<%@ Language=JavaScript %> د.عدنان عويّد  الأمة العربية ووعي الذات (4 من 7)

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

الأمة العربية ووعي الذات

 

(4 من 7)

 

 

د.عدنان عويّد 

 

 

القومية العربية في الخطاب الفكري العربي:

     على العموم لا أظن أن هناك من يقر بأن الفكر وحده بكل اتجاهاته ومستوياته بعيداً عن الممارسة قادر على تحريك أصغر نبته في الأرض. كما لا أظن أيضاً, أن هناك من يقر بأن الفكر العربي بكل اتجاهاته هو وراء تخلف هذه الأمة العربية وسبب عجزها عن تحقيق حركتها النهضوية. فالفكر بعمومه لم يكن ولن يكن مجرداً, بل هو مشخص ويتفاعل مع الواقع الذي أنتجه ويحدد خطوطه العريضة بعلاقة جدلية على غاية من التعقيد, نستطيع عرضها وتبسيطها ضمن الخطوط العريضة التالية:

     أولاً: إن الفكر لا يفرخ بشكل مجرد, بل هو نتاج الواقع, وبالتالي هو غير قادر على تحقيق استقلاليته ألمطلقه عن هذا الواقع. وهذا يعني بتعبير آخر, أن الواقع هو الذي يحدد في النهاية طبيعة الفكر واتجاهاته, ولكن في مرحلة تاريخية من سيرورة وصيرورة هذا الفكر, وعبر اشتغاله على مسائل الحياة, يأخذ هذا الفكر في التبلور والتوجه نحو أنساق معرفية متخصصة تمنحه في نهاية المطاف القدرة على الاستقلالية النسبية عن الواقع, وبالتالي تحوله إلى قوة مادية هائلة بيد حوامله الاجتماعية التي تستطيع به أن تعيد إنتاج الواقع نفسه أو تسريع حركته إلى الأمام. بل أن الفكر ذاته في هذا المستوى من التطور يتحول إلى موضوع إنتاج. يقول في هذا الاتجاه الشيخ الإمام محمد عبده : (إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده, إلا أن ما ينعكس إلا مزايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه, يؤثر فيه اشد التأثير, فكل شهود يحدث فكراً, وكل شهود يكون له أثراً في داعية, وعن كل داعية ينشأ عمل ثم يعود من العمل إلى الفكر, ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأعمال والأفكار ما دامت الأرواح في الأجساد, وكل قبيل هو للآخر عماد.). ( لمعرفة المزيد عن علاقة الفكر بالواقع, راجع كتابنا الأيديولوجيا والوعي المطابق . إصدار دار التكوين – دمشق- 2006.)  

     ثانياً: إن كل فكر لا بد له من حامل اجتماعي يتبناه وينميه ويمارسه عبر الواقع, والفكر في سياقه العام يقوم على اتجاهين أساسيين هما:

     الاتجاه الشعبي أو العام: وهو فكر ذو طبيعة مباشرة, يتعامل معه الناس بطريقة عفوية, ويعيدون إنتاجه وتنميته بالطريقة ذاتها, وغالباً ما يستخدم هذا النمط من الفكر في تسيير علاقات الناس اليومية المباشرة, أما الحامل الاجتماعي لهذا الفكر فهو الشعب بعمومه.

     الاتجاه الفكري المنظم: وهو الذي يدخل أساساً في مجال العلوم بكل اتجاهاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفنية ... الخ. ويتطلب هذا الاتجاه أو النسق الفكري عملياً, حاملاً اجتماعياً له سمات وخصائص نوعية, مؤهلة معرفياً لحمله وإعادة إنتاجه وتطويره, وبالتالي ممارسته في حالات إبداعية مدروسة وموجهة بدقة وفق قوانين خاصة بكل علم من علوم في مجال اختصاصه, بعيداً عن المصالح الأنانية الضيقة.

     ثالثاً: المجتمعات لا توجد على هذه البسيطة وجوداً روبنسياَ, بل هي دائماً في تفاعل وتناسج وتناقض مع بعضها على المستويين المادي والفكري, بيد أنها في طبيعتها هذه تشكل ظاهرة متكاملة. وهذه الظاهرة التكاملية بين المجتمعات حتمية, يتولد عنها بالضرورة نتائج ذات طابع سلبي أو إيجابي تلعب المصالح بين الشعوب الدور الكبير في طبيعة هذه النتائج من جهة, مثلما تلعب في تحديد طبيعتها أيضاً, درجة قوة هذا المجتمع أو ضعفه بين المجتمعات.

     رابعاً: إن الخطاب السياسي في جوهره يعتبر خطاباً فكرياً, وهو في سياقه العام مرتبط بجملة القضايا التي جئنا عليها قبل قليل.

     هذه القضايا المنهجية تعتبر مسائل أساسية برأينا, وهي تشكل في عمومها الحاضنة التي تنطلق منها قضية الإجابة على جملة من الأسئلة تتعلق بمدى إمكانية الفكر وحده على تحقيق المشروع القومي النهضوي؟. وأين موقع الخطاب السياسي العربي؟. وأين موقع الفكر الثوري الطليعي المعاصر منه في قضية القومية العربية؟.

      بداية نقول في هذا الاتجاه: إن الإجابة على السؤالين المطروحين اللذين جئنا عليهما أعلاه, وبناءً على الموقف المنهجي الذي قمنا بعرض أهم سماته وخصائصه, يتطلب منا الأمر الإشارة أولا أو التأكيد على ما طرحناه في موقع سابق من هذه الدراسة, وهو, حقيقة أننا أمة استلب منها قرارها السياسي والاقتصادي منذ مئات السنين بفعل القوى الأعجمية التي استعمرتها تحت مظلة الإسلام من جهة, وعندما حاولت تأكيد ذاتها مع بداية القرن العشرين عندما قامت الثورة العربية الكبرى عام /1916/, وفشل هذه الثورة وما تركته من نتائج سلبية بسبب تآمر القوى الاستعمارية الغربية على المشرق العربي بشكل خاص في اتفاقية "سايكس – بيكو" وإصدار "وعد بلفور" من جهة ثانية. ومع ذلك امتازت مرحلة ما بين الحربين بقيام الكثير من الثورات الشعبية المسلحة التي قادها أعيان المدن والريف ورجال الدين على مستوى معظم الساحة العربية, فكان أقصى ما حققته هذه الثورات  حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين وبمساعدة بعض القوى العالمية (الاتحاد السوفيتي بشكل خاص), هو إخراج المستعمر الغربي الذي ظل مسيطراً في الحقيقة بسبب قوته السياسية والاقتصادية, وارتباط الكثير من الحكام العرب به, الذين استلموا أمور البلاد السياسية والاقتصادية بعد خروجه, حيث تحولت هذه القوى إلى قوى "كومبرادورية" وجدت مصالحها الحقيقة مرتبطة مع الغرب. هذا وقد تبين لنا عجز وفشل هذه القوى في إدارة شؤون البلاد العربية, وقيادة المشروع النهضوي الذي تصدت لقيادته, الأمر الذي أدى إلى رفضها والعمل على إقصائها عبر انقلابات عسكرية, (يمكن أن نسميها ثورات كونها أخذت فيما بعد أبعاداً شعبية), قادتها مجموعة من الضباط الذين ينتمون للبرجوازية الصغيرة, يساندها على الصعيد المدني شرائح من "الأنتليجينيسيا" المنتمية للبرجوازية الصغيرة ذاتها, وهي قوى تحمل بعمومها توجهات "ديمقراطية ثورية", كان أبرز من عبر عن توجهاتها, ثورة /23- تموز/ في مصر بقيادة الضباط الأحرار, التي كان لها التأثير الواسع على قيام ثورات عسكرية مثيلة لها في كل من سورية والعراق وليبيا والسودان واليمن والجزائر, حيث أطلق الكثير من الضباط الذين قاموا بهذه الحركات على أنفسهم الضباط الأحرار تيمناً بثورة 23/تموز في مصر. هذا وقد أصبح لمعظم هذه الحركات الثورية أو الثورات, تنظيماتها السياسية ومشاريعها الأيديولوجية, أو خطها النظري الفلسفي والسياسي لحل جملة القضايا المطروحة أمامها, أو ما بررت قيام حركاتها الثورية من أجلها. غير أن هذه القوى الديمقراطية الثورية غالباً ما سيطرت على بعضها شهوة السلطة, فبدلاً من أن تسير بدولها ومجتمعاتها نحو دولة المؤسسات والقانون والمجتمعات المدنية, والتعددية السياسية والسعي لتحقيق المشروع القومي الذي بشرت به أهدافها وشعاراتها, راحت هذه القوى تعمل على بلورة القطرية وتجذيرها, والعمل على عسكرة أنظمة الحكم. بيد أن هذه التحولات الجديدة أثبتت فشلها أيضاً في قيادة المشروع النهضوي العربي مع نكسة حزيران/1967/,  بسبب جملة من المعطيات الموضوعية والذاتية,  ثم إفرغ حرب تشرين من نتائجها الايجابية وبخاصة بعد قيام اتفاقية كامب ديفيد التي كان من أبرز نتائجها, عقد اتفاقية وادي عربة واتفاقية أوسلو, وكل التخاذل العربي اللاحق أمام الكيان الصهيوني. (للمعرفة أكثر في هذا المسألة, راجع كتابنا – معوقات حركة التحرر العربية في القرن العشرين – دار المدى – دمشق – 2002 )

     إذاً هل ما قمنا بعرضه أو توصيفه أعلاه عن واقع تخلف امتنا العربية, يعد الفكر وعلى رأسه الفكر العقلاني منه على وجه الخصوص مع حوامله الاجتماعية هما اللذان يتحملان أسباب هذا التخلف, وبالتالي تجاوزه؟. أم أن الفكر وحوامله وما قمنا بتوصيفه من تخلف في وطننا العربي, كان نتاج ظروف موضوعية وذاتية داخلية وخارجية أكثر شمولية وتعقيدا عاشتها ولم تزل تعيشها تعيشها هذه الأمة, قد لعبت الدور الأهم في هذا التخلف؟.

     لا شك أن قضايا التخلف والتجزئة وضعف تواجد أو حضور الفكر القومي العقلاني والمنهج العلمي, أو سيادة وانتشار هذا الفكر ألامتثالي والغيبي أو ذاك, وكذلك سيادة هذا الحامل الاجتماعي أو ذاك, في أية مرحلة تاريخية من تاريخ أمتنا, هي نتاج الظروف الموضوعي والذاتية المتشابكة والمعقدة في آلية عملها, والتي لا تتحمل مرحلة تاريخية محددة نتائجها, كما لا تتحمل النتائج بكليتها أيضاً قوى اجتماعية أو فكرية محددة, إن الذي يتحمل الجزء الأكبر هو الواقع العربي عبر سيرورته وصيرورته التاريخيتين الذي قمنا بتوصيف بعض معطياته الأساسية في سياقها التاريخي المشار إليه أعلاه, محكوماً بظروفه الموضوعية والذاتية وفي مقدمتها الحامل الاجتماعي, وبخاصة السياسي منه, أو من تسلم مقاليد السلطة عبر تاريخ هذه الأمة, حيث يتحمل جزءاً هاماً من المسؤولية, مع تأكيدنا مرة أخرى أن هذه الحوامل السياسية لا تفرخ مجردة.

     دعونا نعود ثانية للنظر في أهم القضايا المكونة لبنية الواقع العربي وطبيعة وآلية حركته وإشكالية استعصائه النهضوية . وبالتالي الإجابة على جملة الأسئلة التي طارحناها على أنفسنا عند قراءتنا للمشروع القومي النهضوي العربي, مستنيرين بالموقف المنهجي العلمي ذاته الذي اتكأنا عليه عند قراءتنا لهذا المشروع.

     أولاً: في مجال المسألة الفكرية وعلاقة الواقع في الفكر:

     إن السؤال المطروح هنا هو : كيف ننظر إلى تلك التعددية الفكرية السائدة في الساحة العربية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ؟. وما مدى استجابة الواقع العربي لها؟, ثم ما مدى تأثير هذه التعددية في تقدم المشروع النهضوي او حتى عرقلته؟ .  .

     إن من ينظر إلى الوضعية الفكرية في الساحة العربية باتجاهاتها السياسية والثقافية, سيجد أن هناك عددا كبيرا من الرؤى والأفكار والنظريات التي طرحت في هذه الساحة العربية بدأ من الفكر الإسلامي بكل تجلياته وتفرعاته , مروراً بالفكر الوضعي في أكثر تياراته , ويأتي في مقدمته هنا الفكر الماركسي بكل اتجاهاته وتفرعاته أيضاً, وهو الفكر الذي لعبت حوامله الاجتماعية عبر الأحزاب الشيوعية والماركسية على الساحة العربية, وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية دوراَ هاماً في التسويق للفكر العقلاني والمنهج الفكري العلمي, وبخاصة (المادية التاريخية والمادية الجدلية), هذا المنهج الذي ساهم في تحليل الواقع العربي تحليلاَ علمياً, والنظر إلى المسألة القومية والوحدة العربية نظرة عقلانية نقدية بعيدة عن العاطفة أو البروغسونية, وهذا ما جعل مثلاَ الحزب الشيوعي السوري يقف ضد الطريقة التي قامت بها الوحدة بين سورية ومصر( وليس ضد مفهوم الوحدة ذاتها) في ستينيات القرن الماضي, وتوقع فشلها لأنها لم تحوز على شروط قيامها الموضوعية والذاتية, وقد صدقت رؤيته وتحليله, حيث لم تدم الوحدة أكثر من سنتين, وكانت السلبيات التي تركتها الوحدة أكثر من إيجابياتها. ولكن المؤسف أن مثل هذه المواقف العقلانية تجاه المسألة القومية كان لها تأثيراً سلبياً على الأحزاب الشيوعية ذاتها من قبل بعض القوى القومية الحزبية والفكرية في الساحة العربية التي راحت تتعامل مع هذه الأحزاب وكأنها ضد القومية العربية. هذا مع تأكيدنا أن هناك مواقف لبعض قيادات هذه الأحزاب, كانت ذات طابع أممي طغت على المسألة القومية أثناء قيام الحرب العالمية الثانية بسبب موقف الاتحاد السوفيتي وتحالفاته في هذه الحرب, وهذا ما أشرت إليه في موقع سابق بالمواقف الراديكالية.وهي مواقف لم تكن من صلب تفكير وقناعة تلك القيادات في الحقيقة, وإنما فرضتها طبيعة العلاقات الحميمة بين هذه الأحزاب والاتحاد السوفيتي آنذاك, الذي كان الحليف الاستراتيجي والداعم لها تحت ظل القهر الذي كانت تعانيه كل القوى التقدمية والوطنية في تلك لفترة.     

     إن التعددية الفكرية هذه لم تكن في الواقع تعبيراً عن حالة صحية فحسب, وإنما كانت تعبيراَ هادئاَ عن حالة الواقع العربي في تخلفه وتجزئته والذي لم يزل في قسم كبير منه يعيش علاقات اجتماعية وإنتاجية لم تتغير في جوهرها منذ مئات السنين. وكل الذي حدث فيه من تغيير لم يبتعد عن حدود الشكل, بسب تأثره بالحضارة الغربية التي لم تسمح له – عبر ممثليها من الدول الاستعمارية - أن يأخذ منها ما يساعدها على التطور والتنمية. ولو أردنا أن نفرز التيارات الفكرية التي جئنا عليها أعلاه في إطار المسألة المطروحة هنا – أي وعي الأمة العربية لذاتها - لوجدنا تيارين عريضين اثنين يعبران عملياً عن الواقع العربي المعيوش بشكل فاعل وهما :

     الأول : التيار الديني باتجاهاته الثلاثة, التيار الديني الشعبي , والتيار الديني السياسي, والتيار الديني السلفي يشقيه, الدعوي والتكفيري .

    وإذا كان التيار الديني الشعبي في سياقه العام يمثل الوعي الديني المباشر, وهو مرتبط بآليات الدين التقليدي, حيث تصبح العبادة عادة, متكيفة مع تقاليد المجتمع, وتتم ممارستها في المساجد والتكايا وحلقات الذكر, والحضرات الصوفية, والحسينيات, والمزارات والعتبات الشريفة . . . الخ. ( للاستزادة في هذا الموضوع يراجع كتاب .الأسلمة المعاصرة – قضايا وآفاق. حمد سعيد الموعد . دار حطين للدراسات والنشر . 1994 )

      وعادة ما تلجأ الطبقات الشعبية المحرومة إلى الدين الشعبي بحثاً عن حلول لمشاكلها اليومية الاقتصادية منها والنفسية المستعصية, وما الطرق الصوفية التي انتشرت انتشاراً واسعا في الساحة الشعبية العربية إلا دليلاً واضحاً على عمق الأزمة الاقتصادية والنفسية التي يعيشها مواطننا العربي.

      هذا وعلينا أن نبين مسألة هامة في هذا السياق وهي, أن الدين الشعبي غالباً ما يستغل أو يوظف من قبل القوى الحاكمة عبر مشايخ الطرق الصوفية, ومشرفي الدوائر الدينية للحكومات العربية ( مؤسسات الأوقاف ودور الإفتاء) لصالح الأنظمة السياسية الحاكمة.

      أما الإسلام السياسي فهو مرتبط نظرياً وحركياً بالأسلمة والصراع الذي تخوضه حوامله الاجتماعية, للوصول إلى السلطة من أجل إقامة الدولة الإسلامية تحت ذريعة الحاكمية لله. والإسلام السياسي في جوهره, هو تعبير هادئ عن حالة صراع سياسي واجتماعي يطغى عليه الجانب الأيديولوجي, وهو أبضاَ بعمومه في توجهاته الفكرية ضد المسألة القومية والفكر القومي, لاعتقاد حوامله الاجتماعية أن هذا الفكر ضد الدين الذي جاء رسالة للعالمين, وهو فكر أممي بعمومه. وعادة ما يسمى هذا التيار الإسلامي بالإسلام الراديكالي, والتطرف الديني, والصحوة الإسلامية, والظاهرة الإسلامية. وغير ذلك . وأبرز تجلياته العملية اليوم ما يقوم به الإخوان المسلمون على الساحة العربية. (للتعرف أكثر على طبيعة هذا التيار راجع كتابنا – معوقات حركة التحرر العربية في القرن العشرين – مرجع سابق).

     أما التيار السلفي, فغالبا ما يقسم إلى اتجاهين. الأول, اتجاه ديني مسالم لا يتدخل في السياسة, وكل ما يقوم به أو يدعو إليه هو التمسك بالدين الحنيف والعودة إلى الأصول, وبالتالي العمل على نشر هذا الفكر من خلال الجامعات والندوات ذات الطابع الأكاديمي, وهو يقف ضد الفكر القومي أيضاً ويكفر حملته. والاتجاه الثاني, مجاهد (ميليشيوي) غالبا ما تسخره بعض الدول الرجعية العربية لمصلحتها, مثل الفكر الوهابي الذي اتكأت عليه السعودية ودول الخليج وأمريكا كحصان طروادة لتحقيق مصالحها وضرب كل القوى التقدمية , وبخاصة القوى القومية واليسارية منها. وهذا ما وجدناه في أفغانستان, ونجده اليوم في سورية والعراق ومصر وتونس ولبنان. والملفت للنظر أن هذا الفكر السلفي التكفيري يلتقي كليا مع التيار السياسي ألإخواني في ممارساته العملية السادية في ما يجري داخل سورية والعراق ومصر اليوم من قتل وذبح للإنسان على الهوية أو الانتماء. 

     الثاني : التيار الوضعي :

     إن أبرز من يمثل هذا التيار هي القوى اليسارية ممثلة بمفكريها وأحزابها, ممثلة بالأحزاب الشيوعية العربية من جهة, والأحزاب الديمقراطية الثورية من جهة ثانية, مثل حزب البعث والأحزاب الناصرية على وجه لخصوص, وهي أحزاب يسارية في بنيتها الفكرية والتنظيمية العامة, إلا أنها تختلف في يساريتها عن الأحزاب الشيوعية في مسألتين أساسيتين حددهما عبد الناصر بقوله: (إذا كانت الماركسية تتألف من /20/ نقطة, فنحن نتفق معها في /18/ نقطة, ونختلف في نقطتين هما: مسألة الصراع الطبقي, ومسألة الدين.). لذلك من هنا جاء تحديد البنية الطبقية لديه بقوى الشعب العاملة. وهذه البنية الطبقية المفتوحة ذاتها حددها البعث في منطلقاته النظرية (عمال فلاحين صغار كسبة البرجوازية الصغيرة ضباط الجيش الطلاب) بل وحتى البرجوازية الوطنية. وهذا ما جعل البنية الطبقة لهذه الأحزاب في حالة من التعقيد والتشابك, الأمر الذي جعل البنية الفكرية لها في حالة طيران دائم, وغالباً ما تُوضع نظرياتها على الرف لتغرق في التكتيك على حساب الإستراتيجية في ممارساتها أثناء قيادتها للدولة والمجتمع.

     أما الأحزاب الشيوعية, فقد استطاعت عبر تاريخها أن تبرز على الساحتين الثقافية والسياسية, رغم ما مورس ضدها من تشويه معرفي /أيديولوجي وأخلاقي, عانت حواملها الاجتماعية كثيراً عبر تنظيماتها ولم تزل تعاني من هذه المسألة حتى تاريخه من قبل القوى السياسية الدينية أو حتى القومية الشوفينية, والكثير من الحكومات العربية التي تجد فيها تهديداً مباشراَ لوجودها, إلا أنها استطاعت بعد نضال وتضحيات مريرة أن تفرض وجودها السياسي والاجتماعي في بعض الدول العربية التي نهجت حكوماتها نهجاً علمانيا في سياساتها, بعد أن تخلت أو تجاوزت هذه الأحزاب في طرحها الفكري بعض الأفكار الأرثوذكسية للماركسية المسفيته التي فرضتها المرحلة الستالينية, وتبنيها لمسألة الربط ما بين النضال القومي والنضال والاشتراكي, وهي الفكرة التي أول من نادى بها في الحقيقة لينين عند قراءته وتحليله لمسألة حركات التحرر في دول العالم الثالث, حيث اعتبر أن المسألة القومية والنضال من أجلها من قبل القوى الاجتماعية المسحوقة والمضطهدة, هي من المواقف الضرورية التي يجب على مناضلي دول العالم الثالث تبنيها لمقاومة القوى الاستعمارية وتجاوز التخلف.

     من جهة أخرى, نود أن نشير هنا إلى مسألة الفكر الوضعي الذي دخل الساحة السياسية أو الثقافية العربية بفعل الاحتكاك بالغرب والتأثر به, بدءاً من رؤى وأفكار الطهطاوي, وخير الدين التونسي, ومحمد عبده, وجمال الدين الأفغاني, وشبلي شميل, وفرح أنطون, وصولاً إلى سلامة موسى, وطه حسين, وأحمد أمين, ورئيف ألخوري, وزكي نجيب محمود, وعبد الرحمن بدوي, وغيرهم الكثير من الكتاب والمفكرين العرب الذين حملوا مشروع هذا الفكر الوضعي, نجد أنهم لم يستطيعوا تبيئة هذا الفكر في الواقع العربي باستثناء الفكر الاشتراكي العلمي, الذي استطاع أن يجد له مواقع قدم في العديد من الأقطار العربية, رغم أن هذا الفكر ومن خلال أحزابه الديمقراطية الثورية والشيوعية, كثيراً ما حورب ليس من قبل القوى الرجعية العربية عموماً, بل من قبل بعض حوامله الاجتماعية ذاتها, الأمر الذي أدى إلى انقسامات غير عادية في صفوف أحزابه ألحامله له, كما جرى في صفوف حزب البعث وكذلك في صفوف بعض الأحزاب الناصرية والشيوعية.

      أما ما تبقى من فكر وضعي في الساحة السياسية والثقافية العربية, ظل في الحقيقة محكوماً بالهاجس والتردد والتساؤل, أكثر مما هو محكوم بالمنطق وقوانينه. لذلك ظل هذا الفكر يشكل إشكالية أيديولوجية ومعرفية أوسع, لم تكتمل ملامحها وأبعادها وأنساقها بعد. هذا إذا ما أردنا أن نقول أيضاً وبثقة عالية, بأن الفكر الاشتراكي العلمي ذاته الذي استطاع أن يجد له محط قدم في الواقع العربي, ظل محاصراً بدوره من الفكر الديني من جهة, ومن قبل التحولات العالمية التي حدثت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي من جهة ثانية, حيث أثرت هذه المعطيات في أحياناً كثيرة على بعض توجهاته العلمية والعقلانية على المستويين النظري والعملي معاً, وهذا ما رحنا نلمسه في معظم الرؤى الفكرية الجديدة للأحزاب الديمقراطية الثورية العربية, وعند بعض الأحزاب الشيوعية .

كاتب وباحث من سورية

d.owaid50@gmail.com

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا