<%@ Language=JavaScript %> د.عدنان عويّد  الأمة العربية ووعي الذات (3 من 7)

   

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

للفيدرالية

لا

للعولمة والتبعية

حضارة بلاد الرافدين   

    

                                              

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين                                    

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org                                                                            

 

 

الأمة العربية ووعي الذات

 

 

(3 من 7)

 

 

د.عدنان عويّد *

 

 

 

 الأمة العربية والسيرورة التاريخية لوعي الذات:

     إن أي باحث أو دارس لتاريخ الأمة العربية كثيراً ما يجد صعوبة في تحديد بداية لهذا التاريخ, أو تاريخ لهذه البداية, فتاريخ أمتنا العربية تكون في الحقيقة من سيرورات وصيرورات لبدايات وتواريخ متفرقة في الزمان والمكان, بحيث أخذ هذا التكون يتمظهر في مجموعات بشرية مبعثرة هنا وهناك. فهي مثلاً قد حققت كياناً اجتماعياً واحداً عبر سيرورة كما هو الحال في مصر مثلاً, أو كيانات متعددة تتابعت أو توالت وراء بعضها كما هو الحال في بلاد الرافدين وبلاد الشام, إلا أن المهم في هذه المسألة, هو كون كل هذه الجماعات استطاعت أن تشكل لنفسها تاريخياَ, مقومات أمة واحدة, بعد أن راحت تضعف أو تتنحي جانباً عبر تاريخها الطويل تلك المقومات السابقة لوجود تشكل الأمة العربية بمقوماتها الحالية,

     إن ما نريد قوله هنا: هو, إن مجموع هذه المقومات الخاصة بشخصية الأمة العربية, والتي غالباً ما تعبر عن حيويتها عند ظهور أي خطر يهدد وجود المجموعات البشرية المكونة لهذه الأمة بشكل مشترك. هي التي شكلت الإرهاصات الأولية للوعي القومي المشترك عند العرب, وبخاصة في الفترة التاريخية التي سبقت الفتوحات, حيث واجهت المجموعات العربية قبل الإسلام وخضعت لسيطرة حضارات وثقافات أمم عديدة لفترات زمنية طويلة, ولكن مع أول بدء الفتوحات الإسلامية وسيطرة العرب المسلمين على تلك البلاد خارج الجزيرة العربية وبخاصة فيما يعرف اليوم بالبلاد العربية, وجدنا تلك المجموعات تعود بشكل سريع إلى حاضنتها أو مرجعيتها القومية التاريخية الأصيلة, وتبدأ بالتخلي تدريجياً عن الكثير مما اكتسبته من سمات وخصائص حضارية خاصة بكل مجموعة بسبب عزلتها التاريخية من جهة, ثم بسبب ما فرضته عليها الشعوب الغازية لها من قيم حضارية مثل الفرس واليونان والرومان من جهة ثانية.    

     نعم لقد استطاع الإسلام كما بينا في موقع سابق أن يعيد إنتاج الكثير من المقومات المشتركة لهذه الأمة المبعثرة, وبالتالي إعادة إنتاج وعيها لذاتها, ومعرفتها بأنها أمة قد كلفت بحمل رسالة الإسلام الإنسانية بما فيها من العدل والمساواة والمحبة للجميع, هذا إضافة لشعور العرب بأن الرسالة الإسلامية هي دعوة لتوحيدهم, من خلال تأكيدها على الربط بين العروبة والإسلام, وبخاصة تأكيدها على أن القرآن عربي اللغة, وأن لسان أهل الجنة لسان عربي, وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تريد تأكيد مسألة العروبة وربط الإسلام بها.

     إذاً, مع انتشار الدعوة الإسلامية أعيد إنتاج الوعي القومي عند العرب من جديد, بحيث أصبح هناك لغة مشتركة, وقد أُزيلت  الفروقات الجوهرية اللغوية التي تشكلت تاريخياً بفعل عزلة هذه المجموعات عن بعضها, كما أصبحت هناك قيم وأخلاق وعادات وتقاليد وآمال وآلام وأرض وتاريخ ومصالح مشتركة. أي شكل الإسلام للعرب مقومات القومية التي نادى بها فيما بعد الكثير من المفكرين القوميين الأوربيين, فراحت تترسب في الوجدان الاجتماعي والحس الثقافي للعنصر العربي, مثلما راحت أيضاً, تمارس نشاطها ودورها التاريخي كقوة مادية وروحية في مواجهة التحديات الشعوبية وغيرها التي رمت إلى النيل من العرب والعروبة والإسلام, كما أشرنا في موقع سابق.

     إن من يتتبع الحالات التي كان يعبر العرب من خلالها عن إحساسهم بوعيهم القومي عبر التاريخ, غالباً ما يجد أن من يحرك هذا الوعي بشكل عام هو طبيعة المرحلة التاريخية المعيوشة, وذلك انطلاقاً من مستوى تطور قوى وعلاقات الإنتاج, ثم الوضعية الطبقية والسياسية والثقافية في هذه المرحلة التاريخية أو تلك. فالمرحلة التاريخية التي أنتجت معركة "ذي قار" مثلاً, أفرزت إحساساً بالوعي القومي لدى عرب الجاهلية, يختلف في طبيعته ودرجة نضوجه وعمقه, وبالتالي وسائل التعبير عنه عما جرى في عام "الفيل", أو في مرحلة مواجهة الدعوة الشعوبية في صدر الإسلام. فالذي يقرر طبيعة هذا الوعي ومحرضاته ودرجة عمقه, والحالات التي يتمظهر فيها والوسائل المستخدمة في التعبير عنه, هو العامل الملموس في الزمن الملموس. ففي المرحلة التاريخية التي ظهرت فيها الحركات الشعوبية, وهي المرحلة التي تراجعت فيها سلطة الحكام العرب, أمام سلطة الأعاجم, وبدء إقصائهم عن دورهم الحضاري, وبالتالي تراجع الدور العربي في تحديد مصير الدولة العربية الإسلامية, استطاعت الحركات الشعوبية ولأول مرة في تاريخ الدولة العربية الإسلامية, أن تدفع العرب وبوعي للبحث عن ذاتهم المغيبة ومحاولة تأكيدها من جديد. وهذا ما فعله "الجاحظ" في كتابه "البيان والتبيين", أو ما فعله "الضبي" في "الأصمعيات والمفصليات", أو ما فعله كتبة التاريخ العربي, أمثال "ابن قتيبة", في كتابه "المعارف", أو "البلاذري" في كتابه "أنساب العرب, و "فتوح البلدان". (2)

     نعم, إن ردود الفعل لدى الباحثين والمؤرخين العرب تجاه الحركات الشعوبية, لعبت دوراً بارزاً وإيجابيا بالنسبة للعرب, حيث استطاعت إلى جانب مسألة تأكيدها لمقومات الأمة العربية ودورها التاريخي, وثقافتها وقيمها وخصائصها وسماتها المشتركة, توثيق وتسجيل تلك المسائل, لتصبح فيما بعد مرجعاً تاريخيا, تعود إليه الأجيال اللاحقة في كل مرة تتعرض فيها هذه الأمة لتحديات تحاول النيل من وجودها وحضارتها, وما أكثر هذه التحديات التي لم تنقطع يوماً عبر تاريخ هذه الأمة.

     مع بداية القرن التاسع عشر, ازداد احتكاك العرب مع الغرب تحت ظل الدولة العثمانية, فبدأت مسألة التمايز تظهر بوضوح لدى بعض المتنورين العرب الذين اطلعوا على الحضارة الغربية, وتأثروا بعلومها الاجتماعية والسياسية والمهنية, فراح هؤلاء المتنورون العرب يسٌوقون في مناطق تواجدهم ما تأثروا به من علوم "برانية" عل حد تعبير "الطهطاوي". وبتسويقهم لهذه العلوم أخذوا يمارسون قانون نفي الذات من أجل إعادة إثباتها لهذه الأمة العربية بهذا الشكل أو ذاك. بمعنى آخر, إن ما طرحه (الطهطاوي, وخير الدين التونسي) مثلاً, من أفكار حداثية تتعلق بقضايا التنمية البشرية والطبيعية بسبب تأثرهما بالحضارة الغربية, بغية تطوير مصر محمد على, وتونس محمد الصادق, لم يكن الهدف من هذا الطرح أو التبني آنذاك تحقيق بعد قومي, بقدر ما كان الهدف تقوية هذين الدولتين من اجل الانفصال عن الدولة العثمانية, وتشكيل دولة مستقلة قوية لكل منهما. بيد أن عملية التحديث ذاتها هنا, لعبت بهذا الشكل أو ذاك, دوراً لا يستهان به في خلق المقدمات الأساسية لامتصاص بعض مقومات الحضارة الغربية وإشعار العرب بالفارق الشاسع بينهم وبين الغرب تحت ظل الاستعمار العثماني, وبالتالي التأسيس لمنطلقات فكرية أيضا ذات توجهات وطنية وقومية راحت تتبلور شيئاً فشيئاً عند بعض الكتاب والمتنورين العرب هنا أو هناك من الوطن العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, ساهمت في العمل على كشف معوقات نهضة هذه الأمة من جهة, أي ساهمت في العمل على نفي ذات أمة متخلفة, والدعوة إلى إثبات ذاتها من جديد كأمة لها مكانتها وحضورها التاريخي بين الأمم, أي الدعوة لنهضة أمة تعيش تحت ثقل التخلف. ففي هذه المرحلة بالذات- أي النصف الثاني من القرن التاسع عشر – وصلت الثورة الصناعية الأوربية إلى مرحلة متطورة, بدأت نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تنعكس بالضرورة على العالم الآخر ومنه العالم العربي, وبالتالي إدخال هذه النتائج بالضرورة في عالم نشاط هذه البلدان أو المجتمعات المتخلفة, والعمل من قبل القوى الامبريالية على هيكلة هذه البلدان المتخلفة بما يتناسب ومصالح الرأسمال الاحتكاري الأوربي. ومع عملية الهيكلة تلك, أخذت تبرز على الساحة العربية جملة من التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية, ساعدت برمتها على تحريض مقومات الشعور الوطني والقومي لدى الكثير من الكتاب العرب النهضوين بكل توجهاتهم الفكرية وبخاصة الليبراليين والعلمانيين منهم, أمثال: (إبراهيم اليازجي, سليم البستاني, بطرس البستاني, شبلي شميّل, فرح أنطون, فرنسيس مراش, الكواكبي, أديب اسحق, عبد الغني ألعريسي, محمد عبده...), وغيرهم الكثير. وعلى الرغم من أن معظم هؤلاء الكتاب استطاعوا خلق أرضية سياسية وثقافية جديدة ذات توجهات قومية ونهضوية جديدة تحمل بين ثناياها ما جذره الإسلام من مقومات للمسألة القومية, عند العرب من جهة, ولما حمله لهم الفكر الغربي من رؤى ونظريات في الاتجاه القومي بصيغته العلمانية من جهة ثانية, إلا أنهم لم يستطيعوا خلق فعل نهضوي – أي بلورة حقيقية للذات العربية- وذلك بسبب عدم توفر الكثير من الظروف الموضوعية والذاتية الضرورية لتحقيق هذه النهضة وفي مقدمتها يأتي غياب التنظيم المشترك لهذه النخب المتعلمة, وغياب المرجعية الاجتماعية والسياسية والثقافية المشتركة لها, هذا إضافة إلى سيطرة الاحتلال العثماني, وسيادة الجهل والتخلف والأمية بكل دلالاتها لدى نسبة كبيرة جداً من أبناء الشعب العربي, مع ما رافق هذا الجهل من سيطرة استبدادية للسلطة الحاكمة, وهي السلطة التي كانت تحارب أية توجهات فكرية ذات طابع علماني, أو توجهات سياسية يمكن أن تهدد أي ركن من أركان دولة الغنيمة تلك. وهذا بدوره ما دفع قسماً كبيراً من هذه النخب أن تلجأ إلى الغرب فيما بعد (الثورة العربية الكبرى) لتحقيق طموحاتها النهضوية عندما لمست حالة العجز عند الجماهير في قبول أفكارها, فكان الأمر في توجهها هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار. 

     حقيقة إن ما قام به المتنورون النهضويون العرب في القرن التاسع عشر, من تحريض معرفي لتأكيد الذات العربية المضطهدة والمستلبة تحت ظل الدولة العثمانية, والاختراق الغربي لهذه الدولة بنيوياً, ورغم كل المعوقات الموضوعية والذاتية التي رافقت عملية التحريض تلك, إلا أنها استطاعت أن تدفع بالوعي القومي العربي أشواطاً بعيدة إلى الأمام, بل يمكن القول : إن الوعي القومي راح يتمظهر في الربع الأخير من القرن ذاته باتجاهين أساسيين هما: الاتجاه الديني الإسلامي, والاتجاه العلماني. وإذا كان الاتجاه الإسلامي قد انطلق في رؤيته القومية هذه من العقيدة الإسلامية نفسها, متكئاً عل آيات وأحاديث ومقولات كنا قد أشرنا إلى بعضها في موقع سابق مثل: ( لسان أهل الجنة لسان عربي. وإنا أنزلناه قرآناً عربياً. وأن لغة القرآن هي اللغة العربية... الخ.), فإن التيار العلماني انطلق في رؤيته بالمقابل- إضافة إلى رؤية التيار الديني- من الفكر التنويري الغربي الذي سوقت له المدارس التبشيرية من جهة, أو ما دخل البلاد العربية مع المتنورين العرب الذين درسوا في أوربا وتأثروا بنظريات الفكر القومي هناك, بحيث انطلق دعاة هذا التيار لتأكيد المسألة القومية من خلال التأكيد على أن الأمة العربية تمتلك مقومات خاصة بها مثل اللغة والعادات والتقاليد والمصالح الاقتصادية المشتركة والإرادة المشتركة والتاريخ المشترك, وغير ذلك. أما مسألة الرابط أو العامل الديني, فلم يشكل عندهم العامل الأهم هنا, بسبب استغلال الدين نفسه من قبل الدول العثمانية, ومحاولة فرض سيطرتها على العرب بكل مكوناتهم الدينية باسم الرابطة الإسلامية, الأمر الذي دفع بعض المتنورين العرب من مسلمين ومسيحيين, لطرح الفكرة القومية العربية بعيداً عن الدين, معتبرين أن الوطن للجميع دون النظر إلى مرجعيته الدينية أو حتى الإثنية, أما الإسلام الذي أراده هؤلاء المتنورون, فقد بينه الكواكبي بقوله: (لا يوجد في الإسلام نظام حكم, أو نفوذ مطلق في غير مسائل الدين.). أو ما بينه علي عبد الرازق في نهاية الربع الأول من القرن العشرين في كتابه ( الإسلام وأصول الحكم), وربما الذي دفع المتنورين العرب إلى هذا الموقف الفكري, هو تبني الدولة العثمانية لشعار الرابطة الإسلامية كما أشرنا قبل قليل, مثلما دفعهم أيضاً, شعار النزعة الطورانية التي أرادت تذويب الشخصية العربية, أو إقصاءها خارج التاريخ.  

الوعي القومي العربي في مرحلة ما بين الحربين :

     بعد قيام الثورة العربية الكبرى /1916/, وسيادة ما سمي بالمرحلة "السايكسبيكوية", أخذت تظهر ملامح جديدة للوعي القومي العربي استطاع الكاتب والمفكر العربي النهضوي "رئيف ألخوري" أن بقوم برصدها عند بعض الكتاب والسياسيين العرب في تلك المرحلة, ونظراً لما تحمله عملية الرصد التي تقدم بها "ألخوري" من عقلانية, فقد دفعت الكاتب الدكتور "عبد الرزاق عيد" أن يتبناها ويقدمها للقارئ العربي أيضاً في نهاية القرن العشرين في كتابه ( ياسين الحافظ – نقد حداثة التأخر), مشيراً في بعض فصوله إلى طبيعة الخطاب القومي كما وصفه "ألخوري" حيث يقول: بأن ألخوري استطاع تحليل نظام الخطاب القومي في المرحلة المشار إليها, وتبين له بأنه (خطاب مشاعر وأهواء, وحدس صوفي, لا يخلوا من أصداء الحدس البروغسوني). هذا وقد ساد الخطاب القومي في سياقه العام هنا صياغات ذات بعد دلالي تحيل إلى الداخل... إلى الجوهر, كتأكيدها على (سيادة الجنس العربي على الأجناس الأخرى, وعلى الثقافة العربية وما يكمن وراءها من قوى روحية خاصة, والنبوغ الخالص للغة العربية.. إلخ).     إن الخطاب القومي هنا يكشف عن نظام قيمي كما يقول الدكتور (عيد), لا عن أحكام واقع... عن الداخل المبطن بالوجدان , لا عن الخارج بحضوره الكثيف في مواجهة العقل...عن أشواق حرية الداخل للإنعتاق, لا عن تطلعات الأمة للحرية بوصفها عنوان الإنعتاق من الاستعمار وتحقيق السيادة والاستقلال الوطني, أي الوصول إلى وعي الذات.

     لا شك أن جملة الظروف الموضوعية والذاتية التي كانت تحيط بمرحلة ما بين الحربين, لم تكن قد تغيرت كثيراً عن مرحلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر, فهي مرحلة ظل فيها العرب يفتقدون عملياً إلى الحامل الاجتماعي القادر على حمل لواء المشروع النهضوي القومي في إطار المعادلة التي أشرنا إليها في موقع سابق من هذه الدراسة وهي: ( نفي الذات وإعادة تأكيدها أو إثباتها), فالحامل الاجتماعي ممثلاً في هذه المرحلة بشرائح البرجوازية الوطنية, المؤلفة أصلاً من كبار أعيان المدن والملاكين والتجار, كل الذي استطاع القيام به هذا الحامل, هو قيادة المشروع النضالي لطرد المستعمر من بعض الأقطار العربية, بعد أن تحرك في هذا الاتجاه بتوجهات سياسية مشبعة بالروح الوطنية الرومانسية. غير أن هذا الحامل لم يستطع في الحقيقة أن يعمل على حل المسألة السياسية والاجتماعية التي عرضت عليه بعد الاستقلال حلاً ثورياً. أي هو لم يستطع أن يتجاوز القطرية بعد طرد المستعمر من جهة, مثلما فشل في خلق القاعدة الإنتاجية التنموية القادرة على تحقيق الاندماج القومي والمشاركة الجماهيرية في النشاط السياسي , وبالتالي نقل الدولة من دولة العشيرة والقبيلة والطائفة, إلى دولة المواطنة والمؤسسات والقانون من جهة ثانية, كما فشل أيضاً في تحقيق توزيع عادل للدخل الوطني بين أفراد المجتمع من جهة ثالثة. ومع ذلك فإن الذي استطاع أن يقدمه هذا الحامل الاجتماعي ممثلاً هنا  بأعيان المدن والريف  وبعض رجال الدين المتنورين , يعد أمراً على غاية الأهمية بالنسبة للمرحلة إياها, وهي طرد المستعمر الأوربي كما أشرنا من البلاد العربية وتحقيق الاستقلال السياسي المباشر. 

الوعي القومي في مرحلة ما بعد الاستقلال. وتجربة الأحزاب الديمقراطية الثورية:

     إن القيادات السياسية الممثلة لمرحلة ما بين الحربين العالميتين, بعد أن أٌنجز المشروع التحرري القطري, سرعان ما أثبتت عجزها في حل المسألة السياسية والاجتماعية حلاً ثورياً كما أشرنا في موقع سابق. كما جاءت نكبة فلسطين /1948/, امتحاناً عملياً لهذه القيادات على المستوى القومي, وهذا كان كافياً لوحده كي يعريها أمام الجماهير العربية الواسعة وفي مقدمتها شرائح البرجوازية الصغيرة وبخاصة شرائح "الأنتليجينيسيا" وهي شرائح أو قوى جديدة راحت تطرح نفسها كبديل سياسي بقوة مع نهاية الحرب العالمية الثانية حتى هذا التاريخ.

     إن القوى الاجتماعية الجديدة من شرائح "الأنتليجينيسيا" التي عانت بدورها من ظروف القهر الاستعماري, وتخلف قياداتها السابقة من أعيان المدن والملاكين الكبار, انطلقت فكرياً في بداية أمرها من النسق الفكري الذي يؤكد على المسألة القومية في إطارها الرومانسي, وهذا يعود بدوره إلى عوامل كثيرة يأتي في مقدمتها التالي:

     1- سيادة الشعور القومي بإطاره السابق "الرومانسي", وانتشاره بشكل واسع في تلك المرحلة التي سميت "مرحلة المد القومي", بين أبناء الجماهير الشعبية في الوطن العربي, هذه الجماهير التي كانت تطمح إلى تحقيق المشروع الوحدوي على الطريقة الهاشمية, كما طرحتها الثورة العربية الكبرى عام /1916/.

    2- سيادة الفكر الإسلامي في تلك الفترة كفكر موازي للفكر القومي إن لم يكن أكثر منه قوة وحضوراً في الساحة العربية, وهذا ما جعل الكثير من المفكرين والسياسيين العرب القوميين يعيدون فكرة ربط العروبة بالإسلام, كما فعل "ميشيل عفلق" مع بداية تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي, بالرغم من انتمائه للديانة المسيحيّة.

     3- قصور الفكر الاشتراكي العلمي في ربطه بين النضال القومي والنضال الاشتراكي, بسبب طبيعة العقلية الراديكالية السائدة في الأحزاب الشيوعية آنذاك تجاه الفكر القومي, لتأثرها بمواقف الحزب الشيوعي السوفيتي الأممية, هذا إضافة إلى محاصرة الأحزاب الشيوعية ذاتها من قبل القوى الرجعية الحاكمة من أعيان المدن وكبار الملاكين.

    4- غياب القوى الطبقية (الحامل الاجتماعي), الواعية لذاتها والأكثر ثورية في تلك المرحلة أيضاً, وتصدر المشهد السياسي شرائح من القوى الاجتماعية المنتمية بمعظمها للبرجوازية الصغيرة, وهي قوى اجتماعية لها عقليتها ونفسيتها الخاصة التي غالباً ما تميل إلى (الكبرياء, والفردية, والغرور والسهولة في النضال, والسلوك المظهري الشكلي, والتهويش, والغلو الذي يتستر بالثورية, والركض وراء المناصب, والتعالي على جماهير الشعب وعلى المناضلين المتواضعين, والابتعاد عن العمل اليومي البسيط الدؤوب في أصغر الوقائع والقضايا, والإكثار من الثرثرة الثورية, والاكتفاء بالوعظ دون التفتيش عن أدوات موضوعية للنضال.). (3 ) وهذا في الواقع ما لمسناه في سلوكية قسم كبير من هذه الكوادر عند قيادتها للأحزاب الديمقراطية الثورية, وبخاصة بعد استلام هذه الأحزاب السلطة في بعض البلاد العربية, حيث تحول قسم كبير من قيادات هذه الأحزاب إلى قوى بيروقراطية طفيلية, أخذت تتصارع في النهاية مع بعضها داخل أحزابها, وعلى مستوى تنظيماتها القطرية. هذا دون أن نغفل مسألة أساسية تتعلق في البنية التنظيمية لهذه الأحزاب, وهي قدرتها على فرز حوامل اجتماعية طليعية في المقابل ارتبطت مصالحها بمصالح الجماهير الكادحة, وبالفكر العلمي التنويري, كما استطاعت إلى حد ما أن تسلط الضوء أو بعضه على مشاكل الواقع العربي ومعاناته, والوصول إلى عمق مأساته. فالرؤية العاطفية والوجدانية "الرومانسية" تجاه المسألة القومية مثلاً, لم يعد لها مكان في الرؤية الفكرية لدى هذه الحوامل الثورية, وإنما أصبحت الرؤية أكثر عقلانية وموضوعية, أي رؤية تنويرية, اتخذت من العقلانية والعلمانية والتاريخية منهجاً في تعاملها مع الواقع العربي.

     أما أول تنظيمين سياسيين استطاعا منذ بداية النصف الثاني للقرن العشرين أن يتعاملا مع المسألة القومية بشيء من العقلانية في أدبياتهما الفكرية, هما حزب البعث العربي الاشتراكي, والتنظيم الناصري. وسأكتفي هنا على عجالة في تناول الرؤية القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي, كونه استطاع أن يمارس السلطة في بلدين عربيين ولازال قائما في سورية حتى هذا التاريخ.

      لقد جاء في دستورالبعث, وفي المبادئ الأساسية منه ما يشير إلى موقفه العقلاني تجاه وحدة الأمة العربية وحريتها وشخصيتها ورسالتها.(4)

      في عام /1963/ وضع حزب البعث العربي الاشتراكي المنطلقات النظرية للحزب, التي شكلت ولم تزل تشكل الدليل النظري لهذا التنظيم بسماته العلمية والثورية, وعبر هذا الدليل النظري استطاع البعث أن يحدد الطريق العقلاني لفكرة القومية العربية, أي تحقيق الوحدة العربية, متجاوزاً كما قلنا الرؤية: البروغسونية" الرومانسية, حيث يقول في المنطلقات: ( إن الوحدة بين أقطار خلفت التجزئة فيها الرواسب الإقليمية المتخلفة, والمصالح الضيقة, عمل ضخم جبار يتحدد بالضرورة في التزام أيديولوجي, وذلك على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على السواء. وهذه الأيديولوجيا لا بد أن تكون معبرة بأمانة عن مصالح الجماهير من جهة, ومعتمدة عليها كتنظيم من جهة أخرى, فلكي تضمن الوحدة الشروط الموضوعية لانطلاقة صحيحة, لا بد أن تنبثق عن جماهير واعية مكونة تكويناً سياسياً... مسؤولة ومنظمة تنظيماً صحيحاً, وربما أن روح الديمقراطية هي الإيمان بالجماهير, لذا فإن الكفاح الوحدوي هو كفاح ديمقراطي اشتراكي بالضرورة.).(5 )

     نعم إن عملية تحقيق الوحدة العربية والبناء القومي السليم, لا يمكن أن يتحققا عبر مواقف رومانسية جياشة, أو عن طريق الثرثرة الثورية, أو عن طريق تنازل هذا الزعيم أو ذاك عن منصبه لزعيم آخر, أو عن طريق تضحية هذا الحزب بتنظيمه على مذبح الوحدة. إن عملية البناء القومي تتطلب النظر العقلاني والموضوعي في جملة الظروف الموضوعية والذاتية التي تحيط بواقع هذه الأمة وتحليلها تحليلاً علمياً من جهة, ثم العمل على رسم الحلول الكفيلة من أجل تجاوز معوقات تقدم هذا الواقع من جهة أخرى, وذلك لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الالتزام بموقف أيديولوجي يعبر عن مصالح الجماهير أولاً, ثم العمل على خلق التنظيم الثوري القادر على تنظيم الجماهير وتكوينها سياسياً, بحيث تصبح قادرة على تحمل المسؤولية تجاه القضايا الوطنية والقومية الملحة ثانياً, وأخيراً تعميق الروح الديمقراطية بين الجماهير وإيصالها إلى قناعة أكيدة بأن الكفاح الوحدوي هو بالضرورة كفاح اشتراكي وتحرري. وإذا كان "حزب البعث" بطرحه العلمي النظري هذا للمسألة القومية قد عبر  منذ بداية تأسيسه عن تطلعات القوى  القومية التقدمية في الساحة العربية, تسانده فيما بعد في موقفه هذا التنظيمات الناصرية وبعض القوى اليسارية التي آمنت بضرورة الربط ما بين النضال القومي والنضال الاشتراكي, إلا أن الساحة الفكرية ذاتها لم تعدم أيضاً الكثير من الكتاب والمفكرين السياسيين العرب القوميين التقدميين الذين عالجوا المسألة القومية بالرؤية ذاتها, أي, الرؤية العقلانية النقدية, فإذا كان "رئيف ألخوري" قد مثل النصف الأول من القرن العشرين, فإن "ياسين الحافظ  والياس مرقص", قد مثلا النصف الثاني من القرن ذاته. وهما مفكران, ساهما مساهمة فعالة مع بعض مفكري حزب البعث أمثال: ( منيف الرزاز, ومحمود الشوفي), في الحركة النضالية والفكرية معاً في مرحلة مهمة من تاريخ هذا الحزب. وهذا ما يجعلنا نلمس ذاك التوافق في رؤية ياسين الحافظ تجاه المسألة القومية مع رؤية البعث, فالمسألة القومية عنده شكلت هماً نهضوياً يتجاوز حدود الخطاب الأيديولوجي السياسي المجرد, ليكون في صلب إشكالية التأخر وبمستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا هو: هل استطاع حزب البعث, أو الحركة الناصرية, أو رئيف ألخوري, أو ياسين الحافظ, وكل المفكرين القوميين العرب من نديم البيطار إلى عصمت سيف الدولة وغيرهم, أو كل الفكر العقلاني الذي طرح على الساحة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى هذا التاريخ أن ينجزوا المشروع القومي العربي؟. أو بمعنى آخر, أن يتجاوزوا حدود خطابه الأيديولوجي ويتعاملوا بعقلانية في الممارسة مع معوقات حركة التحرر العربية في كافة مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية؟ .

     لا أظن أن الإجابة على هذا السؤال الإشكالي ستكتفي بالقول:( نعم أو لا.). فالإجابة هنا تتطلب منا النظر بموضوعية وعقلانية إلى جملة الظروف الموضوعية والذاتية في نطاقيها الداخلي والخارجي معاً التي تحيط بالمسألة إياها عبر سيرورتها وصيرورتها التاريخيتين, ولكوننا قد جئنا في مواقع متفرقة من هذه الدراسة على أهم الجوانب الأساسية المتعلقة بالمسألة القومية في سياقها التاريخي, فلا بد لنا هنا أيضاً من النظر في بعض القضايا المنهجية التي تشكل المنطلق المعرفي (الإبستمولوجي) لدراسة المسألة القومية كمشروع نهضوي له معوقاته, مثلما له منطلقاته الفكرية والعملية معاً.

 

 

* كاتب وباحث من سوريا

d.owaid50@gmail.com

  

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

 

   الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا