أخطر علامة إستفهام في العالم

 

 

حمزة الحسن

 

أخطر علامة استفهام في العالم هي علامة الاستفهام العراقية،
وهي العلامة الوحيدة التي تصبح حُكماً
ملزماً خارج نطاق القضاء،
وبلا قانون ولا شهود ولا محامي دفاع ولا شاهد اثبات ولا شاهد نفي،
ولا بواب محكمة ولا مقاعد للجمهور،
بل حتى بلا قفص،
بلا قرار مكتوب وفي أغلب الاحوال بلا علم المتهم المسكين،
الذي قد يموت دون أن يعرف ان الطربوش وضع على رأسه،
وانه صار سالوفة بين الطوائف يا حريمة.

وعلامة الاستفهام من تقاليد الاحزاب العراقية الثورية،
ثم صارت تقليدا اجتماعيا وثقافيا أيضا،
حيث يستطيع أي صرصور حزبي أو أبو جعل ثقافي كل ثقافته المنشور والافتتاحية وملخصات حزبية لا تكفي لتثقيف أرنب أو زرزور أو عنزة أو بزّون،
أن يضع( علامة استفهام) على من يشاء وكيفما يشاء،
وهي العلامة الوحيدة التي لا تزول بكل أنواع المساحيق والمراهم والمواقف والمتفجرات والعلوم وثورات العالم،
وهبوط وصعود امبراطوريات،
وسقوط دول وعشرات الحروب العالمية والمحلية،
وآلاف الاختراعات وعمليات غزو الفضاء،
وملايين المبتكرات والاختراعات،
لأن الانسان في بلدنا المحبوب والمتناقض، حسب ذهنية الاختزال، هو عبارة عن ملف في خزانة أو حاسوب،
لا يتطور ولا يتدهور ولا ينمو ولا يتغير ولا يشيخ ولا يهرم ولا تتبدل نظرته للعالم ولنفسه،
ونعتقله في صفة،
ويُمنح رمزا ــــ كوداً سلبيا أو ايجابيا واحدا ــــ ويُغلق عليه الملف،
حتى صرنا سجوناً متنقلة.

اذا قال عنك " مسؤول" حزبي صغير أو كبير في مقهى أو حانة أو رصيف أو مبولة عمومية وهو في حالة ترنح،
ان عليك" علامة استفهام" في زمن ظهور نعال ابو الاصبع والدراجة الهوائية والقطار وقلم الحبر والبنطال والسيارة والمكنسة الكهربائية وقلم الشفاه،
فعليك أن تكافح وتناطح عشرات السنوات في زمن مختلف،
زمن الليزر والطائرات النفاثة والقنابل الذرية والحرارية والفراغية،
وزمن تأجير الارحام واكتشاف الشفرة الوراثية وغزو الكواكب،
وانهيار احلاف وامبراطوريات وبداية قرن جديد،
لكي تثبت ان علامة الاستفهام هذه غير صحيحة،
هذا اذا اكتشف المجني عليه هذه العلامة،
اذ غالبا ما يتم التغليس بحضور المسكين الذي يرى العداوة لكن لا يرى اسبابها كما يقول الشاعر.

بالمقارنة بين قضاة رواية كافكا( المحاكمة) وبين محاكم الاشباح العراقية،
مسافة كبيرة،
لأن جوزيف.ك. الشخصية المحورية في الرواية واجه قضاة وقاعة محكمة على غرابتها،
واتيحت له فرصة الدفاع عن نفسه،
رغم انه هو الاخر لا يعرف نوع التهمة،
وليس من الضروري ان يعرف اذا كانوا( هم) يعرفون،
لأن السلط الشبحية تعرف عن الانسان أكثر مما يعرف هو عن نفسه.

كيف يمكن التأسيس لأخلاقيات الوعي القانوني والثقافة الحقوقية بل حتى الحس الحقوقي اذا كان الفرد يتربى من السلطة والاحزاب،
على هذه الخفة وهذه الارتجالية وهذا الوصم؟

في التاريخ العراقي الحديث أُعدم الآلاف في كل الحقب والمراحل،
وغالباً كنا نسمع شهادة السلطة،
لكن من النادر ان نسمع شهادة الضحايا،
الذين يختفون أو يعدمون في غرف سرية أو حتى في ساحات علنية بلا محاكم ولا دفاع ولا وداع أيضاً.

التاريخ العراقي القديم والحديث عن الجماعات والأفراد هو تاريخ تخيلي ـــ استعمل هذا المفهوم من المفكر الفرنسي جوزيف مايلا ــــ والتاريخ التخيلي غير التاريخ الموثق والمدون،
بل هو المرويات الشفوية والمرتجلة والحكايات الشعبية المتناقلة التي تصبح مع الوقت حقائق صلبة من كثرة التكرار،
وحتى بعد اكتشاف الحقائق لا يستطيع الشخص المُلقًّن أن يغير زوايا النظر او تقبل الحقائق الجديدة،
لأن المواقف التي تستوطن العقل لسنوات طوال تصبح حالة عضوية ضمن النسيج العضوي بحيث يصبح التغيير صعباً وفي حالات مستحيلاً،
لذلك يستطيع أي مشعوذ أو محتال أن يُفسر التاريخ الشفوي التخيلي حسب رغبته مما أحدث انقساماً اجتماعياً عميقاً حول كل حوادث الماضي والحاضر.

لكن من هو هذا الراوي الشبحي الذي يقرر مصير الناس والجماعات؟ من أين تنبع هذه السلطة الصارمة لهذا العراب الكبير او الأخ الأكبر بتعبير جورج أورويل؟
وكيف يمكن لشعب عريق أن يقبل بهذا الاستخفاف والنزق والخفة الصبيانية هذا الحكم بلا سؤال ولا فحص ولا شك حتى؟

رغم كل الويلات والكوارث التي جرحت شعوب العالم ، بل أدمت الضمائر، لا يزال الشبح العراقي الذي يصول ويجول في الوصم والدمغ يسحق الناس، نياماً، بعلامة الاستفهام الأكثر رسوخاً وصلابة من جبال الحجر،
بل انتقلت هذه العلامة من وصم الافراد الى وصم ودمغ الطوائف،
كل الطوائف،
ومن هذه الى دمغ المدن،
التي تُسمى في زمن بيضاء أو سوداء،
موالية أو غير موالية،
وفي زمن اليوم مدن طائفية ــــ مدن قتلة ــــ مدن نظيفة ـــ مدن مشبوهة ــــ مدن آمنة ــــ مدن عليها علامة استفهام وفيها خلايا نائمة،
ومتى تستيقظ هذه الخلايا النائمة؟
ومن هم هؤلاء؟
كيف تم تحديدهم؟ على أي معيار؟
لا أحد يعلم لأن عقلية( نحن ولد الكريّه ـــ كلمن يعرف أخيّه) هي شعارنا المضاد لشعارات الثورة الفرنسية في ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته،
أو حتى المنطق الاسلامي العظيم في( لا يجوز القصاص قبل البينة) وهو قبل الثورة الفرنسية بمئات السنوات.

في نهاية كل عام، وعند فحص( خسائر العام الماضي) أقف مبهوراً أمام هذا العطب المعرفي. معرفي فقط؟

في غياب الوعي القانوني ــــ الحس الحقوقي الفطري ـــ الثقافة القانونية،
يزول الفارق بين الانسان والبهيمة،
بل ان الاكتشافات الحديثة تجزم بأن الحيوانات تتمتع بأخلاقيات حقوقية،
وانها تلتزم حرفيا بــــ ( الحدود) بين الاجناس ومع بعضها،
ويمكن العودة الى الكتاب المذهل ( العدالة في عالم الحيوان) للمؤلفين مارك بيكوف عالم بيئة وعلم الاحياء التطوري والفيلسوفة جيسيكا بيرس.

كيف يمكن بناء سلطة عادلة بعقلية من هذا النوع؟
كيف نتوقع ان يكون الحاكم عادلاً وأميناً وصادقاً،
اذا كان هو نتاج بيئة من هذا المستوى؟

علامة الاستفهام هنا ليست سوى رأس جبل الجليد،
وهي مثال صغير،
عن ثقافة منتجة للجريمة،
تختزل الانسان والجماعات في تاريخ متخيل وسرديات متنقلة:

هذه الثقافة لا تظهر في الشعارات الكبرى الكاذبة،
لكنها تظهر في الصور الصغيرة المجهرية،
أو ما يعرف بالزوايا المخفية أو المسكوت عنها،
أو التفاصيل الصغيرة التي تخفي الشياطين الكبيرة:

ما أكثر التفاصيل،
ما أكثر الشياطين، أيضاً.

 

حمزة الحسن

عن صفحة الكاتب على الفيس بوك :

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10152640961372266