<%@ Language=JavaScript %>  حارث النقيب قَتلْ النَضَرْ وامَّ قِرفَة مسألةٌ فيها نَظْر

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

قَتلْ النَضَرْ وامَّ قِرفَة مسألةٌ فيها نَظْر

 

 

حارث النقيب

 

 

   يبين لنا التاريخ عبر مساراته الشديدة التنوع وانعطافاته الحادة، وفي ضوء قراءته المعمقة والدقيقة، إنَّ أيٍ من الحركات الاجتماعية حديثة الولادة لا تستطيع الوقوف على قدميها، وبالتالي الصمود بوجه كل قوى الرفض واللفظ، والتطور لاحقا والسيطرة والاستحواذعلى عقول وافئدة الوسط الاجتماعي النابتة فيه اذا لم ترتكز على عامِلَيَّ الفكر والقوة التي أي القوة توفر المال وتستجلبه وبدوره يعاضد القوة ويخلقها.

   عند ظهور الاسلام كدين جديد بين عدد من الاديان الوثنية والتوحيدية في جزيرة العرب، استحكمه العاملان اللذان مر ذكرهما اعلاه. كانت فكرة التوحيد هي الاديولوجيا الجديدة التي بشر بها النبي محمد مجتمعه وبها واجه خصومه وحاججهم. وبين اسلوب الترغيب والترهيب وتصوير اشكال العذاب الذي ينتظر المجرمين ـ الذين لا تتقبل عقولهم الدين الجديد ـ والوعد والوعيد، والتفنن في تصوير حور العين وجنات عدن كثواب، كان السيف امضى قوة اقناع باعماله في رقاب من لم يقتنع بالبيان، حيث ابتدا النبي محمد في التعرض لقوافل واموال القوم عندما اخذ يرسل السرايا لغزو القوافل للحصول على المال الذي كان بامس الحاجة اليه  كالوقود او الطاقة المحركة لاي الة او كائن حي. كانت اول غزوة افلحت بعد سبع غزوات فاشلة ـ ولا بد من الاشارة الى ان الغزوات كانت تقوم بها القبائل بهدف السطو والنهب وسبي النساء، ولم يخرج الاسلام وقتها عن ديدن الحياة هذا، فهو قد ظهر في فترة زمنية محددة وبيئة اجتماعية لها نشاطها الاقتصادي الذي يحدد البنية الثقافية والمعرفية والنفسية لهؤلاءِ الناس، وبالتالي فالاسلام يتميز بطابعه التاريخي هذا ـ في الظفر بالمال والاسرى الذين يتم إفتدائهم بالمال، هي غزوة نَخْلة بقيادة عبدالله بن جحش، وكانت مهمتها كما ابلغهم النبي التجسس على قريش. وقعت في السنة الثانية للهجرة، ليلة الاول من محرم الشهر الذي اعتاد العرب تجنب القتال واستباحة الاموال والاعراض فيه. احتال احد اصحاب عبدالله بن جحش بحلق رأسه لتبيان انهم ذاهبون للحج، حينها أمِنوهم رجال القافلة الذين فوجئوا بالنبال والرماح والسيوف تعمل فيهم، فقتل البعض وافلت الاخر واُسر من بقي. وكما يشير ابن هشام في السيرة ج 2 ص260 ، والمقريزي في امتاع الاسماع ج1 ص62، وابن كثير في السيرة ص522, والطبري في التاريخ ج2 ص22. الى ان عمرو بن الحضرمي كان اول من قتله المسلمون، وعثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان اول من أُسر المسلمون، والغنائم التي عاد بها عبدالله بن جحش اول غنيمة غنمها المسلمون. قال عبدالله لاصحابه: إن لرسول الله مما غنمنا الخُمس، وكان هذا اول خُمس خُمِّس في الاسلام "قبل ان يفرض الله الخُمس من المغانم للنبي". قال النبي: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام". وَرَفَضَ ان ياخذ شيئاً من المغانم بل رفض ان تُقَسَّم، الا انه تراجع وقسمها لاحقا مع مغانم معركة بدر وكان له الخُمس كما قرر عبدالله بن جحش وكما قرر الله عبر سورة الانفال.

وعَيَّرتْ قريش محمداً واصحابَه لقتلهم واسرهم واستيلائهم على الاموال في الشهر الحرام وقالوا: "ان محمد يزعم انه يتبع طاعة الله، وهو اول من استحلّ الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رَجَب"  واصاب المسلمون حرجا كبيرا الى ان جائت الاية " يَسْالُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَاِم قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ..." والتي كانت تبريرا وحلا للحرج الذي وجد المسلمون انفسهم فيه.

واعتبرابن جحش وَمِنْ ثم محمد ان القتل أهون من زيغان المرء وميلانه عن طريق الرشد، وإلحاده عنه، ويقر بذلك ابن جحش مفتخرا بالقتل والاسر عبر ابيات له:

تَعُـدّونَ قَتلْاً في ألحرامِ عَظْـيمَـةً       وأعَظَمُ مِنْهُ لو يَرَى الرُشْدَ رَاشِدُ

سَقَينْا مِنْ إبنِ الحَضْرَمَيِ رِمَاحَنَا     بِنَخْــلَةٍ لـمـا أوْقَـــدَ ألحَـربَ واقِــدُ

دمـاً وأبـْنُ عَبـْدِالله عُثمَــانَ بَيَنَـنَـا       يُنَـازُغـهُ غِــلٌ مِـنَ القَــدِ عــانِـدُ

     هنا تنهض اسئلة عديدة: اولا لم يتم ـ كماتُبيِّن كل المصادر ـ دعوة هولاءِ الى دخول الاسلام وبالتالي كان لرفضهم المفترض مبررا لقتلهم واسرهم والاستيلاء على اموالهم. ثانيا ان اصحاب القافلة لم يتصرفوا باية طريقة توحي بان لديهم نية بالاعتداء على جماعة المسلمين الذين اخفوا هويتهم والغدر بهم. ثالثا كيف تم هذا التوافق العجيب بين عبدالله بن جحش في تحديده نسبة خمس الغنائم للنبي وبين جبريل او الله في تحديدهما لاحقا هذه النسبة في سورة الانفال الاية 41 والتي لاتزال سارية الى اليوم كابرز وسيلة لاستغلال فقراء الناس ونهبهم ولإثراء مايسمون "رجال دين" ومرجعيات تعتاش اساسا على هذا المال، وعلى بؤس حال الناس.  

      في السنة السادسة للهجرة ارسل النبي زيد بن حارثة على راس قافلة الى الشام، ولدى مرورها في منطقة بني فزارة، تعرضوا للقافلة فاصيب اصحابها بجروح بليغة حتىى ضنوا ان زيدا قد قضي عليه، ولما قَدِمَ"نَذرَ نِذراً ان لايمس راسه غسلٌ من جنابة حتى ياخذ بثاره من فزارة". وما ان شفي حتى بعثه النبي في جيشٍ، وبعد ايام التقى ببني فزارة، فَقُتِلَ مسعدة بن حكمة واُسِرَ عبدالله بن مسعدة، واُمَّ قِرفَة وابنتا لها. ولما قدم زيد الى بيت النبي كما يذكر الواقدي في كتابه المغازي ص 565 نقلا عن عائشة "فقرع الباب فقام اليه النبي يجر ثوبه عُريانا، مارايته عُريانا قبلها، حتى اعْتَنَقَهُ وقَبَّلهُ، ثم ساله فاخبره بما ظَّفْرَهُ الله".

   كان سَلَمة بن الاكوع هو الذي اسر ابنة اُمَّ قِرفَة، فذُكِر جمالها للنبي الذي قال لسَلَمة: "ماجاريةٌ اصبتها؟ قال: جارية يا رسول الله رجوت ان افتدي بها امراة منَّا من بني فزارة. فاعاد الرسول عليه مرتين اوثلاثا يساله حتى عرف سَلَمة انه يريدها فوهبها له، فوهبها النبي لخالِه الحَزن بن ابي وهب. [ اما أُمها فكان العرب يَضِربون بها المثل في العز والكبرياء في قولهم: "اعزّ من اُمَّ قِرفَة مازدتَ"، "وكانت في بيت شرف من قومها". "قتلها قيس ابن المُحَّسر اليعمري: ربط بين رجليها حبلا، ثم ربطهما بين بعيرين ثم زجرهما فذهبا فقطعاها، وهي عجوز كبيرة. فامر الرسول برأسها ـ اي قطعه ـ فدير به في المدينة ليُعلَمَ قتلها، ويصدق قول الرسول في قوله لقريش: ارايتم إن قتلت اُمَّ قِرفَة؟ فيقولون: ايكون ذلك؟".] وكان زوجها مالك بن حذيفة ابن بدر. المقريزي امتاع الاسماع ج1 ص270 وتاريخ الطبري ج2 ص133 والمغازي للواقدي ص564.

   واما قصةٌ النظر ابن الحارث، وهو قريب للنبي، فانها تكشف جوانب خفية عن طبيعة الصراع الذي جرى واشكاله. كان النظر ذا اطلاع واسع على تاريخ ملوك الفرس و اخبار انبياء اليهود ويعرف الكثير من الاحداث والقصص التاريخية إستقاها في الحيرة عند قدومه اليها. تلك المعرفة وذلك الاطلاع مكناه من ان يتحدث في مجالس قريش بطريقة تجذب اليه السامع." فكان اذا جلس النبي محمد مجلسا فذَّكّر فيه بالله وحذر قومه ما اصاب قبلهم من الامم من نقمة الله، خلفه في مجلسه اذا قام ثم قال: أنا والله يامعشر قريش أحسن حديثا منه، فهلم الي فانا احدثكم أحسن من حديثه".

   تزخر كتب التاريخ في الكثير من القصص والحكايات التي هي مزيج من الخرافات والاساطير. والخرافة هي الغالبة لخلوها من طابع القداسة وامتلاكها عنصر الدهشة وامتلائها بالمبالغات والتهويلات وخروجها بالحدث وعناصره من لحظة الواقع الى فضاء الخيال الماوارء الطبيعي. وما سيذكر بعد قليل شاهدا على ذلك.

   كان النبي يجلس الى غلام نصراني اسمه جبير، وكانت قريش تقول كما يذكر ابن هشام في السيرة: "والله ما يَعْلم محمداً كثيرا مما ياتي به إلاجبير النصراني." فجاءت الاية في سورة النحل"

"وَلَقَدْ نَعْلمُ أنَّهُمْ يَقُوُلُوَنَ إنَّمَا يُعَلِمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ ألَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَمِيٌ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌ مُبِينٌ".  

   تحدث خمسة رجال الى النبي من بينهم النضر، قالوا له: لو جعل معك يا محمد مَلَكٌ يحدث عنك الناس ويرى معك، فجاءت الاية في سورة الانعام"وقاَلَوا لولا اُنزِلَ عَلَيَهِ مَلَكٌ وَلَو أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الامرُ ثُمَ لايُنَظَرُونَ وَلَو جَعَلْنَاهُ مَلَكَاً لَّجعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسنَا عَلَيهِم مَا يَلبِسُونَ".

وبعد الحديث الذي داربين عتبة بن ربيعة الذي قْدَّمَ اغراءات قريش وبين محمد الذي رفض تلك الاغراءات. دعوه خلف الكعبة فتحدثوا اليه فرَّد كُلَ دعواهم ورفض اغرءاتهم، وتركهم، فقام معه ابن عمته عبدالله بن ابي امية، اُمه عاتكة بنت عبدالمطلب، فتحدث الى محمد عارضا عليه ما عرض القوم للتو قائلا:" فوالله لا اؤمن بك ابدا حتى تتخذ الى السماء ُسلما ثم ترقى فيه وانا انظر اليك حتى تاتيها، ثم تاتي بصكٍ معك اربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وايم الله أن لو فعلت ذلك ما ظننت اني اصدقك".

اما ركانة بن عبد يزيد فوالده هاشم ابن عبدالمطلب ابن عم النبي، دعاه النبي لدخول الاسلام فاجابه : لو كنت اعلم ان الذي تقول هو الحق لاتبعتك، فتحداه النبي مصارعة فقبل التحدي، فصرعه مرتين فتعجب من صرع النبي له، فاجابه النبي: "فأعجَبُ من ذلك إن شئتَ أن اُريكهُ إن اتقيتَ الله واتبعتَ أمري" قال ركانة: ما هو؟ قال النبي:"ادعو لك هذه الشجرة التي ترى فتاتيني"، فدعاها فاقبلت حتى وقفت بين يدي محمد، فقال لها: إرجعي فرجعت الى مكانها". فذهب ركانة الى قومه فقال: " يابَني عبد مناف، ساحروا بصاحبكم اهل الارض، فوالله ما رايت اسحر منه قط". ولرب سائل يسال: ما الذي منع محمد من ان يُري الذين تحدوه ايِّ من هذه القدرات الخارقة والامكانات التي يملكها والمتجازوة لحدود طبيعة العقل البشري؟ هنا تتبدى الخرافة في اوضح اشكالها، والتي تتكرر كثيرا في سياق الصراع الذي كان قائما لاعطاء الاحداث بعدا يستعصي على العقل السوي تقبله، واظهار قوة وارادة  القوى الماوراء الطبيعة الخفية المتحكمة بمصائر البشر والكون. واكساب الشخص المعني الذي قام بذلك التصرف صفات خارقة تجعله يتفوق على الاخرين في قدرة التحدي والمواجهة والصمود.

   وما حصل لابو جهل دليلا اخر على استحواذ الخرافة على فكر الكثيرين. اذ اقسم انه سينال من محمد بالقاء صخرة عليه، وما ان دنا منه بصخرته حتى رجع منهزما منتقعا لونه. فاخبرهم:" انه ما ان اقتْرَبتُ منه وهو يصلي حتى عرض لي فحل من الابل ما رايت مثله لا بحجمه ولا طول رقبته ولا انيابه وهَّم ان ياكلني. عندها نهض النضر وتكلم اليهم قائلا:" يامعشر قريش إنه والله قد نزل بكم امر ما اتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم، واصدقكم حديثا واعظمكم امانة، حتى إذا رايتم في صدغيه الشيب وجائكم بما جائكم به قلتم:ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد راينا السحرة ونفثهم، وعقدهم وقلتم: كاهن، لا والله ماهو بكاهن، قد راينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم وقلتم: شاعر لا والله ماهو بشاعر، قد راينا الشعر وسمعنا اصنافه كلها هزجه ورجزه، وقلتم: مجنون، لاو الله ماهو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا  تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شانكم: فإنه والله لقد نزل بكم امر عظيم".

   لقد انفرد النضر من بين جميع الذين حاججوا النبي وعارضوه في ابعاد تلك الاتهامات والشبهات ـ وهي في نتيجتها دفاعاً عن النبي وان لم يكن القصد هكذا ـ وذلك لادراكه ما الذي يقوله محمد، اضافة الى معرفته بالمصادر والعيون والمحاجر التي ياخذ منها محمد، وهذا ما ميزه عن اغلب القوم. يذكر ابن هشام: ان النضر" قال: فيما بلغني سانزل مثل ما انزل الله". ويواصل ابن هشام ان ابن عباس يقول: انه نزل فيه ثمان آيات" إذَا تُتْلَى عَلَيهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ألأَوَّليِنَ". كل التفاسير تذكر صراحة على ان هذه الاية في سورة القلم وما بعدها والسبع ايات التي قبلها تتحدث عن الوليد ابن المغيرة بالدقة، واكثرها يضيف اليه الاخنس بن شَريق والاسود بن عبديغوث. تفسير الجلالين وتفسير الرازي ج30 والجامع لاحكام القرآن للقرطبي ج21 وتفسير ابن كثير ج8 والدر المنثور للسيوطي ج14 وتفسير الطبري ج23 وروح المعاني لمحمود شكري الآلوسي ج29.

 وبعد الذي قاله النضر لقريش عن محمد، بعثوه وبعثوا معه عقبة بن ابي معيط الى احبار اليهود بالمدينة، ليسألوهم عن محمد. كونهم اهل الكتاب الاول وعندهم علم عن علم الانبياء. فوصلا يهود المدينة واخبروهم بما حُمِّلُوه، فاجاب اليهود: سلوه عن ثلاث امور فان اجاب فهو نبي وان لم يفعل فهو متقول. الاولى عن فتية ذهبوا في الدهر الاول ما كان امرهم؟ فانه قد كان لهم امر عجيب. الثانية رجل طواف قد بلغ مشارق الارض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ والثالثة عن الروح ما هي؟.

عاد النضر وعقبة واخبرا قريش بالمسائل الثلاث فجاءوا النبي وسالوه، فقال:"اخبركم بما سالتم عنه غدا"، فانصرفوا بانتظارالغد، الا انهم انتظروا خمس عشرة ليلة، بعدها جائهم الجواب من محمد: فكانت سورة الكهف جوابا للمسألتين، الاولى اهل الكهف، والثانية ذي القرنين، وسورة الاسراء جوابا للمسالة الثالة حول الروح.

جاء الجواب ـ للمسألة الثالة من خلال نص الاية 84" وَيَسْئلُونَكَ عَنِ ألرُّوحِ قُلِ ألرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِي وَمَا اُوتِيتُم مْنَ ألعِلْمِ إلَّا قَلِيلاً" ـ والذي يتخفى فيه عجز الاجابة على مسالة عصية على فهم عقل انسان ذاك الزمان، ولو كانت هناك ادنى معرفة عنها عند من وضع النص لأُخْبِرَ القوم بها، بل والامم كلها، فتم ترحيلها الى مجهول ككل المسائل المُرَحْلة.

   لم يغفر النبي للنضر ولا لعقبة مافعلاه، خصوصا كشف النضر للمصادر التي كان يستقي منها النبي اهم واغلب المعلومات التاريخية فيما يخص انبياء اليهود والاحداث المرتبطة بهم وبالتوراة كونها الوعاء الذي كان ينضح بما يحمل في هدأة ليل الوحي والايحاء الذي لا يبعد ابدا عن عقل محمد وذكائه وقدرته في اقنتاص اللحظة وانتضاء الفكرة من جب ـ جبريل ـ عقلٌ ينسج رداءاً من بيانِ لمعاني فكر ومشروع، عَمِلَ على تحقيقه. وكما يقول ابن المقفع: الفكرة مخ العمل.

   في غزوة بدر، أسَرَ المسلمون  44 اسيرا، كُلهم من قريش، والعديد منهم يرتبط بعلاقة نسب قوية مع المسلمين ابتداءاً من محمد الى ابعد مسلم. ففيهم الاب والاخ والعم وابن العم وزوج البنت وابن الاخت. وقبيل المعركة قال محمد لاتباعه: إن لاقيتم العباس ونوفل وشقيقه ابو سفيان"عتبة" اولاد الحارث بن عبدالمطلب، وعقيل بن ابي طالب ـ عم النبي واولاد عمه ـ لا تقتلوهم انهم اُجْبِروا على الخروج للقتال، فقال حذيفة بن عتبة: انقتلُ آبائنا وابنائنا وإخواننا وعشيرتنا، ونترك العباس، والله لئن لقيته لالحِمنّه السيف. فقال النبي لعمر لما سمع بذلك:يا أبا حفص ايضرب وجه عم رسول الله.

    كان الوحيد الذي اوصى النبي بعدم قتله خارج بني عبد مناف هو أبا البختريّ بن هشام الذي قد دفع القوم عن ايذاء النبي ولم يبدر منه اي فعل يسئ له وكان ممن نقض الصحيفة التي كتبتها قريش ضد محمد واتباعه، اي انه خرق حصار قرش لمحمد. لقيه المُجَذَّرُ بن ذياد الذي قال له: ان النبي قد نهى عن قتلك فقال ابا البختري: وزميلي؟ ـ وهو جُنادة بن مُليْحة ـ الذي كان معه، فرد المُجَذَّر: لا والله لانترك زميلك، لم يامرنا النبي بذلك، فرد المُجَذَّر لأموتَنّ انا وهو حتى لاتتحدث عني نساء قريش، وابى إلا القتال وهو يرجز قبل ان يُقتل مع زميله:

لَنْ يُسلْمَ ابنُ حُرَّةٍ أَكِيلَهْ       حَتَّى يموتَ أو يرى سَبيلَهْ

   قَدِمَ المسلمون يهنئون النبي بالنصر في بدر، وكان الى جواره سَلمَة بن سلامة الذي قال لهم: "ما الذي تهنئوننا به ؟ والله إن َلقينا إلا عجائز صلعا كالُبدن المعلقة فنحرناها، فتبسم النبي ثم قال:اي ابن اخي اؤلئك الملأ".

اذا كان القوم بهذا المستوى من الهشاشة والضعف والخور فلماذا ارسل الله خمسة آلاف من الملائكة لنصرة المسلمين؟، تلك الملائكة التي ما كانت تعرف كيف تقتل الآدمييون، كما يذكر ـ القسطلي في المواهب اللدنية نقلا عن ابن الانباري ج1 ص 186 ـ فعلمهم الله بقوله في سورة الانفال الاية 12"فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان". والملائكة التي لاتعرف كيف تقتل وتقاتل، هل ستعرف كيف تميز بين الاعناق والاكتاف والبنان والارداف؟  أمْ أنَّ الرواية ينبغي لها ان تتوافق وتنسجم وغيبية المصادرالتي يستمد منها مواضيعه وما توحيه من القدرات الخارقة، وتتسق والرؤية الغيبية للدين الجديد. 

خلق وجود الاسرى والغنائم ارباكا واشكالا للنبي ولعموم المسلمين. كان ضمن الغنائم عشرين اوقية ذهب أُخذت من العباس الذي قال: افتدي نفسي بهذه الكمية من الذهب، اجابه ابن اخيه محمد: هذه هبة من الله وهبنا اياها. واُعْلِن على لسان النبي "إنَّ مَنْ قَتَلَ قتيلا فله سَلبه ومن اسر اسيرا فهو له".الواقدي 99.

   وقد احتار النبي وبقية المسلمين للطريقة التي ينبغي لهم التعامل بها مع الاسىرى. فكان ابو بكر أمْيّلَ الى التسامح والعفو  وطلب الثواب من الله، بالتمنن عليهم، بينما كان موقف عمر بن الخطاب اكثر قسوة وطلبا لإعمال السيف في الرقاب، وقال للنبي دَعْني اقتل قريباً لي وَدْع عليا يقتل اخاه عقيل والحمزة يقتل اخاه العباس كي لا تكون هناك مداهنة. اخذ النبي برأي ابو بكر، بعد ان عاش اصعب ساعة في حياته كما تروي المصادر. ليلتها بات ساهرا، فقال له اصحابه: مالك لاتنام "يارسول الله " فقال : سمعت تضور العباس في وثاقه، فقاموا فاطلقوه.

وعندما رأت سودة زوجة النبي ابو يزيد، احد الاسرى تجاه بيتها وكانت يديه مكبلة الى عنقه قالت له: "ابا يزيد اعطيتم بايديكم، ألا مُتّم كراماً. ولم تعلم ان محمداً يسمعها، فقال لها ياسودة ، أعلى الله ورسوله؟ فقالت: يارسول الله ما ملكت نفسي حين رايت ابا يزيد مكبلة يداه الى عنقه". الواقدي المغازي 118 

اما زوجته الاخرى ام اسلمة حين عرفت بابناء عمومتها بين الاسرى جاءت النبي وقالت له : "ان بني عمّي طلبوا أن يُدخل بهم عليّ فأُضيفهم، وأَدهن رؤسهم، وألُمّ من شَعَثهم، ولم أُحب أن افعل ذلك حتى أستأمرك. فقال لها: لست أكره شيئا من ذلك، فافعلي ما بدا لك".

   كان من بين الاسرى زوج زينب ابنة النبي، ابو العاص ابن الربيع، المعروف بماله وبامانتة ومكانتة في قريش، وهو إبن هالة، اخت خديجة زوجة النبي. ارسلت زينب تفتديه بقلادة لها هي هدية من امها خديجة، فلما رآها النبي ـ القلادة ـ رقّ لها رِقَّة شديدة، وقال: "إن رايتم ان تطلقو لها اسيرها وتَرُدوا عليها الذي لها فافعلوا. فاطلقوه وردواعليها الذي لها". الطبري ج2 49

   قتلت عصماء بنت مروان التي كانت تعيب الاسلام كما يقال وتحرض على النبي. فنذر عمير بن عدي وهو ضرير إن عاد النبي من بدر ليقتلها. فجائها ليلا واولادها حولها نيام، وكانت ترضع رضيعها، فجسها بيده ونحى الرضيع ووضع سيفه على صدرها حتى انفذه من ظهرها. فجاء الى النبي وصلى معه الصبح، فقال له النبي: اقتلت ابنة مروان؟ قال : نعم يارسول الله"قال: نصرت الله ورسوله ياعمير. فقال : هل علي شئ من شانها. فقال النبي: لا ينتطح فيها عنزان".المقريزي امتاع الاسماع ج1 120

   حصل كل هذا بعد ان تم قتل النضر ابن الحارث وعقبة بن ابي معيط، بعد اسرهم، وعندما امر النبي بقتلهم، قال عقبة بن معيط للنبي: فمن للصبية يا محمد؟ يعني بناته. قال "النار"، اسره عبدالله بن سلمة، وقتله عاصم بن ثابت.

   ونظر النبي الى النضر بن الحارث الذي اسره المقداد لما رآه ضمن الاسرى الذين عُرِضُوا عليه نظرةً فيها الموت المؤكد، فقال النضر لرجل الى جواره: محمد والله قاتلي، لقد نظر الي بعينين فيهما الموت، فرد الرجل، ما هذا منك الا رعب. فقال النضر  لمصعب بن  عمير: كلم صاحبك فليجعلني كاحد اصابي، إن قُتلوا قُتلت، وإن منّ عليهم منّ عليّ. قال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا.

وعندما امر النبي بقتله، قال المقداد: اسيري. قال النبي: أنسيت ماقال هذا الفاسق عن الاسلام؟ ـ كان المقداد يامل في الحصول على المال الذي سَيُفدى به النضر ـ قال النبي: اضرب عنقه، اللَّهم أَغَّنِ المِقداد من فضلك.

فقتله علي بن ابي طالب بالأُثَيْل على بعد خمسة ليالٍ من المدينة. عندها قالت قتيلة بنت الحارث اخت النضر تبكي اخيها وتنعاه بدموع لا يتوقف سيحها، وبقلب لايهدأ وجده وشغفه في تعلقه بذكراه، وتَعْرج لوصف محمد كونه من كرام القوم ـ والكرام هم الاقرب والاقدر والاجدر بالعفو والمسامحة ـ معاتبة اياه باسلوب اقرب الى النقد اللاذع الذي لا يترك مجالا للتبرير او حتى القدرة على المحاججة، مذكرة النبي بان النضر من اقرب اقربائه، وهو الاحق بالعتق، وان محمدا اقدر على التمنن عليه. عندما سمع النبي بالقصيدة قال:" لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه". سيرة ابن كثير ص590

يـا راكـبــاً إن الأثـيـل مــظــنـةٌ          من صُبحْ خامسةٍ وانتَ موفـقُ

أبـْـلـغ بــه مــيـتـاً بـأن تـحـيـةً          ما إن تَزال بها النجائبُ تخفـقُ

مني ألـيكَ وعــبـرة مسفـوحـة         جـادت بواكـفها واخـرى تخـنق

هــل يسمعن النضر إن ناديـته         أم كــيف يـسمع ميت لا ينطــق

أمحمد يا خير ضـنئ كـريـمــة         في قومها والفـحل فحل معـرق

ما كان ضرك لو مننت؟ وربما         من الفتى وهـو المغيظ المحنق

أو كنت قابـل فـدية فـلـينـفـقـن         بـاعــز ما يغـلـو بـه مـا يُـنـفـق

فالنضراقرب من اسرت قرابة         واحـقـهـم إن كــان عتـق يعتـق

ظلت سيوف بني امـية تنوشه         لله ارحــــام هنــــاك تـشــــفــق

صبـرا يقـاد إلى المنية متعبـا          رسف المـقيد وهـو عانٍ موثق     

 

   اذا كان النضر فاسقا كما قال النبي، فلماذا لم تسعف الملائكة الموقف بآية قرآنية وتؤكد فسوقه واستحقاقه للعقاب الذي أُنزل به وتبين ان قرار النبي صحيح وهو ارادة إلهية. لقد جرى تبرير القتل في محرم بإية قرآنية ولم يتم ذلك في هذه الحالة. ولو سمع النبي بالقصيدة قبل قتله لما قتله، وهذا القول من النبي يؤكد ان فسوق النضر ليس في مستوى الجريمة التي تستوجب القتل وبتعبيرادق انه ليس فاسقا. ام ان النبي قال كلمته بعد تيقنه من التخلص منه ومن الدور الذي كان يؤديه والذي يوازي مؤسسات اعلامية تؤدي ما تؤديه اقوى الجيوش في ايامنا.

   كانت قصيدة أُخت النضر التوثيق الفعلي للحدث، فكان لوقعها اثرا بيِّنا في ارتباك المحاججة ونسيان الاسباب التي ادت الى القتل وتجرد الموقف من اي اثر للتسامح وابداء مظاهر الكرم والقوة في العفو ـ او كما يقول المتنبي: وما قَتَلَ الاحرار كالعفو عنهمُ. ـ ليس مع النضر فحسب، بل مع نساء بعضهن عجائز والاخريات مرضعات، تلك المشاهد من الامر بالقتل والنهي عن المغفرة لم تتوقف الى اليوم، مرورا بكل العهود والتي ساد خلالها الاستبداد والقمع باسم حماية الدين. والف طريقة وطريقة تفنن بها القاتل لاجتثاث مقتوله. وطريقة قتل الحلاج واحدة من تلك الالاف، خير مثال على ذلك، حيث جُلدَ الف جلدة وقطعت ذراعاه و ساقاه ـ وهو يردد"إلهي اذا تتودد إلى من يؤذيك، فكيف لم تتودد إلى من يؤذَى فيك" ـ ومن ثم راسه ليحرق ويذر رماده في نهر دجلة.

   كان النبي يدرك مكانة الشاعر ودور القصيد في حياة القوم، فاللغة ببيانها توأمٌ للسيف في كشفهما لمظاهر القوة ومفاتنها التي يتسلح بها العربي. فنرى النبي قد وقف بوجه الشعراء وناهضهم ومنع قصائدا بعينها، كقصيدة الافوه الاوْدي الرائية وقصيدة امية بن ابي الصلت الحائية، والذي كان يسعى للنبوة، وعندما علم بظهور نبي اسمه محمد قال: كُدتُ ان اكونُهُ،   انستاس ماري الكرملي ص38، احمد الزيات تاريخ الادب العربي ص75. وقد جاءت فيه الايتان 175 ـ 176 من سورة الاعراف، او بتعبير ادق كان احد من نزلت بحقه كما يذكر الرازي في تفسيره ج15 ص 58 نقلا عن عبدالله ابن عمر وسعيد ابن المسيب وزيد بن اسلم وابوروق."واتلُ عليهم نبأ الذي أتيناه أياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلدَ إالى الارض واتَّبَعَ هواه فمثله كمثل الكلب إن تَحْمِل عليه يلهث أوتتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذَّبوا بئاياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون"  ذلك السعي الذي لم يغب عن ذهن محمد لحظة، لذلك عمل على الحط منه وانزاله مستوى اخس قدرا واحط ضعة من الكلب، ولا اي كلب بل الكلب اللاهث، لان الكلب هو اخس الحيوانات في نظر الناس. واخس الكلاب هو الكلب اللاهث اذا ناله الاعياء عند شدة العدو وعند شدة الحر، فتراه يدلع لسانه. وكان امية قد قال:

كلّ دينٍ يوم القيامة عند الله          إلا ديـن الحـنـيـفــة زورُ

وتروي المصادر ان امية هو الذي قدم على اهل مكة {باسمك اللّهم} فجعلوها في اول كتبهم وعقودهم. واستبدلت من قبل محمد {باسم الله الرحمن الرحيم} وقال عنه النبي: آمن لسانه وكفر قلبه.

   كان امية وهو من الاحناف يتردد كثيرا على الكنائس والاديرة وياخذ منها وعن القساوسة والرهبان الكثير من تعاليم الاديان والاداب المهذبة للنفس والمرقرقة للروح، كان يلبس المسوح، حاور اليهود والنصارى ودرس معهم. اضافة لذلك كان هو الاخر تاجرا كثير الاسفار للشام واليمن، تلك الاسفار التي زودته بالكثير من المعرفة المرتبطة بالاديان واحداث التاريخ، وشعره يزخر بالكثير من الافكار التي تعكس تامله في الكون والوجود من زاوية لاهوتية خالصة، تعكس ذهنية المجتمع المعتقد بالغيب وقواه المسيرة والمتحكمة بظواهر الطبيعة والكون وبمصائر البشر. وشعره ملئ بالمفردات التي نجدها في الكثير من الايات القرانية. فليس غريبا ان يواجه ويحارب كل ذوي المعرفة والحكمة والمكانة، وان لا تجد الرحمة والرافة سبيلا الى ذهن صاحب المشروع الذي لا يتحقق ما تصبو اليه نفسه وما يطمح اليه عقله إلا باقتلاع الاخرين المنافسين.   

 

 

 

 

           

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا