<%@ Language=JavaScript %> د.عدنان عويّد  الأمة العربية ووعي الذات (7 من 7)

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

الأمة العربية ووعي الذات

 

(7 من 7)

 

 

د.عدنان عويّد 

 

 

العامل الملموس في الزمن الملموس

 لنقر بداية أن المشروع النهضوي العربي يعيش حالة من الاستعصاء, وبالتالي هو بحاجة لإعادة تحليل وتركيب من جديد, وأن ما قمنا بعرضه وما سنقوم بعرضه من رؤى بعد قليل للكثير من المواقف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بغية تجاوز هذا الاستعصاء, ما هي إلا محاولة جادة لتجاوز حالة الاستعصاء هذه, ولا ندعي هنا بأننا نمتلك الحقيقة الكاملة أو المطلقة في رؤيتنا التحليلية هذه, وإنما هي محاولة جادة كما أشرت تضاف إلى العديد من المحاولات الجادة الكثيرة لكتاب وباحثين ومفكرين عرب ومستشرقين قد تناولت هذا الاستعصاء أيضاً قبل هذه المحاولة, وستكون هناك بالضرورة محاولات أخرى لآخرين طالما أن الحياة قائمة, وهناك من يغار على وطنه وأمته ويطمح لتقدمها ونهضتها.

      لذلك دعونا نطرح هنا بعض الرؤى العقلانية التي نجد أنها تشكل معطيات أخرى لفهم أزمة مشروعنا النهضوي العربي, ومحاولة لتجاوزها  وذلك انطلاقا من المقولة الفكرية: (العامل الملموس في الزمن الملموس) دون أن ننكر الهدف النهائي طبعاً كونه يفرض علينا مواقف إستراتيجية لا نقول بأننا سنؤجل النظر فيها أو السعي لتحقيقها, ولكن علينا أن نعمل على تحقيقها وفقاً لهذه المقولة, كمقولة تشكل في آليات عملها الثوري عوامل تكتيكية مقاصدها المنطقية والعقلانية الوصول إلى الهدف الاستراتيجي بالضرورة, وهو تحقيق النهضة العربية وإثبات ذات هذه الأمة.. 

     1- لا بد من الاعتراف والتسليم بأن الواقع العربي, هو واقع مأزوم, في تخلفه وتجزئته كما أشرنا في مواقع عدة من هذه الدراسة, فرضت أزمته جملة من الظروف الموضوعية والذاتية المعقدة في آليات عملها, عبر مراحل تاريخية طويلة, وبسبب أزمة التخلف هذه, خضع الوطن العربي لقوى استعمارية ساعدت كثيراً على تعميق أزمة تخلفه, حيث فقدت الكثير من الأقطار العربية قرارها السياسي والاقتصادي. لذلك فأن أي محاولة لتجاوز أزمة الواقع العربي بطريقة قسريَة أو بسماركية, أو عبر تسويات شكلية, ستؤدي إلى بالضرورة إلى نتائج عكسية ستزيد من تعميق الأزمة بدل إنفراجها, كما جرى في أزمة الخليج العربي عند اجتياح العراق للكويت, أو كما جرى في بعض الاتحادات أو التحالفات العربية في مشرق الوطن العربي ومغربه. لذلك لا بد من البحث عن وسائل أخرى أكثر نجاعة قادرة على تحقيق أفضل صيغة للتضامن العربي تقوم على احترام الآخر والإقرار به كواقع راهن, هذا مع إيماننا أن هناك دولاً عربية لا تمتلك حتى قرار تحقيق هذا الشكل من التضامن, أو حتى السعي لتحقيقها إلا بما يخدم استمرار أنظمتها الاستبدادية القروسطية. فصيغ التضامن العربي قادرة على أقل تقدير في كل اتجاهاتها الاقتصادية والثقافية والسياسية أن تخلق حالات من التفاعل الايجابي قادرة على التأسيس لمسألة تأكيد الذات العربية والسعي لبلورتها شيئاً فشيئاً.

      أما القوى المسؤولة مباشرة عن هذا الفعل فهي القوى الحاكمة أولاً, كونها صاحبة القرار في ذلك, وبكونها هي القادرة على تحريك ودفع كل الإمكانيات المتاحة المادية والمعنوية لتحقيق هذه المهمة من جهة, ثم أن ممارستها لدورها التضامني هذا سيحقق لها شيئاً من المصداقية في الشارع الوطني والقومي معاً من جهة أخرى. أما القوى أو الحوامل الاجتماعية الأخرى المنوط بها هذه المهمة التضامنية, فهي الأحزاب التقدمية والقوى الطليعة المثقفة من كتاب وفنانين وأدباء وإعلاميين. فهؤلاء هم الأقدر بعد القوى الحاكمة على توجيه الوعي الجماهير والوصول به إلى الأهداف المنشودة. 

     2- إن حركة الرأسمال الاحتكاري العالمي اليوم تحت مظلة النظام العالمي الجديد, لا تعترف بشيء إسمه قيم أو أخلاق إنسانية فاضلة, وهي تعمل بشكل فاعل على انتهاك حرية الشعوب المتخلفة واستعمارها سياسياً واقتصادياً وثقافياً. ووطننا العربي هو واحد من المناطق الجيواقتصادية والسياسية بالنسبة له, والتي عمل على اختراقها, بل الهيمنة عليها منذ فترة زمنية بعيدة, ولم يزل يخترقها بطرق ووسائل متعددة ومختلفة, بدءاً من حصوله على امتيازات الدولة المفضلة اقتصاديا في العديد من الدول العربية, وصولاً إلى عقد المعاهدات والاتفاقيات الاقتصادية والأمنية والدفاعية المشتركة. هذا إذا ما وقفنا عند إقامته للكيان الصهيوني وما تركه هذا الكيان من تأثير واضح على عرقلة حركة التحرر العربية. فعملية الاختراق هذه, وما رافقها من إعادة هيكلة للوطن العربي بما يخدم الطبقة الرأسمالية الاحتكارية العالمية, جعلته, - أي الوطن العربي – يعيد إنتاج تخلفه بالطرق والوسائل التي تخدم هذه الهيكلة. لذلك, فمسألة النهضة العربية وتأكيد ذات هذه الأمة وهويتها, تظل هنا محكومة, إضافة إلى معوقاتها الداخلية, فهي محكومة أيضاً بالمعوقات الخارجية إياها, وهي معوقات راحت تأخذ بالتعاظم تحت مظلة التطور الهائل للثورة التكنولوجية, ومنها الثورة المعلوماتية التي كُشف أمامها الآن الكثير من أسرار العالم, بعد أن حولت هذه الثورة العالم أمام مصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية العالمية إلى قرية صغيرة تتحكم في مقدراتها كما تشاء.

     إن كل ذلك يدفعنا للنظر من جديد بدور حركات التحرر العالمية المعادية للاستعمار بكل أشكاله وألوانه. وهذه المهمة تقع على عاتق كل القوى الثورية ويأتي في مقدمتها الأحزاب والمنظمات والكتاب والمفكرون والمثقفون الثوريون عموماً, وخاصة فيما يتعلق بفضح المخططات التي تمارسها الطبقة الرأسمالية الاحتكارية العالمية, أو ما يمكن أن تقوم بممارسته بشكل مباشر أو عن طريق أدواتها من القوى الرجعية, بغية هيمنتها على شعوب العالم الثالث ومنها وطننا العربي. وفي مضمار هذه المسألة ذاتها, وأمام التوجهات الصهيونية العالمية التي تحاول تأكيد البعد الديني لدولتها المصطنعة, وتوجهات الأنظمة الرجعية الخليجية الساعية إلى محاربة الفكر القومي العربي, لا بد لنا أن نؤكد على مسألة الربط ما بين العروبة والإسلام والمسيحية من جهة, والتأكيد على مسألة المواطنة لكل القوى الاجتماعية المنضوية تحت مظلة العالم العربي من جهة ثانية, ثم ضرورة تحالف المنظومة الإسلامية المعتدلة الرافضة للإرهاب وتكفير الآخر من جهة ثالثة.

     3- إن غياب الحامل الاجتماعي – الطبقة – الواعي لذاته, يدفعنا بالضرورة إلى التركيز على مسألة تحالف قوى الشعب العاملة من عمال وفلاحين, ومن والبرجوازية الصغيرة الوطنية وعناصر الجيش الوطني والحرفيين وصغار الكسبة والمثقفين الثوريين, بغض النظر عن التناقضات الثانوية, ولا أقول الرئيسة الموجودة بين هذه القوى, ففي المحصلة تبقى القواسم المشتركة التي تجمعها وبخاصة مصالح الوطن العليا, هي أكثر بكثير من الفواصل التي تبعدها عن بعض وبخاصة مصالحها الخاصة. لذلك غالباً ما ضمت الأحزاب الديمقراطية الثورية معظم هذه القوى في تنظيماتها, وعلينا أن لا ننكر الدور الهام الذي لعبته أحزاب القوى الديمقراطية الثورية في مصر والعراق والجزائر وسورية وغيرها, في تحقيق الكثير من الانجازات على كافة المستويات لبلدانها, بالرغم من أن بعض هذه الأحزاب كثيراَ ما راجع مواقفه الفكرية والطبقية عبر مسيرته النضالية, ولنا في بيان 30/ مارس الذي أصدره عبد الناصر قبل وفاته بقليل, دليل على أن التجربة الناصرية راحت تقر بعد الممارسة أن لا بديل للاشتراكية العلمية وقواها الكادحة ومثقفيها الثورين العضويين من أجل تحقيق النهضة والتقدم لهذه الأمة. غير أن استلام السادات, واختراق أمريكا وآل سعود لمصر, والسير في سياسة الانفتاح واقتصاد السوق, كانت ليس وراء ضرب البنية الفكرية والطبقية لبيان 30/ مارس فحسب, بل وضرب معظم مكتسبات ثورة 23/تموز. وهذا الموقف الطبقي ذاته نجده عند الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي لمس بعد أحداث الثمانينيات في القطر العربي السوري, الدور القذر الذي مارسته القوى الرجعية العربية والفكر السلفي ألإخواني التكفيري ضد سورية وشعبها, فراح يراهن أيضاً على الجماهير الكادحة والفكر العلمي , لذلك خاطب الفلاحين في سوريا قائلاً لهم : ( أنتم أصحاب قرار في كل ما تريدون وتشعرون انه يحقق مصالحكم). مثلما خاطب الشريحة الأوسع في سورية أيضاً وهم الشباب قائلاً : (علينا أن نحارب الفكر الرجعي بكل أصوله وفروعه, ونعمل على بناء مجتمع الطبقة الواحدة). بيد أن انهيار المنظومة الاشتراكية, والسير في المجتمع نحو اقتصاد السوق الاجتماعي الذي حرفه الدردري وفريقه الاقتصادي ومن طبل وزمر لهذا الفريق في الدولة والحزب, نحو اقتصاد السوق, ساهم كثيراً في ضرب مصالح القوى الكادحة وانهيارها, حيث كان لهذا التوجه الاقتصادي الدور الرئيس في تأجيج ما يجري في سوريا اليوم واستغلاله من قبل أعداء سورية, هذا إضافة لعودة الفكر الرجعي من جديد بكل أصوله وفروعه إلى الساحتين الاجتماعية والحزبية معاً, الأمر الذي جعل الرئيس بشار الأسد يعيد النظر من جديد عبر كلماته  أو مقابلاته التي ألقاها أجراها خلال هذه الحوادث الدامية التي يمر بها القطر, مؤكداً على ضرورة إعطاء الأهمية القصوى للاقتصاد الصغير والمتوسط, ومحاربة الفكر الرجعي السلفي. وهذا يعني إعادة الاعتبار للقوى لاجتماعية الكادحة والمنهج العلمي في التفكير.

     على العموم تظل هذه التنظيمات ( الأحزاب الديمقراطية الثوري ومجموع الأحزاب اليسارية وفي مقدمتها الأحزاب الشيوعية), في نهاية المطاف بالنسبة للوضعية الطبقية المتاتى على تشخيصها هنا في واقعنا العربي, هي الأكثر قدرة على حمل المشروع النهضوي العربي, والأكثر حضورا وفعالية على الساحات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. وبالتالي من هنا تأتي الدعوة إلى مد الجسور بين هذه التنظيمات, إن كان على المستوى الوطني, كإقامة جبهات وطنية تقدمية, أو على مستوى الوطن العربي, للتنسيق بينها على اعتبارها قوى حركات التحرر العربية.

     4- إن الدور الكبير الذي يلعبه الفكر والمفكرون في إنتاج وصياغة البنية الذهنية للمواطن العربي عبر ما يتاح لهؤلاء من وسائل للتواصل مع الجماهير, يتطلب من الكتاب والأدباء والباحثين والمفكرين الثوريين عموماً, أو المنوطة بهم عملية توعية هذه الجماهير, التخلي عن فكرهم النخبوي, وعدم التعالي على الجماهير الكادحة وواقعها, فنحن بحاجة ماسة اليوم للمثقف التنويري العقلاني العلماني المرتبط والمنتمي حزبياً لتنظيمات الجماهير المظلومة, والمتحسس لواقعها وآلامها, والعامل بفكره لمصلحتها, والراسم لأهدافها المشروعة, وبالتالي الساعي إلى تحويل فكره الثوري ذاته إلى قوة مادية تتسلح به هذه الجماهير لمواجهة الفكر ألظلامي والاستبدادي. وهنا تتجسد فيه سمات وخصائص ما يسمى المثقف العضوي.

     5- مطلوب اليوم من كافة القوى التقدمية أن تعمل على كشف الدور التخريبي لمشروع النهضة العربية الذي تمارسه السعودية بشكل خاص ودول الخليج بشكل عام, هذه الدول التي تجاوز الزمن أنظمتها القروسطية المتخلفة, وذلك بالتركيز على كشف ثلاث مسائل أساسية هنا هي:

     الأولى: أن الطبقة الحاكمة في هذه الدول القروسطية, أصبحت اليوم شريكاً حقيقيا للرأسمال الاحتكاري العالمي من خلال شرائها العديد من أسهم المؤسسات الاقتصادية والخدمية والسياحية والإعلامية في الدول الغربية وأمريكا, وبالتالي أصبحت مصالح هذه الطبقة الحاكمة جزءاً لا يتجزأ من مصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية العالمية, وهذا ما يجعل منها أدوات حقيقة لتفيذ مشاريع الغرب وأمريكا والصهيونية العالمية في المنطقة العربية, ويأتي على رأسها مشروع الشرق الأوسط الجديد.

     الثانية: استخدام دول الخليج, وبخاصة السعودية وقطر الإسلام السلفي والسياسي التكفيري كأداة من أجل خلق الفتن الطائفية, هذا الفكر الذي ساهم ولم يزل يساهم في محاربة الفكر العقلاني والعلماني بكل اتجاهاته وتنظيماته في وطننا العربي والإسلامي, وعبر تسخير كل الوسائل والإمكانات المتاحة المادية والمعنوية لهذه الأنظمة القروسطية الظلامية, بدءاً من البترو دولار الذي اشترى الكثير من القوى الفكرية والثقافية العربية والإسلامية لتسويق فكرها ألظلامي من جهة, مروراً بإصدار وإطلاق العشرات بل المئات من الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية المسوقة لهذه لفكر أيضاً من جهة ثانية, وصولاً إلى إصدار فتاوى التكفير والقتل الطائفية, أو فتاوى الدعارة باسم الدين , كفتاوى العشر رضعات, ونكاح الجهاد, وإباحة استخدم الجزر.... وغير ذلك,  وأخيراً فتاوى الجهل المقرف المتعلقة بالخيار والبندورة والكوسة وغير ذلك من فتاوى من جهة ثالثة.

الثالثة: كشف محاولات دول الخليج حرف النضال التحرري العربي عن مساره الصحيح, وهو محاربة الصهيونية ودولتها العدوانية المصطنعة إسرائيل, إلى اعتبار أن إيران هي العدو لهذه الأمة, وأن هذا التوجه الخبيث في نواياه وممارساته, هو عمل تخريبي ضد حركة التحرر العربية والإسلامية خدمة لإسرائيل والغرب وأمريكا, وبالتالي هو خدمة لمصالحها هي بالذات كونها الشريك الحقيقي لهذه القوى كما أشرنا أعلاه.  

    نعم إن السعودية ودول الخليج تشكل اليوم بكل سياساتها, إن كان على مستوى دولها داخلياً, أم على مستوى سياساتها الخارجية وبخاصة سياساتها تجاه وطننا العربي والدول العلمانية منها, حصان طروادة للإمبريالية العالمية والصهيونية, وهي برأي تعتبر أهم معوق من معوقات حركة التحرر العربية والإسلامية, ولن أبالغ إذا قلت أنها شاركت بالبتر ودولار والفكر الوهابي, على إسقاط العديد من حركات التحرر العالمية . لذلك فإن العمل على كشف وتعرية هذه الأنظمة المتخلفة, وبالتالي إسقاطها هو واجب أخلاقي قبل أي شيء آخر.   

     6-  الدين الإسلامي دين رحمة ومحبة, شوهته وهابية آل سعود وحاكمية (الأخوان المسلمون), وعلينا أن نساهم كمثقفين ومفكرين من أجل أن نعيد له وجهه الصحيح, ولا يمكن أن نحقق ذلك إلا بكشفنا تلك القوى التي تريد أن تسخر الدين لمصالحها من خلال تبنيها وطرحها لمفاهيم دينية خاطئة كفكرة الحاكمية لله التي يطرحها الإخوان اليوم, وهي الفكرة التي طرحها الخوارج في صفين, وقد بين خطأ طرحها آنذاك الإمام علي (رضي لله عنه) بقوله : هي كلمة حق يراد بها باطل, ولابد لهذه الأمة من حاكم يسوسها .

     في مقدمة كتابه (فلسفتنا), يقول المفكر الإسلامي باقر الصدر : (إن الإسلام والاشتراكية كلاهما يلتقيان في العدالة المطلقة, إلا أنهما يختلفان في أسلوب التطبيق). نعم لقد جاء الإسلام رحمة للعالمين, وما بعث الرسول إلا ليكمل مكارم الخلاق, ولم يأت الدين لقتل الإنسان وشق صدره وأكل كبده بسبب الاختلاف في الرأي. لذلك من هنا علينا كمثقفين ومفكرين تقدمين أن نبين أموراً على درجة عالية من الأهمية في هذا السياق لنقول:

      إن القرآن الكريم لم يأت للي عنق الواقع كي ينسجم معه في كل زمان ومكان كما يقول سيد قطب في كتابه (معالم في الطرق). لا.. إن القرآن جاء كي ينسجم مع حركة الواقع دائما, لذلك نزل منجماً (نزلت آياته متفرقة), ولم ينزل على الرسول الكريم دفعة واحدة, وهذا ما يؤكد أن الواقع أقوى من النص, وأن مسألة الناسخ والمنسوخ في القرآن تثبت صحة ذلك. وعلينا كذلك أن نؤكد عل ضرورة مسألة فتح النص الديني على الواقع دائماً, ولنا في مواقف الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في مسألة السرقة عام الرمادة, وتوزيع الخراج دليلاً مشروعاً على أن مسألة فتح النص في الآيات المتشابهات على الواقع في كل زمان ومكان أمر مشروع, وهو لمصلحة الإنسان والدين معاً, لأن جمود النص الديني سيؤدي بالضرورة إلى جمود الواقع, وبالتالي تعطل مصالح الناس والإساءة لحياتهم, وبروز ظواهر التطرف وحوامله الاجتماعية ومعها سيوفها وسواطيرها وكل رموزها المتخلفة, وما نراه اليوم من ممارسات جبهة النصرة والإخوان يؤكد ذلك. .      

الديمقراطية ضرورة حيوية:

       تبقى الديمقراطية في سياقها النظري شكلاً من إشكال الوعي البشري, تتطور وتتبدل في صيغها وفي جوهرها مع تطور وتبدل عوامل نشوئها عبر التاريخ. وهذا ما يؤكد نسبيتها, وينفي في الوقت ذاته إطلاقيتها أو لا مشروطيتها. وفي الوقت الذي تؤكد فيه الديمقراطية عناصر إنسانيتها وعدالتها, تؤكد أيضاً عناصر استبدادها. أما في سياقها العملي, وبخاصة في اتجاهها السياسي, فهي ستظل هنا مرتبطة أكثر بالسلطة, أي هي ديمقراطية السلطة, وبقدر ما تكون القوى الحاكمة مع مصالح الشعب, بقدر ما تكون الديمقراطية أكثر عقلانية والعكس صحيح. دون أن نغفل في هذا السياق أن القوى الحاكمة نفسها لا تفرخ مجردة, بل هي قوى اجتماعية كانت ولازالت داخل التاريخ. وبناءً على هذا الموقف المنهجي, فإن الصيغ الديمقراطية التي تمارس في وطننا العربي, هي صيغ محكومة من الناحية العملية بطبيعة الواقع الذي تمارس فيه, أي هي صيغ ديمقراطية تعمل في مضمار واقع محكوم بجملة من لظروف الموضوعية والذاتية المتخلفة والمعقدة, والتي تحكمه – أي الظروف – مرجعيات تقليدية ممثلة بالعشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب, أو محكومة بأنظمة سياسية رجعية واستبدادية غالباً ما يعمل أكثر هذه الأنظمة على تغييب الجماهير وتحويل نفسها – أي القوى الحاكمة – إلى أوصياء على الشعب. لذلك لا نستغرب أن تتحول الديمقراطية ذاتها في بعض الدول العربية التي حاول حكامها توسيع الهامش الديمقراطية فيها إلى عوامل معرقلة للاستقرار الاجتماعي والسياسي أكثر من الحفاظ على توازن المجتمع وتنميته, وهذا ما نجده في العراق ولبنان في وقتنا الحاضر, حيث تعجز القوى الاجتماعية أحيانا عن تشكيل حكومة لفترة زمنية قد تطول لعام أو أكثر, هذا عدا استمرارية التنازع السياسي والمصلحي عموما بين الكتل السياسية ذاتها التي تشكلت بفعل الديمقراطية.

      ملاك القول: إذا كانت مقولة ابن خلدون التاريخية التي تقول : ( تتغير أحال الناس بتغير نحلتهم من المعاش.), ستظل تفرض نفسها على المجتمعات البشرية عبر علاقات الناس مع الطبيعة ومع بعضهم البعض, وفقاً لقوانين موضوعية خارج إرادة الإنسان وتفكيره, أي أن الناس في المحصلة ( لا يصنعون تاريخهم على هواهم ), بالرغم من أنهم يصنعونه بأيديهم, فإن هذه الحقيقة لا تعني بالنسبة للإنسان أن يستسلم للتاريخ وقدره معاً, بل عليه أن يقوم بمعاندة التاريخ وقدره معاً, من اجل أن يكسب حريته وعدالته وتنمية حياته. بيد أن هذه المعاندة لا تعني أيضاً أن يقوم الإنسان بلي عنق الواقع وقسره بالقوة كي ينسجم مع طموحاته ورغباته, وإنما المقصود بالمعاندة هنا أن يعمل الإنسان على اكتشاف القوانين الموضوعية والذاتية التي تتحكم بالواقع وتسيره وفقاً لآلية عملها المستقلة بذاتها, والتسلح بها, وبالتالي تسخيرها من أن أجل دفع عجلة التاريخ وفقاً لمصالح الإنسان بإرادته وتفكيره. .. نعم إن حرية الإنسان في المحصلة هي وعيه للضرورة التي تتحكم به... وعيه للقوانين الموضوعية التي تتحكم بسيرورة وصيرورة الواقع والتسلح بها لتحريك الواقع وفقاً لإرادته لا وفقاً لإرادة القوانين العمياء. وهذا الموقف ذاته يدفعنا للحديث أيضاً عن مسائل أخرى على درجة عالية من الأهمية والمنهجية في هذا السياق, وهي مسألة الأيديولوجيا والهدف النهائي والتنظيم. 

     على الرغم من حالة الصراع الدائر منذ خمسينيات القرن العشرين بين الداعين إلى قبول الأيديولوجيا, والداعين إلى تفريغها أو رفضها في الساحتين الفكرية والسياسية, إلا أن الذي يهمنا هو النظر إلى ضرورة وأهمية الأيديولوجيا, لما تحمله من أدوار وظيفية هامة في الحياة الاجتماعية والسياسية لدول العالم الثالث ومنها وطننا العربي. 

     إن الأيديولوجيا في سياقها العام تشكل منظومة فكرية قادرة على تحديد الهدف أو الأهداف النهائية التي ترسمها هذه القوى الاجتماعية أو تلك لمسيرة نضالها, هذا إضافة إلى كونها قادرة أيضاً على تعبئة الوجدان الاجتماعي للفرد والجماعة, أو كما يقول "شتراوس": ( قادرة على شحن وجدان الفرد, وتعبئته حول جملة من الرموز والأهداف, هذا إضافة إلى وظيفتها الاجتماعية العامة في تزويد أفراد المجتمع بشعور الهوية الذي تمثله مجموعة الأحداث والمصالح والرموز. ).

     نعم إن الأيديولوجيا تتحول عبر التحامها بالقوة الاجتماعية التي تتعامل معها أو تتبناها, إلى أداة صهر وعامل اندماج وتماسك لأعضاء الكتلة الاجتماعية المنضوية تحتها. فهي في النهاية تتحول لإلى ملاط (إسمنت) يشد البناء الاجتماعي برمته كفرد أو مجتمع... كمجموعة لها أواصر القوة والصلابة, ما يجعلها غير قابلة للانكسار بسهولة.

     إن ما نريد التأكيد عليه في مسألة الأيديولوجيا, هو ضرورة تبنيها في مجتمعات العالم الثالث, كبديل عن المرجعيات التقليدية من عشيرة وقبيلة وطائفة ومذهب أو طريقة صوفية قادرة بدورها – أي المرجعيات التقليدي – أن تشد الكتل الاجتماعي ولكن باتجاهات سلبية/ رجعية. فالأيديولوجيا في مهمتها هذه كبديل عن هذه المرجعيات, تقوم بتأدية وظيفتين في الوقت نفسه بالنسبة لشعوب بلداننا: الأولى اجتماعية , والثانية سياسية ومعرفية معاً. فمن الناحية الاجتماعية هي قادرة عندما تأخذ دورها الحقيقي أن تكون البديل عن الولاءات التقليدية الضيقة كما أشرنا قبل قليل. ومن الناحية الثانية السياسية والمعرفية, هي قادرة على زرع رؤى ومفاهيم فكرية وسياسية جديدة مشتركة في عقول من ينضوي تحت لوائها, وبالتالي قادرة أيضاً على رسم الحلول والأهداف النهائية الكفيلة بتحقيق نهضة المجتمع وبالتالي الأمة. أما الأيديولوجيا التي ندعوا إلى تبنيها والتسويق لها في وطننا العربي, فهي الأيديولوجيا التي تتبنى مصالح الجماهير الكادحة من جهة, والمتكئة على المنهج العلمي من جهة ثانية, والتي تعتبر العلمانية والعقلانية والديمقراطية الوسائل الرئيسة لتحقيق مضمونها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي من جهة ثالثة.

     إن ما قمنا بعرضه في هذه الدراسة هو محاولة أولية لدراسة مسألة ذات طابع حيوي في واقعنا العربي... هي مسألة الأمة ووعي الذات, أي ما يتعلق بقضايا النهضة العربية. إلا أنها دراسة  لم تكتمل ملامحها بعد ولن تكتمل طالما أن الواقع في حالة حركة وتبدل دائمين, وما يجري الآن في الساحة لعربية من حراك, وما حققه هذا الحراك من انتصارات أو انكسارات, سيظل حراك تفرضه طبيعة التحولات في الوجود الاجتماعي لأمتنا العربية ولابد أن يعطي أوكله قريباً شاء من شاء وأبا من أبا. 

كاتب وباحث من سورية

d.owaid50@gmail.com

الهوامش :

1- مجموعة من الباحثين السوفيت, ارتقاء المجتمعات الشرقية, ترجمة, حسان اسحق, ج3, دار الأهالي, دمشق, ص 65.

2- الدوري, عبد العزيز, التكوين التاريخي للأمة العربية, مركز دراسات الوحدة, 1986, ص 101

3- بعض المنطلقات النظرية لحزب البعث العربي الاشتراكي, القيادة القومية, ط2, ص66.

4- دستور حزب البعث العربي الاشتراكي, القيادة القومية, 1979.

5- بعض المطلقات لنظرية, المصدر السابق. ص 34.

6- عويد, عدنان, إشكالية النهضة في الوطن لعربي من التوابل إلى لنفط , دار المدى, دمشق, 1997, ص 62.

7- إشكالية النهضة , المصدر نفسه. ص178. ذ           

 

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا