<%@ Language=JavaScript %> عبد الاله بلقزيز الخائفون من التغيير والخائفون على التغيير
   

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين          

 

للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                        

 
 

 

 

لا

للأحتلال

 

 

الخائفون من التغيير والخائفون على التغيير

 

 

عبد الاله بلقزيز

 

مَلَك “الشارع” العربي عصمته بيده . هي المرة الأولى منذ عقود لا يكون هناك من هو ولي عليه . استعاد الولاية على نفسه، أو هكذا بدا أمره في تونس ومصر على نحو من الوضوح لا مزيد عليه . وربما كانت تلك حاله في بدايات أمره في اليمن والبحرين وسوريا وليبيا قبل أن تنعق أصوات شؤم من الخارج فتملي عليه ما “ينبغي” عليه أن يفعله، وتعكر صفو غضبه الديمقراطي الأصيل . إن أول ما جهرت به الانتفاضات والثورات هو العصيان المادي الشامل لأوامر الصمت التي قضت بها مشيئة من قاموا على أمور شعوبنا من دون رخصة منها ولا استئذان . إن الكمية الخرافية من الهتاف وصرخات الغضب التي قذفتها ملايين الناس من دواخلَ تغلي كالمرجل، في شوارع المدن والعواصم والساحات العربية، إنما يفسرها ذلك التاريخ المديد من الصمت الذي ظل ينوس لعقود ويغشى الناس في حياتهم، ويفرض عليهم خُرْساً عمومياً، أو نطقاً بالهمس في لحظة الشجاعة .

الصمت لغة الخوف المنطوقة، لكنها من المنطوق الذي لا يسمع، بل يرى ويقرأ في العيون والأفعال والعلاقات . أنتج تاريخنا المعاصر، منذ جيلين، إمبراطورية خوف حقيقية . لعلها أضخم إمبراطورية سياسية خرساء في العصر الحديث . مفردة واحدة وحيدة مباحة فيها هي: “نعم” نعم للحاكم العربي، لابنه، لأحفاده، لولايات رئاسية تتعدد: مَثْنى وثُلاث ورُباع، ويزيد عددها بما ملكت الأيمان . نعم لسياساته، لتحولاته: من الاقتصاد الدولتي الموجه إلى الاقتصاد الحر، من حرب “إسرائيل” إلى مصالحتها أو مفاوضتها، من معاداة سياسات أمريكا إلى شراء رضاها بالكرامة الوطنية . إن لم يكن يسعك أن تستخدم هذه المفردة السياسية الوحيدة المباحة في إمبراطورية الخوف، فللخوف لغته التي بها تلوذ: الخرس! وإن أنت “شئت” أن تطلق الصمت، حين تخشى من أن تسأل عنه أو حين يكون الصمت، حين تخشى من أن تُسأل عنه أو حين يكون الصمت مُشتبَهاً فيه، فما عليك إلا التصفيق في معرض التأييد . فهي طريقة للإفصاح عن تلك ال “نعم” من دون تحريك لسان .

خرج التونسيون إلى الشوارع فأطاحوا “جدار برلين العربي” (الخوف) . اكتشفوا أنه وحده وُضِعَ حائلاً بينهم والتاريخ، فتدفقوا سريعاً إلى المستقبل جارفين عهد الطاغية وصحابته وآلِ بيته . التقط المصريون سرّ الثورة وإكسيرها سريعاً، فتدفقوا في الساحات ومنها إلى التاريخ بعد أن كنسوا الحقبة العجفاء التي امْتُهنت فيها آدميتهم وسُرق فيها مجدهم . ثم لم تلبث شعوب الأمة أن شربت من كأس الثورة، الواحد منها تلو الآخر، لكن يداً ما امتدت من هنا ومن هناك كي تُعَسر المفعول وتُدْخِلَ ملحمة التغيير في منعرجات وسراديب لا تنتهي .

غير أن الخوف الذي كان شريعة حاكمة تَفْرض على شعوبنا أحكام الذلة والصغار، وتكرس فينا حكم الطغاة والبغاة والغزاة، ما لبث أن ركب نفوس من أطلقوه في مجتمعاتنا وبمفعوله حكمونا، فلقد ارتعدت فرائص من كان الشرر يتطاير من عيونهم حتى بات احتشاد جمهور في ملعب رياضيّ يخيفهم فيحسبون له الحساب . وها هم يقفون اليوم مشدوهين أمام مشهد الحشود تحتل الساحات وتواجه الرصاص بالصدور العارية وكأنهم يكتشفون، لأول مرة في حياتهم، أنهم أمام شعوب حقيقية لا أمام رعية من رعاع! لم يألفوا أنْ يروا الناس يحتشدون إلا لاستقبالهم في المواكب الرسمية أو لتجديد مبايعتهم في استفتاءات التسعة والتسعين في المئة . ثم إنهم لم يألفوا أن تستمر الحشود لأشهر من دون أن يدبّ في الناس تعب أو أن يتسرب إلى نفوسهم يأس . ثم ها هم يسمعون الملايين تقول: “الشعب يريد . . .” فيعجبون كيف أصبح هذا الشعب يريد، ومتى ولدت في نفسه إرادةٌ وهم روّضوه طويلاً على أن يقبل، فقط، ما يريدونه هُمْ! ثم ها هو يريد “إسقاط النظام”، يقول ذلك ولا يمزح، يفعله بسخاء من دمه . أليس هذا أكثر ما يخيف؟!

يذوقون اليوم  ولا شماتة  من الكأس المُرّة التي تجرّعتها شعوبنا منذ أربعين عاماً . صنعوا إمبراطورية الخوف، فانقلبت عليهم الأحوال وصاروا من رعيتها بعد إذ كانوا سادة فيها . على الشعب، اليوم، أن يثبت لهم أنه لن يكون من طينتهم ولا على شاكلتهم حين يأخذ أمره بيده من صناديق الاقتراع . على الثورة أن تطمئنهم إلى القصاص العادل، القانوني، الذي يترفّع عن الثأر ويتوسّل الشرعية .

لكنّ ثمّة خوفاً ثالثاً يستبد بنا هذه الأيام: الخوف على الثورة وعلى مستقبل تضحيات شعوب أمتنا، ومصادر الخوف هذا ومبرراته ودواعيه مختلفة ومتنوعة ومشروعة . فنحن أينما أَجْلَنا البصر، ألفينا أمامنا ما يُخشى منه على الثورة والمستقبل: المكائد، والمؤامرات، والتناقضات، والأخطاء، والحسابات الصغيرة وما شاكل . مَنْ ذا الذي يتجاهل أن قوى الثورة المضادة تعيد تنظيم صفوف بقاياها لتعود إلى الغد من النوافذ بعد أن خرجت من الباب، وتنفخ في جمر الخلافات لإضعاف قوى الثورة؟! مَن ذا الذي يُنكر أن القوى الدولية التي أصابها في مقتل سقوط أنظمة عملائها تدخل، اليوم، على خط الأحداث كي تحفظ بقاء من تشاء، وكي تسقط من تشاء راكبة موجة المطالب الديمقراطية؟! من ذا الذي يستصغر شأن التناقضات المستفحلة بين قوى الثورة على عُدة الاشتغال السياسي في المستقبل: الدستور، الانتخابات، شكل النظام السياسي، علاقة الدولة بالدين؟! ثم من ذا الذي يستهين باحتمال حَرْف الانتفاضات الجارية عن مسارها الديمقراطي السلمي وجرها إلى العنف بهذه التّعِلّة أو تلك؟!

نعم، ثّمة ما يُخاف عليه مما يُخاف منه في هذه اللحظة الحرجة من اشتباك إرادة التغيير مع نقائضها في الدخل والخارج . واليقظة والحذر لا يكفيان في مثل هذه الحال إن لم يتسلح جمهور التغيير الديمقراطي برؤية سياسية رشيدة إلى المرحلة وتناقضاتها وتحدياتها .

***

بين نهاية خريف العام الماضي، حين أشعل البوعزيزي جسده فأضاء وطناً عربياً غارقاً في ظلام دامس، وبداية خريف هذا العام حيث مخاضات الولادة تشتد وآلامها تزيد، جرت مياه كثيرة تحت جسر العبور إلى المستقبل: سقطت أوثان سياسية عُبِدَتْ وقُدمتْ لها القرابين، وتكسرت أحزابها ومؤسساتها المزيفة على صخرة إرادة التغيير، واحتل الشباب التاريخ بعد إذ أخْرجوا منه بالقوة وسابق تصميم، وفرّ من الحكّام من فر، واختبأ منهم من اختبأ في الأوكار، واحترق منهم من احترق بالنار، وأحسن صنعاً من انحنى منهم أمام الإعصار، وسِيق من سِيق إلى المحاكمة ليقول الشعب عدالته فيه، وتعنّت آخرون في إجابة النداء، وهبّت خفافيش الظلام لتسرق الثورة من أهلها، وتدخّلَ الأجانب في مستقبلنا باليد أو باللسان، ودبّت الحياة في أوصال أحزاب تخشبت من فرط عطالة، وتكاثر نسلها التنظيمي في مجتمعات أخرى عاقر، وأطلت القبائل والطوائف والمذاهب بعد ردح طويل من الخمول كأنها “خلايا نائمة” بلغها الأمر بالتحرّك، وحافظت الانتفاضة على سلميتها في مكان وفقدت أعصابها في آخر، وتكاثرت عناوين المعارضة وقَل خراجها، وسكت رجال السياسة وتكلم الرصاص، وتزايد الشهداء ومواكب التشييع، وارتفع في الأعلى سؤال الغد واشتدّ القلق . . . إلخ . جرت مياه ذلك كله ومابرحت، لكن شيئاً واحداً وحيداً أحداً لا يتسرب إليه الشك، وهو اليقين الذي لا يقين يشبهه: إن غَدنا لن يُشْبه أمسنا، وإن القادم غيرُ الذي انصرم، فلقد تغير في حياتنا ويومياتنا الشيء الكثير

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

Rahakmedia - Germany

 

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا