاوز مطالب الإصلاحي التدريجي، وطالبت بالتغيير الشامل من خلال تعبئة الشارع في مواجهة النخب الحاكمة. كما لجأ الشباب في السنوات الأخيرة إلي استخدام الفضاء الإلكتروني، والمواقع الاجتماعية لتأسيس حركات احتجاجية شبابية أصبحت محركا مهما للتغيير في العديد من الدول العربية. وظهر في الآونة الأخيرة نمطان رئيسيان للتغيير في المنطقة. النمط الأول يقوم علي نجاح حركات ذات طابع عرقي أو طائفي أو ديني في تحدي سلطة الدولة المركزية، وفي الانفصال عنها بشكل كامل، كما حدث في حالة السودان، أو في تأسيس مناطق حكم ذاتي لا تخضع لسيادة الدولة المركزية، كما حدث في حالة الصومال، ولبنان، والعراق، واليمن، وفلسطين. أما النمط الثاني، فيقوم علي نجاح حركات احتجاجية ذات طبيعة أفقية لا مركزية تجمع بين فئات مجتمعية وسياسية مختلفة في إسقاط النخب الحاكمة، من خلال تعبئة شعبية واسعة النطاق. وقد شهدنا هذا السيناريو أخيرا في مصر وتونس، وهو مرشح لأن يتكرر في عدد من الدول العربية، ومنها المغرب والجزائر، وربما بعض دول الخليج. ويبدو لنا أن سيناريو الانتقال التدريجي والمنظم نحو الديمقراطية، الذي طرحه العديد من المحللين في سنوات سابقة، أصبح غير مطروح، وأن سيناريوهات التغيير من خلال الثورة أو الانفصال هي المطروحة الآن.

تراجع عوامل الاندماج الوطني :

شهدت الدول العربية في السنوات الأخيرة تصاعد الهويات الفرعية علي حساب الهوية الوطنية، خاصة في تلك الدول التي تتمتع بقدر عال من التنوع العرقي والديني والإثني. وقد نتجت هذه الظاهرة عن عدة عوامل مختلفة، في مقدمتها قيام النظم السلطوية لعقود طويلة بحجب الحريات الثقافية والدينية، وبحرمان جماعات مختلفة من حق التعبير بحرية عن هويتها وعن ثقافتها وعن عقيدتها، كما حدث في حالة الأمازيج في شمال إفريقيا، أو في حالة الأكراد والشيعة في العراق. كما حاولت النخب الحاكمة في العالم العربي أن تفرض الهوية الثقافية العربية السنية علي الجماعات الأخري من خلال المنظومة التعليمية والإعلامية المهيمنة. وكثيرا ما تعرضت الأقليات العرقية والدينية والإثنية في العالم العربي إلي ممارسات تمييزية أثرت ليس فقط في وضعها الثقافي، ولكن أيضا في وضعها السياسي والاقتصادي، كما حدث في حالة مسيحيي جنوب السودان، والشيعة في العراق والخليج ولبنان. وأخيرا، فإن انسداد قنوات المشاركة السياسية وتقييد الحريات السياسية والمدنية منعا هذه الجماعات من التعبير عن مطالبها بشكل شرعي وقانوني. وقد دفعت مظاهر التمييز الثقافي والسياسي والاقتصادي بعدد من الجماعات الفرعية في العديد من الدول العربية إلي الانسلاخ عن الجماعة الوطنية، والالتفاف حول هوياتها الفرعية، واتجاهها إلي الانفصال عن الدولة المركزية، وتكوين دول جديدة، كما حدث في حالة السودان، أو مناطق حكم ذاتي كما نشهد الآن في العراق. ومن المرجح أن تنتشر هذه الظاهرة في المنطقة العربية بشكل أوسع في السنوات القادمة، وقد تشهد المنطقة تفكك عدد من الدول القائمة، وقيام دويلات جديدة تعبر عن تطلاعات الفئات والجماعات التي عانت التهميش والإقصاء لعقود طويلة.

تصاعد دور قوي خارجية وإقليمية :

التطور الأخير الذي أثر بشكل كبير في استقرار المنظومة السلطوية في العالم العربي مرتبط بتصاعد دور الفاعلين الدوليين والإقليميين في السياسات الداخلية لدول المنطقة في السنوات الأخيرة، فالتدخل الخارجي ليس بجديد علي المنطقة العربية، ولكنه كان في فترات سابقة مرتبطا بالأساس بترسيخ النظام الإقليمي الذي وضعته القوي الاستعمارية في النصف الأول من القرن العشرين، وبدعم النظم السلطوية الموالية للغرب. ولكن في السنوات الأخيرة، دعمت قوي دولية وإقليمية مبادرات تخل باستقرارالنظام العربي القائم وبالنظم السلطوية في المنطقة، خاصة تلك التي تبنت مواقف مناهضة للولايات المتحدة. وقد تجلي هذا التوجه في سياق التدخل الأمريكي في الصومال، والاحتلال الأمريكي في العراق، ودعم مبادرات الانفصال في جنوب السودان، ومحاولات عزل حماس في قطاع غزة، وحزب الله في لبنان. وحتي النظم 'المعتدلة' تعرضت لضغوط خارجية متزايدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والربط بين الإرهاب وغياب الحريات لإدخال إصلاحات سياسية، وإطلاق الحريات السياسية والمدنية.

ومن ناحية أخري، شهدت الفترة الأخيرة تصاعدا في نفوذ قوي إقليمية صاعدة، مثل إيران وتركيا، بدأت تؤثر بشكل ملحوظ في مجريات الأمور في العالم العربي. وبالنسبة لإيران، فقد تولت ريادة المعسكر المناوئ للسياسات الأمريكية في المنطقة، وقامت بدعم نظم وحركات راديكالية، مثل نظام الأسد في سوريا، وحزب الله في لبنان، وحماس في فلسطين، والتمرد الحوثي في اليمن. مما دفع البعض للتحدث عن بدء حرب باردة جديدة في المنطقة بين المعسكر الراديكالي بريادة إيران وسوريا، والمعسكر المعتدل بريادة مصر والسعودية، والمدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية. وقد عزز هذا الصراع بين المعسكر المحافظ والمعسكر الراديكالي من نفوذ فاعلين غير اممين مثل حركة حماس وحزب الله في لبنان والتمرد الحوثي في اليمن ومن قدرتهم علي تحدي السلطة المركزية وعلي تاسيس جماعات فرعية منظمة ومسلحة تمتع بقدر عالي من الاستقلال الذاتي، مما دعا البعض إلي اتهام هذه القوي بتاسيس دولة داخل الدولة.

ثانيا- القوي المحركة للانتفاضات الشعبية :

شاركت أربع قوي رئيسية في الانتفاضات الشعبية التي شهدتها عدة دول عربية في الشهور الأخيرة وهي: الحركات الاحتجاجية الشبابية، والأحزاب والقوي السياسية المعارضة، وقوي عمالية ومهنية، وأخيرا قوي ذات أرضية طائفية وقبلية ومناطقية. شهدت الدول التي تتمتع بقدر عال من التجانس السكاني، مثل تونس ومصر، حراكا علي أرضية سياسية وطبقية، شاركت فيه قوي شبابية وسياسية ونقابية، بينما شهدت دول تعاني استقطابا طائفيا أو قبليا أو مناطقيا، مثل ليبيا والبحرين واليمن، حراكا أوسع علي أرضية مناطقية أو طائفية. ورغم وجود اختلافات مهمة في طبيعة القوي التي قادت هذه الانتفاضات الشعبية ومثلت قوامها الرئيسي، فإن مطالبها تشابهت إلي حد بعيد. ركز الثوار والمتظاهرون علي مطلبين رئيسيين هما الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وغابت المطالب ذات الصبغة الطائفية والمناطقية، وذلك بالرغم من محاولة النظم الحاكمة قولبة هذه الثورات في إطار طائفي، كما حدث في اليمن والبحرين، أو في إطار مناطقي كما حدث في ليبيا.

وكان الشباب -خاصة المتعلم والمستخدم لتقنيات الاتصال الحديثة- في مقدمة القوي التي دعت إلي انتفاضات شعبية في مواجهة الفساد والاستبداد، حيث لعب دورا مهما في إدارة وقيادة هذه الانتفاضات. وليس من قبيل المصادفة أن تكون واقعة إشعال الشاب محمد بوعزيزي النار في نفسه هي التي أطلقت الثورة في تونس والمنطقة العربية، حيث تجسد قصته مأساة فئة واسعة من الشباب المتعلم والمتعطل عن العمل في العالم العربي.

أما الأحزاب والقوي السياسية، فقد أعلنت تضامنها والتحامها مع الانتفاضات الشعبية، لكن من الملاحظ أنها لعبت دورا تابعا لدور القوي الشعبية الشبابية. فلم تبادر النخب السياسية بالدعوة إلي هذه الانتفاضات الشعبية، بل في بعض الأحيان تأخرت في الإعلان عن تأييدها للقوي الشبابية، كما حدث في الحالة المصرية والحالة التونسية. ولكن مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات وانضمام كتل اجتماعية مهمة إليها، تراجعت الأحزاب عن حذرها، وأعلنت التحاقها بالحراك الشعبي. وقد رأي البعض في موقف الأحزاب والقوي السياسية محاولة ركوب موجة الاحتجاجات الشعبية، واختطافها لصالح مصالحها الخاصة.

لعبت القوي العمالية والمهنية دورا مهما في تأييد الثورات الشعبية وتأجيجها. ففي الحالة التونسية، كان لاتحاد الشغل، وهو التنظيم العمالي الوحيد في تونس، دور رئيسي في إنجاح الثورة، حيث أعلن في مرحلة مبكرة عن انضمامه للانتفاضة الشعبية التي اندلعت بشكل عفوي. وقد أسهم انضمام الاتحاد بشكل كبير في تغيير موازين القوي، وفي تشجيع قوي سياسية ونقابية أخري، مثل الأحزاب والنقابات المهنية، ومنظمات حقوق الإنسان، علي إعلان تأييدها للثورة، مما دفع الجيش التونسي في النهاية إلي الانشقاق عن الرئيس بن علي وإجباره علي مغادرة البلاد. وفي الحالة المصرية، كان الحراك العمالي والفئوي الذي شهدته البلاد في السنوات الخمس الأخيرة من المحركات الرئيسية للثورة، وكان لانضمام قوي عمالية ومهنية دور مهم أيضا في دفع المؤسسة العسكرية للانشقاق علي مبارك، وإرغامه علي التنازل عن السلطة.

وفي الدول التي تعاني مظاهر الانقسام القبلي والطائفي، كان لقوي ذات أرضية طائفية أو قبلية أو مناطقية دور مهم في الحراك الشعبي ضد النظم الحاكمة. ففي اليمن، كان للحراك الجنوبي والتمرد الحوثي دور كبير في إضعاف الدولة وتحجيم شرعيتها، مما فتح المجال أمام قوي أخري، مثل الشباب الجامعي وأحزاب التحالف المشترك، للانضمام للقوي المطالبة بإسقاط النظام. وكذلك في ليبيا، كانت المناطق الشرقية التي تعاني التهميش والاستبعاد أول من تحرك ضد نظام القذافي. وأخيرا في البحرين، اتخذ الحراك الشعبي صبغة طائفية، حيث مثلت الطائفة الشيعية (التي تعاني الإقصاء السياسي والاقتصادي والتمييز الثقافي، وذلك بالرغم من أنها تمثل الأغلبية السكانية) القوام الأعظم للحركة الشعبية ضد بينة النظام السلطوية.

ثالثا- دراسات الحالة :

تونس :


كشفت الثورة الشعبية التي اندلعت في جميع أنحاء تونس عن سقوط النموذج التونسي، وذلك لأربعة أسباب رئيسية هي: النمو غير المتكافئ، ارتفاع معدلات البطالة في أوساط الشباب المتعلم، غياب الحريات السياسية، وأخيرا الفساد.

فاندلاع الثورة التونسية في ولاية سيدي بوزيد وانتقالها فيما بعد إلي تالة والقصرين، قبل أن تصل إلي المدن المركزية في تونس وصفاقس، يعبر بشكل واضح عن أزمة النمو غير المتكافئ، والفجوة الكبيرة بين المركز والأطراف. فقد تركزت 80% من الاستثمارات الحكومية والخاصة في المناطق الساحلية الشمالية والشرقية للبلاد، بينما عانت المحافظات الداخلية في الغرب والجنوب نقص الاستثمارات والخدمات والوظائف. ووصلت معدلات البطالة في ولاية سيدي بوزيد إلي 30%، مقارنة بالمتوسط الوطني الذي يتراوح -وفقا للأرقام الرسمية- بين 13% و16%. شهدت تونس أيضا اتساعا كبيرا في الفجوة الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، في ظل نمو طبقة رأسمالية استحوذت علي نصيب الأسد من ثمار عملية التنمية الاقتصادية(5).

كشفت ثورة الشعب التونسي أيضا عن أزمة البطالة التي يعانيها الشباب المتعلم. يمثل الشباب تحت سن 30 نحو نصف عدد سكان تونس، التي شهدت أيضا توسعا كبيرا في التعليم الجامعي، حيث ارتفع عدد الخريجين من 40 ألفا إلي 80 ألف خريج خلال السنوات العشر الأخيرة. إلا أن نسبة البطالة ارتفعت بشكل كبير في أوساط خريجي الجامعات، حيث وصلت إلي 30%، وتوجد فجوة كبيرة في تونس بين مخرجات العملية التعليمية ومتطلبات سوق العمل، مما يحول دون التعامل بفاعلية مع مشكلة البطالة في تونس.

وعلي الصعيد السياسي، كان النظام السياسي في تونس من أكثر النظم استبدادا وانغلاقا في العالم العربي، بينما الشعب التونسي من أكثر الشعوب تجانسا وتعليما وتقدما، مما خلق فجوة كبيرة بين تطلعات الشعب وحقيقة النظام السياسي. دفع ذلك الشباب التونسي إلي اللجوء إلي العمل الاحتجاجي المباشر، وإلي الانقلاب علي النظام السياسي القائم، بدلا من السعي إلي التغيير من خلال قنوات المشاركة الشرعية، مثل الأحزاب والنقابات والانتخابات، التي تحولت إلي هياكل شكلية خاضعة لسيطرة الدولة. كذلك، فإن تراجع المد الإسلامي ساعد علي تراجع حالة الاستقطاب، التي استخدمت لتبرير الاستبداد في مراحل سابقة.

كما كشفت الأحداث عن أزمة فساد النخبة الحاكمة في تونس، حيث أدي التداخل الكبير بين العائلة والسلطة والثروة، مع غياب آليات المساءلة والمحاسبة الديمقراطية، إلي تفشي الفساد بشكل واسع، وإلي ظهور طبقة طفيلية استخدمت علاقاتها بالسلطة لتحقيق ثروات طائلة. وقيل إن سبع عائلات مرتبطة بعلاقات قرابة أو مصاهرة بعائلة الرئيس بن علي، وفي مقدمتها عائلة زوجته ليلي الطرابلسي، أصبحت تتحكم في السياسة والاقتصاد. كما ترددت أنباء عن وجود خطط لنقل السلطة في مرحلة قادمة إلي زوجة أو صهر الرئيس، مما عمق من أزمة شرعية النظام السياسي في تونس في السنوات الأخيرة.

في تصورنا، فإن نجاح الانتفاضة الشعبية التي شهدتها تونس يعود إلي ثلاثة أسباب رئيسية. أولها: وجود ظروف موضوعية مواتية لانتهاء الحقبة السلطوية في تونس، وفي مقدمة هذه الظروف تمتع تونس بقدر عال من التجانس السكاني، وارتفاع معدلات التعليم والدخل والتنمية البشرية، وتراجع الاستقطاب الأيديولوجي بين الإسلاميين والعلمانيين، وظهور توافق حول الأجندة الديمقراطية بين مختلف القوي السياسية في تونس.

السبب الثاني الذي ساعد علي إنجاح الانتفاضة التونسية هو ظهور تحالف واسع بين مختلف فئات المجتمع التونسي في مواجهة نظام بن علي في الأسابيع الأربعة الأخيرة. فبالرغم من أن الانتفاضة بدأت علي أرضية مطلبية من قبل الشباب المتعطل عن العمل، فإن التفاف الأحزاب السياسية، والمنظمات الحقوقية، والاتحادات العمالية، والنقابات المهنية، والمثقفين، والفنانين حول الشباب وتضامنهم معهم وانضامهم إلي انتفاضتهم، كل ذلك ساعد علي توسيع نطاق الانتفاضة التونسية طبقيا ومناطقيا، مما أدي إلي تزايد الضغوط علي النظام بشكل غير مسبوق.

السبب الثالث، وربما الأهم الذي ساعد علي إنجاح الثورة التونسية، هو ظهور انشقاقات داخل النخبة الحاكمة، خاصة بين المجموعة المحيطة ب- 'بن علي' وأسرته وبين المؤسسة العسكرية، التي رفضت أن تستخدم القوة ضد المتظاهرين. وقيل إن الجيش في تونس منع أجهزة الشرطة بالقوة من إطلاق النار علي المتظاهرين، ولعب دورا مهما في إجبار بن علي علي التنحي عن منصبه.

اليمن :

تمثلت مطالب الاحتجاجات الشعبية في اليمن في القضاء علي الفساد، وتحسين الظروف الاقتصادية والمعيشية، والحد من الفقر والبطالة، والإصلاح السياسي، متمثلا في ضرورة إجهاض سيناريو التوريث. بدأت التظاهرات شبابية في منتصف يناير 2011، بالتزامن مع تظاهرات تونس. ولكن سرعان ما واجه الرئيس اليمني احتجاجات من قوي معارضة أساسية في اليمن.

ففي يوم 22 فبراير 2011، انضم مجلس التضامن الوطني - وهو تكتل سياسي قبلي يقوده الشيخ حسين الأحمر- إلي المعتصمين أمام جامعة صنعاء للمطالبة برحيل الرئيس .وازداد الوضع تفاقما بالنسبة للنظام اليمني يوم 26 فبراير، بعدما أعلنت قبيلتا حاشد وبكيل - وهما من أهم قبائل اليمن - انضمامهما إلي المظاهرات، احتجاجا علي قمع المتظاهرين المسالمين في صنعاء وتعز وعدن وسقوط قتلي وجرحي في المواجهات(6). وفي تطور لافت وغير مسبوق، أعلن عدد من قبائل مأرب والجوف وصنعاء والبيضاء وذمار الانضمام إلي الاحتجاجات السلمية في صنعاء، والتي تطالب بإسقاط النظام، من أجل الإسهام في كبح جماح الاعتداءات التي وصفتها بالهمجية التي تقوم بها أجهزة الأمن وميليشيات الحزب الحاكم ضد المتظاهرين. وقد جاء موقف القبائل - وفقا لبيان صحفي صادر عن 'مبادرة قبائل من أجل التغيير' - ردا علي الدعوات المناشدة لها بالتدخل للإسهام في كبح جماح الاعتداءات الهمجية من أجهزة الأمن وميليشيات الحزب الحاكم علي المتظاهرين سلميا في جامعة صنعاء والمدن الأخري.

وكان من أوائل التكتلات الأساسية التي انضمت إلي الاحتجاجات 'مجلس التضامن الوطني' - وهو تكتل سياسي قبلي - وأيضا حزب الإصلاح الإسلامي المعارض، الذي يقود تكتل 'أحزاب اللقاء المشترك'، وهو ائتلاف مكون أساسا من الحزب الاشتراكي، وحزب الإصلاح، وعدة أحزاب صغيرة. اتفقت هذه الأحزاب علي معارضة الرئيس اليمني رغم الاختلافات الأيديولوجية فيما بينها، ورغم وجود اتفاقات مسبقة بين أحزاب اللقاء المشترك والرئيس اليمني علي مزيد من التمثيل لها في البرلمان في الفترة السابقة، فإن قرار حزب المؤتمر الحاكم اعتماد تعديلات دستورية تتيح للرئيس اليمني البقاء مدي الحياة أدي إلي إعلان أحزاب اللقاء المشترك عن مقاطعتها للجلسات البرلمانية و انسحابها من البرلمان(7).

وهناك اختلاف في الرؤية بين مختلف الفصائل المعارضة للرئيس اليمني. فبينما تري أحزاب اللقاء المشترك ضرورة الحفاظ علي وحدة اليمن وترفع شعار 'لا للانفصال'، نجد تحرك الجنوب يعمل علي الانفصال. ولكن بالرغم من هذا الاختلاف، أكد الفريقان أن هدفهما واحد، وهو سقوط النظام. فقد دعا الرجل الثاني في قيادة الحراك اليمني الجنوبي مناصري الحراك إلي الالتحام بالتظاهرات المطالبة برحيل الرئيس علي عبد الله صالح، مقدما بذلك، مرحليا علي الأقل، مطلب إسقاط النظام علي 'فك الارتباط' مع الشمال(8).

أما الحوثيون في الشمال - وهي حركة شيعية من أتباع المذهب الزيدي، اعتمدت في السابق أسلوب النضال المسلح ضد النظام اليمني - فقد أعلنوا أنهم يؤيدون المظاهرات الشبابية، وسيناضلون معهم بصورة سلمية.

وقد استجاب الرئيس علي عبد الله صالح للكثير من مطالب المحتجين، بعد أن أكد أنه لن يترشح هو أو نجله لانتخابات رئاسية قادمة. و لكنه يظل (حتي وقت كتابة هذا المقال) متمسكا بموقفه في عدم التنحي الآن، وهو المطلب الأساسي للثوار بعد استخدام الحكومة للعنف. كما أعلنت الحكومة عن السير في إجراء الانتخابات النيابية في شهر أبريل القادم، بعد توقف عملية الحوار مع المعارضة(9).

ليبيا :

بدأت الاحتجاجات الليبية بدعوة عدد من الشباب ليوم غضب يوافق السابع عشر من فبراير 2011 (10). وأعلن المؤتمر الوطني للمعارضة الليبية وناشطون ليبيون انضمامهم ليوم الغضب الليبي، كما أيد الدعوة أيضا المعارضون الليبيون في المنفي. ثم ساند عدد من القبائل تلك التظاهرات. وسوف يكون دور القبائل في ليبيا محوريا في حسم الصراع الدامي الدائر هناك، حيث تزداد أهمية دور القبائل بسبب عدم وجود جيش قوي. ومن ضمن القبائل التي انضمت إلي الاحتجاجات: قبيلة ورفلة (وقد انضمت إلي الاحتجاجات يوم 20 فبراير 2011 وهي أكبر قبائل ليبيا)، وقبيلة ترهونة، وقبيلة الزوية في جنوب ليبيا في المناطق النفطية، وقبائل الطوارق في الجنوب، وقبيلة الزنتان، وقبيلة بني وليد، وقبيلة العبيدات، وأخيرا قبيلة المقارحة، وقبيلة أولاد سليمان(11). وحتي قبيلة القذاذفة، التي ينتمي إليها القذافي، بدأت تشهد انشاقاقات واضحة، منها مثلا استقالة أحمد قذاف الدم(12). رفعت المظاهرات العلم الليبي المستخدم في الحقبة الملكية التي امتدت ما بين 1951 وحتي انقلاب القذافي في عام 1969 . ومن غير المتوقع أن يلعب الجيش الليبي دورا حاسما في الأحداث، حيث عاني طوال
حكم الزعيم القذافي إهمالا، لخوف الأخير من قيامه بانقلابات، ولم يزوده إلا بأسلحة قديمة، ولم يقدم له الذخيرة اللازمة، وركز القذافي علي الميليشيات والقوات الخاصة التي تعرف بالكتائب، التي يقودها الموالون له
.

لم تتركز الاحتجاجات الليبية في ساحة واحدة، أو حتي ساحات، ولكن الدولة ككل مثلت ساحة للكر والفر بين العقيد القذافي والثوار. فبعد تحرير بني غازي من قبل الثوار، تم تشكيل 'المجلس الوطني الانتقالي المؤقت' ليكون الممثل الشرعي للشعب الليبي وواجهة للثورة الشعبية المتواصلة. وسارع الثوار إلي السيطرة علي مناطق أخري في مدينة الزاوية ومدينة رأس لانوف النفطية ذات الأهمية الشديدة بسبب وجود العديد من آبار النفط بها.

وقد استخدم القذافي والميليشيات التابعة له الأسلحة الثقيلة، والقذف الجوي، والدبابات لمواجهة الثوار ولاستعادة المناطق التي تم تحريرها. كما لجأ القذافي إلي استجلاب مرتزقة من الدول الإفريقية المجاورة من أجل محاربة الثوار. وقد أدت المواجهات بين ميليشيات القذافي والقوي المناهضة له إلي سقوط آلاف القتلي والجرحي. وقد أدانت الدول الغربية والأمم المتحدة بشدة ما قام به القذافي تجاه المدنيين، وهو ما لم يحدث بالنسبة لأية دولة عربية أخري شهدت تظاهرات. بل والأكثر من ذلك أن المحكمة الجنائية الدولية أكدت أنها ستخضع الزعيم الليبي للتحقيق بسبب جرائم ارتكبتها قواته(13). ومع اعتراف فرنسا بالمجلس الوطني الانتقالي المؤقت كممثل شرعي للشعب الليبي، وموافقة مجلس الأمن وقادة الغرب علي تطبيق الحظر الجوي علي ليبيا، بتأييد من جامعة الدول العربية، دخلت القضية الليبية منعطفا آخر. فهناك دعم من الغرب للثوار علي حساب القذافي. فانهيار نظام العقيد بات شبه مؤكد، ولكن لم تتضح بعد معالم النظام الذي سيحل محل نظام الجماهيرية الليبية الذي ابتدعه العقيد القذافي، وظل يحكم به البلاد لفترة طويلة.

البحرين :

البحرين دولة ذات أغلبية شيعية، يحكمها نظام سني يحصل علي دعم من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تستضيف البحرين الأسطول الخامس الأمريكي، كما تحصل علي دعم من دول الخليج العربي أيضا. وقد اندلعت الاحتجاجات بشكل خاص بين الأغلبية الشيعية لإسقاط الدستور، وإقامة دولة ملكية دستورية، وطالب المحتجون بتغييرات سياسية واقتصادية جذرية، بما في ذلك إعطاء سلطات أوسع للبرلمان، وكسر سيطرة الملك علي المواقع المهمة في السلطة. وهذه الاحتجاجات ليست بالجديدة، فقد شهدت البحرين في السنوات السابقة تظاهرات - أقل عددا وتأثيرا بالطبع عن الاحتجاجات الحالية - للمطالبة بعدم تجنيس الوافدين السنة بالجنسية البحرينية. يذكر أن الأغلبية الشيعية في البحرين، التي تشكل 70% من عدد السكان، تشكو منذ فترة طويلة من تمييز النظام الحاكم ضدها، خاصة فيما يتعلق بالتجنيس، والسكن، والوظائف(14).

بدأت الاحتجاجات في البحرين، بعد أن ظهرت دعوات علي مواقع تويتر وفيس بوك لتنظيم 'يوم غضب' في المملكة يوم الاثنين 14 فبراير 2011، مستلهمة ثورتي تونس ومصر، وذلك للمطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية. ثم تطورت المطالب حتي اتخذت المظاهرات بعدا طائفيا بصورة أكبر(15).

ومع بداية الاحتجاجات الشبابية، وبعد المواجهات الدامية بين الشرطة والمتظاهرين، انسحب نواب جمعية الوفاق الشيعية من المجلس النيابي، لكن الجمعية لم تنضم إلي تحالف شيعي متشدد يدعو للإطاحة بالملكية وإقامة جمهورية. هذا التحالف - الذي يضم جماعات شيعية أصغر، هي تيار الوفاء الإسلامي، وحركة حق، وحركة أحرار البحرين - رفض الاشتراك في حوار مع كتل سياسية سنية(16).

طالب البعض، وأكثرهم شيعة، بإقالة رئيس الوزراء، وهو أقدم رئيس وزراء في العالم، كما طالبوا برئيس وزراء شيعي، وقد رفض سنة البحرين ذلك. وهذا ما أكده تجمع الوحدة الوطنية - الذي يضم أطياف الشارع السني- بالبحرين، فقد رفض إقالة الحكومة الحالية شرطا لبدء الحوار الوطني تحت رعاية ولي العهد البحريني، وهو ما كانت القوي الشيعية قد طالبت به، في الوقت الذي تواصلت فيه المسيرات المطالبة بإصلاحات سياسية(17).

شارك الكثير من الطوائف في تلك التظاهرات، ومن بينها يسار وسنة، ولكن الأغلبية كانت شيعية. ولمواجهة ادعاءات الحكومة بأنها تظاهرات شيعية مدعومة من الحكومة الإيرانية، فقد هتف المشاركون بهتافات 'لا سنية ولا شيعية، فقط بحرينية'. كما رددوا هتافات تدعو إلي الوحدة، بينها 'إخوان سنة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه'، و'لن تخمدوا أنفاسه .. محمد البوفلاسة'، وقد اعتقل هذا المتظاهر السني بعد إلقائه خطبة في دوار اللؤلؤة( 18). وقد تعاملت قوات الشرطة مع ذلك بمنتهي العنف، مما أسفر عن مقتل وإصابة البعض. تطور الأمر بعد ذلك، حيث شارك زهاء 30 ألف بحريني في الاحتجاجات، من بينهم سائقو سيارات الإسعاف، الذين شاركوا في نقل وإسعاف المصابين في عملية إخلاء دوار اللؤلؤة في بداية التظاهرات. كما تظاهر المعلمون ممثلين في (جمعية المعلمين البحرينية). شهدت البحرين أيضا إضرابات عامة في المدارس والجامعات والعمل، ومسيرة للكتاب والمثقفين والفنانين، كما كانت هناك تظاهرات أمام مبني البرلمان. ثم أعقب ذلك مسيرات لتأكيد الوحدة بين السنة والشيعة.

في بداية الاحتجاجات، أعلن الشيخ حمد بن عيسي آل خليفة، ملك البحرين - في محاولة لنزع فتيل التوتر - أنه سيمنح كل أسرة بحرينية ألف دينار (2650 دولارا) بمناسبة الذكري العاشرة لميثاق العمل الوطني، إلي جانب منح أخري، والإعلان عن مشاريع خدماتية بمختلف المناطق. وبعد تصاعد الاحتجاجات، تم الإفراج عن عدد كبير من معتقلي الشيعة، وعودة كثير من المعارضين الشيعة إلي البحرين من المنفي، وتم الإعلان عن إسقاط 25% من القروض الإسكانية علي المواطنين. وبعد مواجهات بين الشرطة والشعب، والتي أسفرت عن الكثير من المصابين والجرحي والقتلي، تمت إقالة وزير الداخلية، كما انتشرت مدرعات الجيش في شوارع المنامة بعد مقتل أشخاص جراء استعمال قوات الأمن الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي. كما أقال ملك البحرين حمد بن عيسي آل خليفة أربعة وزراء بوصفهم 'وزراء تأزيم'(19).

اشترطت قوي المعارضة التي يتزعمها الشيعة استجابة الحكومة لأربعة 'مبادئ' قبل الدخول في الحوار الذي دعا إليه العاهل البحريني، الملك حمد بن عيسي آل خليفة، أهمها إلغاء دستور عام 2002، وانتخاب مجلس تأسيسي يقوم بوضع دستور جديد للبلاد.

وقد تصاعد ميل بعض المجموعات الشبابية إلي المطالبة ب-'إسقاط النظام'، فأصدرت جماعة 'شباب 14 فبراير' - تاريخ بدء الاحتجاجات - بيانا تضمن المطالبة بإطاحة نظام آل خليفة القمعي. ودعت إلي محاكمة مهاجمي التظاهرات السلمية، وقيام حكومة منتخبة، ونزع الجنسية عن الأجانب الذين حصلوا عليها. وفي دوار اللؤلؤة، ترددت للمرة الأولي شعارات وهتافات تطالب بإلغاء الملكية.

وفي مواجهة هذه الاحتجاجات، طلب ملك البحرين من قوات مجلس التعاون الخليجي التدخل لحفظ الأمن والنظام، ولحماية المؤسسات الاستراتيجية، مثل منشآت النفط والكهرباء والمياه(20)، مما أغضب الشيعة الذين وصفوا هذه الخطوة بأنها بمثابة إعلان حرب(21). يؤكد هذا التدخل اتفاق قادة مجلس التعاون الخليجي علي ضرورة منع الشيعة البحرينيين من الاستمرار في مطالبهم، حيث تري الأنظمة الخليجية أن صعود الشيعة في البحرين سيكسب إيران مزيدا من النفوذ، وسيهدد منظومة الخليج العربي كلها.

خاتمة :

في النهاية، فإن تحليل ما جري عمليا في الحالات السابقة، التي لم تكتمل 'ذروة الثورات' في بعضها، يشير إلي أنه رغم الاختلافات الكبيرة بين الدول العربية، فإنه يمكن تحديد 'محركات مشتركة' للتغيير، وقوي متقاربة في طبيعتها، أدت إلي تحريك الانتفاضات الشعبية في المنطقة. ورغم أن تلك الأحكام لا تزال مبكرة، فإنه علي الأقل سقطت مقولة 'الاستثناء العربي' بالنسبة للمنطقة عموما، وكل دولها تقريبا.

المراجع:

1) مراد مدلسي: 'الجزائر ليست تونس والجزائر ليست مصر':

http://www.tsa-algerie.com/ar/diplomacy/article_.3493html

تاريخ الاطلاع : (17 فبراير 2011)

2) http://gate.ahram.org.eg/NewsContent/40881/70/13/

تاريخ الاطلاع : ( 17 فبراير 2011)

3) Djavad Salehi-Isfahani and Navtej Dhillon، Stalled Youth Transitions in the Middle East: A Framework for Policy Reform، The Middle East Youth Initiative Work Paper، Number 8، October 2008.

4) جلال أمين، كيف نفس-ر الثورة التونسية؟

http://www.shorouknews.com/Columns/Column.aspx؟id=380080

تاريخ الاطلاع (21 فبراير 2011)



5) Country Data Report for Tunisia 1996-2009، World Bank.

6) شاهر الأحمد، خريطة الاحتجاجات في اليمن:

http://www.facebook.com/؟ref=home

تاريخ الاطلاع : (1 مارس 2011)

7) الصحف اليمنية: اللقاء المشترك يواصل مقاطعته لجلسات البرلمان اليمني .. واستقالة 7 نواب لصمت البرلمان عن احتجاجات اليمن:

http://www.youm.7com/News.asp؟NewsID=354682&

تاريخ الاطلاع : ( 19 فبراير 2011)

8) الحراك الجنوبي يقدم مطلب إسقاط النظام علي الانفصال ويلتحم بالتظاهرات:

http://forum.sh3bwah.maktoob.com/t.337973html

تاريخ الاطلاع : ( 14 مارس 2011)

9) حزب المؤتمر اليمني الحاكم يقرر إجراء الانتخابات

http://www.al-shorfa.com/cocoon/meii/xhtml/ar/features/meii/features/main/18/12/2010/feature-02

تاريخ الاطلاع: ( 14 مارس 2011)

10) القذافي يتهم ثوار مصر بالعمل لحساب الموساد:

http://zenadanet7.olm.org/t1598-topic

تاريخ الاطلاع: (9 فبراير 2011)

11) عصام بدران، قبائل ليبيا .. عامل حسم المواجهة (خريطة معلوماتية ):

http://www.onislam.net/arabic/newsanalysis/newsreports/islamic-world/128998-2011-02-21-10-50-.03html

تاريخ الاطلاع: (21 فبراير 2011)

12) ليبيا : سبع قبائل تنضم للثوار .. واستقالة النائب العام

http://www.masress.com/elbashayer/129870

تاريخ الاطلاع: (25 فبراير 2011)

13) لارتكابهم جرائم حرب بحق مدنيين، المحكمة الجنائية الدولية تقرر إخضاع القذافي وأبنائه للتحقيق

http://elakhbar.akhbarway.com/news.asp؟c=2&id=80134

تاريخ الاطلاع: (14 مارس 2011)

14) مشاهداتكم وتعليقاتكم: سقوط قتلي وجرحي في احتجاجات البحرين:

http://newsforums.bbc.co.uk/ws/thread.jspa؟forumID=13524

تاريخ الاطلاع: (10 مارس 2011)

15) مشاهداتكم وتعليقاتكم: سقوط قتلي وجرحي في احتجاجات البحرين:

http://newsforums.bbc.co.uk/ws/thread.jspa؟forumID=13524

تاريخ الاطلاع : (10-3-2011)

16) سياسيون في البحرين يسعون لتهدئة التوترات الطائفية:

http://news.egypt.com/arabic/permalink/.916831html

تاريخ الاطلاع: (10 مارس 2011)

17) سنة البحرين يرفضون إقالة الحكومة:

http://www.shorouknews.com/ContentData.aspx؟ID=400648

تاريخ الاطلاع: (3 مارس 2011)

18) مظاهرات حاشدة في البحرين للمطالبة بالتغيير:

http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/110225/02/2011_bahrain_unrest.shtml

تاريخ الاطلاع: (25 فبراير 2011)

19) مرجع شيعي: الحوار لأجل الحوار مرفوض .. ملك البحرين يقيل أربعة وزراء:

http://www.aljazeera.net/nr/exeres/e6188a0d-d6e6-4ea3-8e86-f6a3bd74ace.7htm

تاريخ الاطلاع: (10مارس 2011)

20) العربية: البحرين طلبت مساعدة مجلس التعاون الخليجي بعد احتجاجات:

http://ara.reuters.com/article/topNews/idARACAE72D0CB20110314

تاريخ الاطلاع: (14 مارس 2011)

21) البحرين طلبت مساعدة مجلس التعاون الخليجي والشيعة غاضبون:

http://www.swissinfo.ch/ara/detail/content.html؟cid=29719626

تاريخ الاطلاع: (14 مارس 2011)
------------------

* خبير بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام.
**معيدة بقسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد
والعلوم السياسية جامعة القاهرة
.

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا