<%@ Language=JavaScript %> علي عقلة عرسان اللهم آمنَّا في ديارنا
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

اللهم آمنَّا في ديارنا

 

علي عقلة عرسان

 

رحم الله كبار السن من أجداد وجدات وآباء وأمهات، فقد كنا نسمع منهم عبارة لم نكن ندرك مراميها وأبعادها ومراميها بدقة كافية، وكانت تمر على أسماعنا من دون أن تترك لها مرتسماً في وعينا، كان قائلهم يحوقل ويقول: " اللهم آمنا في ديارنا"، ونقرأ في عينيه الشفقة والأسى. ومع الزمن بدأنا نشعر بأن لهذه الجملة معاني وأبعاداً أكبر مما استقر في ذهننا، ولكن بقي ما تنطوي عليه من معاناة وآلام وشقاء لا يصل إلى مشاعرنا.. وبعد أن رأينا أشخاصاً يُشردون من بلدانهم ويجتازون الحدود إلى بلدان أخرى، طلباً للأمن ونجاة من الموت، وتنصب لهم الخيام في العراء، ويتعرضون لما يتعرضون إليه من جوع وعري وذل، أخذتنا عليهم الشفقة، وماج في أعماقنا الغضب على من عرضهم لذلك، ولما يلاقونه من بؤس، وبدأنا نستوعب معاني الأمن والأمان والاستقرار في الأوطان.. ومر مشهد بعد مشهد، وزمن بعد زمن اقترب خلالها المعنى من مداركنا وأحاسيسنا أكثر فأكثر، حين لجأ إلينا الكثيرون من أقطار شقيقة خوفاً من الموت وطلباً للأمن، نتيجة العدوان والبطش والظلم والصراعات الدامية، حيث كانوا يتركون بيوتهم وأملاكهم وبلدانهم ويفرون طلباً للنجاة، وليس لديهم ما يحمي أخص خصوصياتهم، ومن رأى غير من سمع، شق الألم قلوبنا لما أصابهم، وأصبح وقع الحدث هاجساً، والواقع قضية ذات أبعاد قومية وإنسانية وروحية وثقافية.. وبدأ وعينا بأبعاد المشكلة يتسع، وتحملنا لنوع من المسؤولية يلح، وثرنا على سياسة تعبث بالإنساني والأخلاقي، تشعل ناراً وقودها الناس، يغذيها الحقد والدم والقتل، وتحصد الأرواح ويدفع الأطفال والنساء والشيوخ ثمنها بالدرجة الأولى. ولم يكن يخطر لنا على بال أننا يمكن أن نتعرض نحن أو نفر منا إلى مثل ما يتعرض له أولئك الذين نغضب أشد الغضب من أجلهم ونواسيهم بما نستطيع تقديمه لهم من عون مادي ومعنوي، إلى أن أخذ قسم منا يذوق طعم الحصار، ويرتعد من الخوف، ويعبر حدود الوطن إلى أقطار أخرى طلباً للأمن والحياة، وخوفاً من بعض لحمه وبعض دمه.
في بلدي سوريا اليوم غضبٌ، وقلقٌ، وتوجسٌ خيفة، وشكوك، وتطلعٌ إلى استقرار وأمن من جوع وخوف، وللشعب فيها مطالب مشروعة يصدع بها، وتدق الأسماع وأبواب القلوب.. ولدى مسؤوليها استجابة تطلب حقها من التفهّم والوقت لتصبح وقائع على الأرض، وشكوى من التحريض والتخريب واللعب بالنار، ومن تدخل خارجي يريد أن يحرف الحراك الشعبي المشروع عن مساره الصحيح، ليضعف البلد ويضعها في أتون الفتنة، ويجعلها في متناول قوى ذات أهداف ومصالح تريد أن تصل إليها بأية وسيلة، وتفرضها بطرق شتى، غير أبهة بالأثمان والنتائج.. وفي بلدي ما يشبه فوضى الحراك والرأي والتصرف، فيها القاتل والمقتول، المتورِّط والمورَّط، ومن يريد رأس الآخر شرط أن يبقى بعيداً عن العقاب، ومن يصدر عن موقف وطني سليم ومن يسلك سلوكاً مدمراً تحت راية الوطنية وهو مسوق بغرور وعنجهية نحو أفعل ضارة إلى أبعد الحدود، وهناك من يرى مصالحه ومواقعه ورهاناته وثاراته هي الوطن والمصالح العليا للشعب.. وهيهات هيهات أن يكون كل أولئك على حق، فمن بين الأكثر من سبعين فرقة ضالة ذكرها الحديث الشريف هناك فرقة واحدة ناجية. وفي وطننا وخراجه، من بين أبنائه وأعدائه من يجد في ذلك كله فرصة ليستثمر في العنف والفساد والإفساد، ويشجع على نشر الفوضى.. ويتلاوَذ بالحقوق والحريات والمطلب المشروع والممارسة المرفوضة والأخطاء الفادحة.. بالدم والقتل والتخريب ليصل إلى ما يريد.. ولكن الخاسر الوحيد في ذلك كله هو سوريا: "البلد والشعب والقيم والمواقف والصلات والعلاقات".
لا يوجد في سوريا اليوم من لا يقول بالإصلاح، ويؤكد على أهميته ومصداقية التوجه نحوه وسرعة تحققه، وإن كان هناك خلاف حول آفاقه ومدى شموله لقضايا هي موضع نقاش، ولكن يوجد فيها من يقول بالتغيير الجذري ومن لا يقول به ولا يراه مطلباً شعبياً واسعاً وهم الكثرة.. والحقيقة الساطعة أن سوريا بعد السابع عشر من مارس 2011 لن تكون هي سوريا بعد كل ما جرى ويمكن أن يجري منذ ذلك التاريخ وحتى انجلاء الغمة عنها، بأقل الخسائر وأسرع الأوقات إن شاء الله.. فمن كان غافلاً أو متغافلاً تيقظ وتنبه، ومن كان ساكتاً على فساد وظلم وضيم رفع صوته، ومن كانت له جراح يطلب علاجها ويسعى لشفائها، ومن لحقت به مظلمة أخذ يطالب برفعها.. وهذا بحد ذاته، على الرغم من الثمن الذي تم دفعه، يشق نهجاً جديداً، ويحث الخطى في الاتجاه الصحيح، حيث تتعافى سوريا وتبرأ من أعراض وأمراض في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد..إلخ، وتسلك طريقها إلى الحرية والمساواة والديمقراطية.. إلى النهضة والتحرير والبناء والتنمية بوعي واقتدار، واستنارة ومثابرة، وتصميم وحسن تدبير.
إن كل وطني سليم الطوية والرؤية، يدرك جيداً أن استعداء الخارج على الداخل مرفوض ومدان وله مسمياته وصفاته في الأعراف والتقاليد، وعقوباته في القوانين والأنظمة، وكل من يملك حساً وطنياً سليماً، وانتماء اجتماعياً وقومياً صحيحاً يرفض الاستعانة بالخارج على الداخل، وبالأجنبي على الوطن، وينأى بنفسه عن ذلك كله.. وقد كان للمعارضة السورية موقف مشرِّف لا ينسى، في الوقت الذي اشتد فيه الضغط الأميركي على سوريا وتم تهديدها مباشرة بعد احتلال العراق وتدميره يوم قال وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية كولن باول، لسوريا مهدداً: " تذكروا أننا أصبحنا جيرانكم"، حيث رفضت المعارضة السورية في الداخل والخارج أن تنجر إلى الفخ الأميركي ـ إلا نفر لا يُعتَدُّ به منها ـ وقالت بعدم الاستعانة بالخارج على الوطن، والاستفادة من الدرس العراقي المر الماثل للعيان.. وقد قدَّرت الجهات الرسمية السورية هذا الموقف، وأكبرته وأنزلته المنزلة اللائقة به. ولا أظن أنه موقف يُنسى أو يزول من الذاكرة.
إن المسؤولية الأولى تقع على القيادات العليا والجهات الرسمية المعنية، حيث يجب عليها أن تبادر إلى إبداع الحلول واتباع الإجراءات والقيام بكل الأعمال والمبادرات التي من شأنها أن تحفظ للمواطن حرمة دمه وأمنه واستقراره وحقوقه وحرياته وكرامته، بعيداً عن المعاناة وعن أية ممارسات مرَضية ومسيئة من أي مصدر أتت ولأي سبب كانت، وبعيداً عن كل فوقية أو وصاية وعنجهية وغطرسة، من شأنها أن تخل بالمساواة والدستور والقوانين والأعراف الاجتماعية واللحمة الشعبية القوية التي هي عماد قوة سوريا، ورصيدها الذي تباهي به البلدان.
إن المطلوب اليوم في بلدنا العزيز، للخروج من المأزق الذي دخلنا أو أُدخلنا فيه، مبادرات خلاقة ومسؤولة وسريعة، تعزز الثقة، وتعيد الاعتبار للإنسان وحرياته وحقوقه وكرامته، وتلبي مطالبه المشروعة، وتحتضن كل أبنائه، وتأخذ بالتسامح من غير تفريط، وبالضبط القانوني من دون إفراط، وتؤلف بين القلوب، وتداوي الجراح، وتتفهم كل صغيرة وكبيرة وخلفياتها لتحيط بالأمور وتصل إلى الحلول البناءة، على ألا يكون ذلك على حساب الحقيقة والوضوح، وأن يرفع شأن الوطن ومصالح الشعب فوق كل مصلحة وشأن، أياً كان موقع صاحب المصلحة أو الشأن، وتقيم الحوار بين السوريين المعنيين به جميعاً وبالشأن الوطني العام حقيقة، على أسس ومنهج ورغبة في الانتقال إلى الموقع الصحيح والعادل والسليم الذي يقود آلية الحوار وتفرضه المصلحة العليا للوطن والشعب، من دون تمترس في المواقع وتشبث بالمواقف، وتراشق بالرصاص أو بالكلام.. وأن يتم ذلك وفق مبادئ وقيم ومسؤوليات والتزامات وطنية وأخلاقية، على أرضية من الثقة المتبادلة والرغبة الصادقة في الوصول إلى أمن من جوع وخوف، واستقرار وازدهار، ونهضة وقوة، على أرضية العلم والإيمان والعمل بهما، تعززان مواقع الوطن ومواقفه وحقوقه ومصالحه ومبدئيته، وسعيه لتحرير الأرض واستعادة الحقوق واحتضان كل أبنائه في كل بقاع الأرض، وجعلهم متساويين تماماً في الحقوق والواجبات في واقع الممارسات والمعاملات والمسؤوليات، وبناء العلاقات بين الأفراد والأحزاب والجهات المعنية بالشأن العام على أسس المواطَنة السليمة والشراكة الفعلية في القرار والمصير، وتحمل المسؤولية التامة حيال الوطن والمواطن، وتحكيم القانون بشأن كل من أراق دماً أو أضر بملك خاص أو عام، أو ارتكب فساداً وإفساداً، أو قام بعمل يعاقب عليه القانون..
ويبقى من قبل ذلك ومن بعده، وفوق ذلك وعلى رأسه: حكمة من يُعلي شأن الحكمة بإبداع ليجمع شمل الشعب، ويأسو الجراح، ويرتفع بسوريا إلى المستوى اللائق بها، وطنياً وعربياً ودولياً وإنسانياً.. فسوريا لا تستحق ما لحق بها خلال الأيام الماضية، وليس هو في مصلحة أي من أبنائها ومكوناتها وقواها.. لتعود وشعبها إلى أمن من جوع وخوف، وأمان من كل مكروه، و"نأمن في ديارنا"، وترتاح أرواح أجدادنا وجداتنا، وآبائنا وأمهاتنا.
وليس ذلك على السوريين بعزيز.

 

علي عقلة عرسان
كاتب وأديب سوري

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا