<%@ Language=JavaScript %> حمزة الحسن " العزل المنظم"

 

" العزل المنظم"

 

 

حمزة الحسن

 

 

عزل مناطقي وعزل طائفي، عزل عن العالم بالحصار، وعزل جغرافي حسب المذاهب، عزل قومي،
وعزل عن الذات بدوامة مستمرة، عزل بين الاحياء بالحواجز، وبين الحي الواحد والشارع الواحد والقبيلة الواحدة حسب القناعات والعقائد والاصول والاعراق، عزل عن الحاضر بالغوص في وحول الحرب، وعزل عن المستقبل،
عزل الانسان نفسه عن جسده ومصيره وخياراته واحلامه وعن تفكيره، بعد كل أنواع العزل والفصل والجدران المادية والنفسية والفكرية والطائفية.

بعد تمسك الانسان بأرضه وهويته وتاريخه العام والخاص، جاء الدور هذه المرة على" المناطق العازلة" بين الدول، وبين المدن وماضيها، وبين الماضي والحاضر والمستقبل.

بعد عزل الجيش عن الوطن وتحويله الى عقار وملكية خاصة وضيعة وشركة باسم هذا الحاكم أو ذاك،
مرة جيش صدام، وأخرى جيش المالكي، وثالثة جيش العبادي، جاء العزل العسكري بين فرق الحشد والقوات الشعبية، مرة يسمى الحشد الطائفي، وأخرى الحرس الوطني الطائفي أيضاً، كأن الصراع الطائفي الفقهي لم ينفع حتى نتسلح.

العزل يتم بين الانسان ودينه الحقيقي، باغراقه في صور مشوهة عن الدين،
لكي يضيع الدين الحقيقي بعملية" تعويم" بين اشكال مختلفة للدين.

بعد عزل الوزارات عن وظائفها الاساسية، وتحويلها الى مناطق عزل سياسية حسب المحاصصة،
انتقلنا الى العزل بين القواعد العسكرية:
قواعد الجنوب خاصة بسلطة ما،
وقواعد الغرب لسلطة أخرى،
وقواعد الشمال لسلطة ثالثة.

ليس لنظام الفصل أو العزل من حدود نهائية لأنه مشروع أخطبوط يستفيد من دوار ومتاهة وذهول الناس، وانشغالهم بالحاجات، وكما قال عبقري السياسة معاوية بن سفيان عن أهل العراق يوما:
( سألهيهم بقمل رؤوسهم ووسخ جلودهم).

العزل كذلك بين المنظمات والمؤسسات والاتحادات والقنوات الفضائية وفي المدارس بين الجنسين وبين الاحزاب وبين الطوائف، فلكل عشرة كتاب وصحافيين نقابة، ولكل عشرة جنود مؤسسة ،
وكل عشرة أطباء ومهندسين وشعراء وبائعي فرارات جمعية خاصة، ولكل عشرة متهمين حقاً أو باطلاً قضاة ومحكمة وتهمة، وكل مقبرة لها قانون الفصل العنصري الابارتيد الذي يشمل الموتى،
لأن الحياة ــــ كما الدفن ـــ ليست متاحةً للجميع خارج نظام العزل.

عزل الانسان عن تراثه الوطني بسرقة الآثار، وعن ذاكرته بحرق السجلات والوثائق والمخطوطات والمكتبات، وعزل الانسان عن محيطه العربي وتحويله الى نصف عربي، وحتى هذا النصف يجري تقسيمه الى أجزاء:
عربي معتدل، عربي ارهابي، عربي مشكوك في كرياته الحمر والبيض لأن فيها دماء خارجية تسللت في السرير يوما، وكما لو ان هذا الانشطار لم يكن كافيا، فجرى تقسيم المقسم الى عناصر جديدة كما لو اننا في مسلخ للتقطيع وليس في وطن للعيش:
هذا فارسي صفوي، وذاك من مخلفات السلطة العثمانية،
وهذه الجماعة عميلة لنظم الخليج،
وتلك الى نظم الغرب وامريكا،
وهذا الفريق يعمل مع الموساد وذاك مع السي، آي، أيه،
حتى صار المواطن العراقي لا يعرف مع من يتعامل،
وفي أي مكان يعيش وما هي نوع المبادئ التي يؤمن بها،
ومن أين جاء، وأين ذاهب، وما هو المطلوب وغير المطلوب،
وفي أية لغة ولهجة محلية يتكلم،
وماذا يقول لكي ينجو،
وكيف يتعلم الصلاتين لكي يتخلص من الخاطفين،
وأي اسم مناسب لهذا الشارع وتلك البلدة،
وأي الشعارات يردد تحت السلاح ورأسه في الأرض؟

لكن العزل الآخر وهو الأخطر هو العزل الثقافي والفكري بعد العزل النفسي والمكاني والعقائدي والحزبي والمناطقي:
هذا العزل يقوم على الفصل بين الاسباب والنتائج،
بين الحدث اليوم والتاريخ السابق،
بين الماضي والحاضر،
بين الوقائع وبين التهويل أو الطمس،
عزل الحوادث عن السياق العام المتوارث لنظم القمع والاحتلال والنظام المؤسس على قواعد برمجت على نفي الآخر والكراهية والأزمات والاحتقار المتبادل بين الاعراق والطوائف والمدن.

أخطر أنواع العزل هو التفسير الشعري والانشائي لقضايا معقدة ومركبة ومتداخلة،
كما لو العالم فرغ من كل العلوم الانسانية والمناهج ولم يعد غير الانشاء الشعري يحلل كل الظواهر السياسية والصحية والمناخية والزراعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية والحربية كما لو اننا في زمن الكاهن الشاعر والفارس والأمير والطبيب والساحر:

ليس هناك بصورة شبه مطلقة أي تحليل لمجتمع يتآكل ويتصدع ويتداعى بالتدريج في سلسلة منظمة من عمليات العزل والفصل والتقسيم.

كل ظواهر الحياة في العراق معروضة اليوم للتحليل للخطاب السياسي والشعري والانشائي،
واذا كان هناك من يحاول أن يقرأ الكارثة المستمرة من زوايا علوم النفس والاجتماع والتاريخ والاقتصاد والاساطير واللغة والطب والاجناس،
يكون حاله حال من يعزف في مقبرة،
أو يلقي موعظة عن الاصلاح بين لصوص يتقاسمون الاسلاب،
أو يتحدث الى جدران زنزانة.

هناك عزل بين الانسان والمعرفة،
وتسطيح لكل شيء حتى صار العراقي لا يرى الاشياء والحوادث إلا عبر نفق طويل من حواجز من الأوهام والاحلام والتفسيرات المضللة والأعلام الموجه،
والتحيزات والقناعات السائدة،
وكل العوائق التي يسميها علماء النفس الكبار( أنفاق التشوهات) الداخلية التي تجعل رؤية الواقع كما هو مستحيلة.

العزل مستمر في التفاصيل كما في القضايا الكبرى،
تحت القتل والحرب والخوف والرعب:
هناك كيان وانسان وتاريخ عراقي يتداعى بصمت أحيانا وبصخب أحيانا أخرى،
وهناك كيان بديل مسخ يتأسس بصمت أحيانا وبصخب أحيانا أخرى،
وبين الكيانين تتمزق هوية ولغة وتراث وأزمنة،
وتتأسس أخرى بقوة السلاح والتضليل.

في الوقت نفسه " نؤمن" بالمعنى الحرفي أن مشاعرنا هي الحقائق،
وهذا هو نفق التشوه الطويل،
الذي يجعل الرؤية الحقيقية مستحيلة ،
بعد الإدمان الطويل المنظم بالقوة التكرار على رؤية صورنا في مرايا مقعرة،
كما في مدن الالعاب:
نحن نرى المدن والساحات والامكنة والحدائق تتداعى،
لكننا لا نرى التداعي الداخلي،
فهل ينفع الانكار؟

حمزة الحسن

 

01.12.2014

https://www.facebook.com/hmst.alhasn/posts/10152589182667266?fref=nf

 

 

 

 

تنويه / صوت اليسار العراقي لا يتحمل بالضرورة مسؤوليّة جميع المواد المنشورة .. ويتحمل الكُتّاب كامل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كتاباتهم

 

 

الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير  | المرأة | الأطفال | حضارة بلاد الرافدين | إتصل بنا

 

 

جميع الحقوق محفوظة   © 2009 صوت اليسار العراقي

   الصفحة الرئيسية [2][3][4] | أرشيف المقالات | دراسات | عمال ونقابات | فنون وآداب | كاريكاتير | المرأة | الأطفال | إتصل بنا

  

  الصفحة الرئيسية | [2]  [3] [4]  | أرشيف المقالات  |  دراسات  |  عمال ونقابات |  فنون وآداب |  كاريكاتير  |  المرأة |  الأطفال | إتصل بنا       

      

لا

للأحتلال

لا

للخصخصة

لا

لتقسيم العراق

صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة

من الكتاب والصحفيين العراقيين   

 

                                                                  

                                                                             

 للمراسلة  webmaster@saotaliassar.org               الصفحة الرئيسية - 1 -